ما أجمل الأنا لك يابغداد

ما أجمل الأنا لك يابغداد

السبت، 30 يونيو 2007




مايكل جاكسون
الوجه والعنصرية ، وبينهما نرسيس

إلى / خالدة خليل . صاحبة فكرة هذا الموضوع دون قصد منها

أربعة عشر أسبوعا قضاها المغنى الأمريكى -الأسود سابقا – مايكل جاكسون بين أروقة المحاكم وأمام القضاة ،وهيئة المحلفين أخيرا ، التى رأت إجماعا تبرئته من أكثر من عشر تًهم ، لعل أبرزها – التحرش الجنسى بصبى – وخلافه ، وكانت أخباره – المصورة طبعا – تملأ شاشات الفضائيات فى أركان الدنيا ، وهو ماجعلنى أتأمل ملامح الوجه المحاط بمساحيق لا حصر لها من الدعاية والبذخ والرفاهية ، وجعلنى أنظر لصورته الماضية وسط ناسه من الزنوج الأمريكان
فإذا كانت ( تونى موريسون ) الكاتبة الزنجية الأمريكية قد عبرت على طريقتها عن معاناتها من العنصرية البيضاء ، حتى أن بطلتها الصغيرة لم تكن تريد أقل من ( العين الأشد زرقة ) ،فإن ( مايكل جاكسون ) وصلت به المعاناة إلى حد انه لم يرض بأقل من تغيير فعلى لجسده المرفوض بالتدريج ، لكن بالعمق ، فحدود ، حدود التشويه غير شكل أنفه ، شكل فمه ، شكل وجهه ، لون جلده ، شعره ، ولم يترك شيئا لم يرفضه فى ذاته تلك ، وعلى رغم الشهرة التى تمتع ( ويتمتع ) بها ن حتى فى محاكمته على فضائح أخلاقية زًعم ارتكابه لها ، وعلى رغم كونه أسطورة لملايين المعجبين _ لاحظ ترقب المئات منهم يوميا أمام باب المحكمة – لم يشعر بالاكتفاء ، لأنه كان قد احتمى بفنه من أجل الحصول على ما ماكان يتمناه حميمية : أن لا يكون هو نفسه
ما الذى يجعلنا نقبل أنفسنا أو نرفضها ؟
المرآة أداة سحرية عاكسة لكن ما الذى تعكسه ؟
من أرى فى المرآة ؟ نفسى التى أعرفها ؟ نفسى التى أتمنى أن أكونها ؟ نفسى التى يراها الآخر ؟ نفسى التى أكرهها ؟
من أنا ؟ وأى صورة جسد أريد ؟
إن صورة الجسد هذه دائما ، بطريقة أو بأخرى ، مجموع صور الجسد للجماعة ( أو المجموعة ) بحسب مختلف العلاقات المقامة ، والعلاقة مع صورة أجساد الآخرين تتحدد بعوامل المسافة المكانية والمسافة العاطفية والانفعالية
الجمال ظاهرة اجتماعية ، وبالتالى ، فصورتنا الخاصة عن جسدنا وعن أجساد الآخرين هى ظواهر اجتماعية ، هناك تساو بين الصورتين ، ولا يمكن فهم الواحدة من دون الأخرى
الأنا والأنت غير ممكنتين الواحدة دون الأخرى ، صورتنا عن جسدنا مستحيلة من دون امتلاكنا صورة عن جسد الآخر ، فابتكارها يخضع لعملية تبادل مستمرة
هل كان يدرى مايكل جاكسون من هو ؟ يبدو أن صورته عن ذاته لم تكن سوى انعكاس رؤية الآخر له ، لكن أى آخر ؟
المثال الأبيض ، ذو الشعر الأملس ، والبشرة البيضاء ، والشفاه الأقل اكتنازا ، والوجه الأقل استدارة وامتلاء
أنا وأنت ,( الشخصية ) والجسد والعالم ، كلها كينونات مستقلة ، لكن يقوم بينها سياق نفسى دائم ، يغير العلاقة بين الأنا والعالم ، بين الأنا وصورة الجسد ، بين صورة الأجساد لمختلف الأفراد
وبالتالى لم يعوض صوت مايكل جاكسون ولا موسيقاه الصاخبة ولا رقصه ، الحاجة الملحة للحصول على صورة مختلفة لجسده ، صورة تقترب من الصورة المثال للجماعة التى يعيش بينها أو ينتمى إليها ، أى المجتمع الأمريكى عامة ، أراد الحصول على انعكاس مختلف لصورته فى المرآة ، انعكاس لكل ما ليس هو ، لأن صورته المنعكسة لا تمثل الشخصية المثالية فى مجتمعه وفى العالم عامة ، صورته المنعكسة تلك ، والتى لم يستطع الاعتماد عليها وقبولها منذ أن تعلم النظر فى المرآة
علق مذيع مرة فى إحدىالفضائيات قاتلا : ( إن جزءا من الجمهور فيما يبدو لم يعد معجبا بمايكل جاكسون : فهو متراوح بين البياض والسواد ، ليس ذكرا ولا أنثى ، ليس طفلا ولا بالغا ، إنه كائن متغير ، مقلق ومحير ، يثير قلق الآخر ، فهو مختلف ، مختلف عن الأسود الذى كانه ، وعن الأبيض الذى لم يصبحه ، من هو مايكل جاكسون الآن ؟ يكتفى الفنان عادة بإثبات ذاته من خلال فنه ، كما فعل كل الفنانين السود الذين فرضوا أنفسهم ، وجعلوا الآخر ، الأبيض خاصة ، معجبا أو مستسلما لسحرهم ، أو قابلا لفنهم ، أو لذواتهم السوداء أو الملونه ، مكتفين بذلك
اعتقد مايكل جاكسون أن ذلك وحده لا يكفى ، ذلك أن جرحه بلغ مستوى لا يًدرك ولا يًكنه
استخدم ثروته التى حصل عليها من كونه فنانا أسود ، واستخدم التقنية الغربية ذات الطابع الأبيض ، كى يصبح شيئا آخر
بلغ من إيمانه بالقدرة الكلية للجراحة البلاستيكية ، أن باعها نفسه ، بلغ إعجابه المطلق بذاته حدود رفضها وإعادة صياغتها بما يتلاءم مع صورة جماعية يتمثل بها ،
سببت له العنصرية وجها من وجوه المرض النفسى ، عرت وجها آخر للنرجسية لا يتطابق تماما مع حب الذات ، لم يحترم سلوكه حدود الأنا كما هى ، بل عارضها ، مما يعنى أن حب الذات الفائض هذا محدد نرجسيا ، أى أنه مع كونه تأكيدا للذات ، هو هدم لها فى الوقت نفسه
ذلك أن علاقة الجسد بالأشياء لا تتحدد فقط بحسبها ، بل بالمساحة الانفعالية التى تعيد تشكيل علاقة الجسد بالأشياء وبالعالم ، وعملية بناء صورة الجسد تتطلب بحثا دائما لما يمكن أن يًستوعب ويًستدخل ، وحشريتنا تجاه جسدنا ليست أقل من حشريتنا تجاه جسد الآخر ، هناك تناوب بين التلصصية والاستعراضية ، فصورة الجسد ظاهرة اجتماعية ، والاهتمام الذى يحمله الفرد لجسده على علاقة بالاهتمام الذى يحمله الآخرون له ، فلا يمكن فصل الجسد عن التجربة الانفعالية والعاطفية والحسية
فى نظرة نرسيس الى صورته المعكوسة على صفحة الماء ، اتحد الحزن بالسعادة
مايكل جاكسون لم يحتفظ لنفسه سوى بالحزن أمام هذه الصورة المنعكسة على صفحة مرآة اصطناعية _ لا حظوا صورته خارجا برغم تبرئته بالمحكمة - ، وبينما هلك نرسيس لعدم استطاعته الابتعاد عن تلك الصورة المنعكسة ، نتساءل : هل سيهلك مايكل جاكسون للسبب ذاته معكوسا ؟



طوبى لمن يحملون مكبرات الصوت

عندما يرفع بعض الزملاء كاتباً أو فناناً إلى مراتب عالية من يستطيع بعدها أن يُنزله، أو يقنعه بأن ما حدث خطأ عابر يجب أن ينساه؟! من يستطيع أن يُنزله درجة واحدة من درجات السلم الذي وجد نفسه فجأة في أعلاه؟!
حدث مرة أن نشر أحد الكتاب المرموقين كتاباً جديداً، لكنه، بخلاف نتاجه الجدي المعروف، ضمّنه نصوصاً كتبها أيام المدرسة، وربما أيام اللعب ب(الكرة الشراب )، بقصد جمعها وتذكّرها كنوع من النوستالجيا الخفيفة. هو حر في فعلته تلك، ونحن أحرار في ألا ننصاع لأي نزوة عابرة أو هفوة ناشزة، لكن تحت إلحاح صاحبه اضطررت للكتابة عن ذلك (الأثر)، وكان لا بد من أن أكون قاسياً في التعبير، بنص صغير، عن عدم ترحيبي بمستوى ما نشر صاحبنا في دفتر ذكرياته، ما أثار حفيظته ورفع درجة غليان غضبه. وما زاد الطين بلة نَشْرُ موضوع آخر حمّلته صاحبته ما لذّ وطاب من تفاح الأ قوال وفراولة الألفاظ، في ما يفوق نصف صفحة من صفحات الجريدة. وهكذا وجدت في اليوم اليوم الأول من الأسبوع التالى ظرفاً لي يأتينى مع ساعى البريد، يحمل نسخة عن مقالة زميلتنا الطيبة القلب، ومعه عبارات منها: (هكذا تكون الكتابة ويكون النقد الصحيح).
من يقنع صاحبنا بعد ذلك بأنه كان يجب أن يتفادى نشر تلك (الخربشات)؟ بل من يقنعه بأن الزميلة تكتب عن الجميع باللهجة نفسها، وبالحب نفسه، وبالتكريم نفسه، وبأن قلبها الرقيق (لا مكان فيه للسلبيات، فالكلمة الجميلة أفضل)؟
هذا مَثَلٌ ينطبق على العديد من المحترفين والهواة، الذين ما إن تغمرهم بعض الكتابات (الحنونة)، وتشملهم بالرعاية، وتلفهم بآيات المديح التي كثيراً ما يقولها أصحابها في كل مناسبة، من دون أن ينسوا تغيير الاسم بالطبع، حتى ترتفع الأبخرة في رؤوسهم، وتضحك لهم سماء الحظ، ويصبحوا على عجلة من أمرهم... ثم الويل والثبور وعظائم الأمور لكل من يتخلف عن متابعة أخبارهم، وملاحقة أوطارهم، ومرافقتهم بالكلمة والصوت والصورة، وهم يطوفون بنتاجهم بين صالونات المدن والقرى، تحملهم أضواء المديح وبركات الأصدقاء المحبين أنّى حلّوا وكيفما انداروا.
ما بالنا إذاً، لا نحتفي بالكتّاب الجدد والفنانين الشباب؟! نشكك بأنفسنا أحياناً بأننا نمارس صراع أجيال، أو غيرة من الناجحين والمبدعين من خلق الله، وأننا نمشي على غير هدى في نقدنا، نتعثر بالضغائن فيختل توازننا ونسقط من عيون أولئك الفطاحل. ما بالنا، بل ما بالهم؟ مشكلتنا في الكتابة النقدية، أننا نواجه في كل مناسبة المقياس الذي وضعه المتزلفون والمدّاحون ومضخموا القامات، والميزان الذي يستخدمه أولئك الذين يحملون مكبرات الصوت والصورة، رغبة منهم في أن تستخدم نفسها في تكبيرهم

الجمعة، 29 يونيو 2007




المحبة شرط المعرفي


من أراد فعلا أن يعرف شيئا جديدا، فعليه أن يستقبله بالمحبة الممكنة، وأن يصرف نظره عن ما يبدو منه معاديا منفرا ومزيفا، بل عليه أن يتجاهله، وأن يعمل على محوه· كل معرفة جديدة منفتحة في جوهرها على إمكان المحبة وشرطها· فالمحبة تعبير إنساني بكل ما يضمه نص الوجود من مستويات الثوق والشوق، إلى بلوغ أفق الحبيب· ودون المحبة، لا يمكننا أبدا أن نجعل ذلك الذي يبدو في أعين الآخرين قبيحا أو منبوذا في أعيننا جميلا وحسنا·· وهذا ما يحدث حاليا في جميع علاقاتنا بتراثنا الفكري والثقافي، خاصة العرفاني منه، إذ كلما زدنا الابتعاد عنه زادت هوة الجرح التي أتت على جسده في التوسع، ولحظتها يمتنع كل حديث عن هوية متعددة، هوية تعي اختلافها وائتلافها، وحدتها وتوحدها، تباينها وتطابقها·
فالضرورة تلزمنا أن تتراوح حيث أمكنة الآخر الذي مسه الإقصاء والتهميش· إذ في كل فهم للآخر فهم لذواتنا·· هذا الآخر الذي يتخذ من جسدنا سكنى له، ولا يمكننا تحقيق غيريتنا إلا حينما يصبح الأنا أنت، والأنت أنا·· وكل حرية للعقل مرهونة بمدى انفتاحها على إمكانات نص الوجود المليء بالحمولة الانطولوجية··· حمولة تشعره بضرورة هجران الديار، وترك المكان، والالتحاق بعوالم التحاب، عوالم الصمت الأبدي الذي لن يكون في حقيقة الأمر إلا كلاما أبديا على الذات المحبة هجران أماكن الحقد والكراهية، ثقافة أصبح أصحابها يوزعون خطابات العدائية والصدام، وفي مثل هذه الظروف، تضطر الذات الحرة السفر إلى حيث المتاه، إلى أراضي الشرود والضياع في معناه الإثباتي·· وإنك لاتزال مسافرا بقول الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي·· كما أنت على ذلك لا يستقر بك قرار كما لم تزل تسافر في وجود إلى وجود في أطوار العالم·
إلى أين أو من أين أنت مسافرُ وذاك لعمر الله أمرٌ منافرُ
ففيه فسافر لا إليه ولا تكن جهولا فكم عقل عليه يثابر
وهو أي السفر عند أهل الطائفة حال المسافر· والطريق هو ما يمشي فيه ويقطعه بالمعاملات والمقامات والأحوال والمعارف· والمسافر إلى الله لا ينبغي أن يربطه شيء بوطنه الأصلي كهوية في بعدها الايديولوجي، بل يجعل من كل أرض وطنه·· فأينما حل ثَمة وجه الله·· وينبغي للعارف أن يكون لديه شيء من التوجس والنية والرغبة في الاجتياز والعبور، حتما سيتعب، لكن لا يجب أن يتوقف عند مكان دائم، بل الأمكنة كلها تغدو بالنسبة إليه أمكنة للطمأنينة والسكينة، ذلك لأن المكان من الإمكان، يجد فيه المسافر حين يتعب الراحة، التي تحمله في الوقت ذاته إلى التفكير في الانتقال والترحال مجددا إلى مكان آخر·· هكذا هو كل يوم في شأن·· لم يعد من الضروري الحديث عن خارج، إذ وحده الداخل يمكّننا من بلوغ الإمكانات التي يمنحها لنا نص التحاب، إمكانات نستشعر بها عبر حرارة الحرف ولفحات العبارة

الأربعاء، 27 يونيو 2007

من هذيان تحت الاحتلال ..لها



هذيانُ ليلةِ الوأدِ
كلشان البياتى

نبهتني أمي أكثرَ من مرةٍ وقالت: تكلِّمي بصوتٍ مرتفع ليسمعك الآخرون، حبسُ الكلام يولدّ الاضطراب ويؤججُ العاطفة، نهرَتنِي أكثر من مرة وقالت: لا تتكلِّمي مع نفسك، لا يُجدي الكلام والكلمات نفعًا، السكوتُ من الذهب.
الامتناعُ عن الثرثرةِ قناعةٌ توصلتُ إليها بعد الاحتلال، ترسخّت كلِّما التهمَت حرائقُها شيئًا جميلاً حولي: الدماء صبغة أصبحَت تكسو الجدرانَ والسقوفَ والواجهاتِ والبلاطَ والثيابَ والوجوهَ والقلوبَ
غافلني أكثرُ من شخصٍ وأنا أهذي وأثرر بمفردي، مرةً في صالة الجلوس، ومرةً في الحديقة، ومراتٍ عدة في غرفة النوم
همساتُ الآخرين كانت تصلُّ واضحةً إلى أذني: تهذي بشكلِّ غيرَ طبيعي، (الله يُستر)، حالتها من النوع العسير والشائك. لو لازمتها فترة أطول ستصاب بالجنون حتمًا
الخوفُ من إصابة الآخر بالجنون، حالة طرأت بعد الاحتلال. بلاءُ احتلال بغدادَ محنةٌ أرهقَت أعصاب أعقل الناس.
من لا يستطيع الإفصاحَ عما بداخله، ليهذي مثلي، الهذيان نعمة ممكن أن نفقدها طالما أنَّ هناك عدوًا محتلاً جاثمًا على أنفاسنا، على أنفاس أوطاننا . . مَن يسلب منا أوطاننا يسلب هذياننا أيضًا
تطالعُ وجهي ساعاتٍ، وأحدقُّ في وجهِهِا ساعات. لديِّها كلامٌ ترغب في أن تبثَّه لي، ولي كلامٌ أشعرُ برغبةٍ جارفة في أن أنزفهُ، أتقيؤه خارجَ أوعيتي الدموية، شرياني، أوردتي، معدتي، رأسي.
بعد الاحتلال بطونَنا امتلأَت بالكلام
لم نستهلك الكلمات
لم نستهلك الجُملَ والعباراتِ الرّنانة المُشعة القادرة على التأثير.
يُحدق في وجهي ساعاتٍ، وأحدقُّ في وجهِهِ ساعاتٍ. يشعرُ برغبةٍ جارفةٍ في الثرثرة، وأشعرُ أنِّي أختنقُ وأرغبُ أن أتقيأ ما بداخلي من تراكماتِ كلامٍ
لماذا يحدث هذا . .؟
بينَ ليلةٍ وضحاها، صرنا نشتهي الكلام، ومع ذلك لا نستطيع التكلِّم والهمس إلى بعضنا، لم نعدّ ننصتُ إلى بعضنا
يحدقّ في وجهي وتلتقي أعيننا ونتبادلُ الهمسَ والصمتَ والعتابَ والحزنَ
الخرابُ ينتشرُ حولي، والدمارُ حلَّ بكلِّ شىء، والفوضى تصيب كلِّ شىء بينما أهجسُ أني مقبلةٌ على هذيانٍ عظيمٍ
ستهذي هي في غرفتها متأملةٌ مرآتها
وأهذي أنا في زنزانتَي.
وسيهذي هو في صومعتِهِ يطالعُ الجدران
أكررُ جملةٌ واحدة بداية كلِّ هذيان: سيقبل ذلك اليوم الذي تهذين فيه رغمًا عنك، وفي الختام لن يبقى أمامك سوى الهذيان
يرتدُّ صوتي إليَّ بلغةِ الجمعِ لأكتشفَ أني لستُ هاذيةً منفردة؛ لن يبقى أمامَنا إلا الهذيان
أبناءُ الأوطانِ الواقعة تحتَ الاحتلال القسري يمارسون الهذيان لأنَّه آخر الصمتِ، ووجهٌ آخر للصمتِ، وأفضلُ من الصمت.
كثيرًا ما، كنتُ أرددُّ مع نفسي أني سأستفز واضطرُّ إلى الكلام، وسأهذي بما أحب، وبما لا أحب .
الأحزانُ والانكساراتُ المستمرة تعيقني عن الكلام، والهذيان، وربَّما الإحباط واليأس والشعور باللاجدوى تحرضُّني على الصمت، مع يقيني التام أني سأُستفز للكلام وسأقولُ ما لا أريدُ قولَه.
بثَّت إحدى الفضائيات أغنيةً تراثية حزينة ولجَت إلى عمقٍ ناءٍ فى قلبي، وحركَتّ ما في داخلي من شجن، وأيقظت ذاكرتي من غفوةٍ مؤقتةٍ لم أكن أدري متى وكيف وأين ومَن سيوقظها ويُحفزُهّا على نثرِ ما تراكمَت بداخلها من أحداث .
استمعَتُ إلى الأغنية بأذنٍ صاحيةٍ وواعيةٍ لأنِّي كنتُ أعاني أيضًا مزاجيةَ أذني (أسمعُ ما يعجبني، ولا أسمع ما لا يعجبني).
انتهَت الأغنية وظلَّت نغماتُ الموسيقى وإيقاعُها وصوتُ المطرب متواصلاً في أذني. هيجَّت اللوعةُ والأسى ونقلتني إلى حالةٍ من الإغماءة والغياب عن الوعي والذات، وكان لابدَّ لي من أن أثرثرَ وأهذي لأنعمَ بالراحة والسكينة.
رحتُ أدمدمُ مع نفسي مقاطعَ من الأغنية كانت أكثرُ التصاقًا، سرَت في الرُّوح مثلَ جريان الماء في النَّهر.
لاحقًا، بعدَ أن خفَّ تأثيرُ النغمة وتلاشى كلِّيًا، حرضَتّ على الثرثرة من خلال هاتفٍ سماوي زارني وأنا بينَ اليقظةِ والنوم
حثَّني الهاتفُ على الكلام والبوح والسرد والهذيان، وكنتُ قد قررتُ بيني وبين نفسى أن التزمَ الصمتَ وأصومَ عن الكلام المباح وغير المباح، مع أني لا أستطيعُ التوقفَ عن الثرثرةِ والهذيان والضجيج فحولي مريبٌ ومقلق، وصوتُ الطائرة المزعج وهي تمر مسرعةً من فوق سماءِ البيت، أصواتُ القنابل وهي تتساقط مثلَ المطر، والحجر على رؤوسنا بين الفينة والفينة، صوتُ طفلٍ رضيع وهو يصرخُ قربَ أذني، صوتُ أمي وقريباتها وهنّ يتحدثنَّ ويثرثرنَّ عن استقرار حياتِهِن قبلَ الغزو، لغطٌ هنا وهناك
ثرثرتُّ لكن في الظلام، لأن الثرثرةَ والهذيانَ في الظلامِ والعتمة فيهما قوةُ الصِّدق ودقةُ التعبير
في الحرب الصمتُ حالةٌ بدهية جدًا، لكنَّ الثرثرةُ أكثرُ من طبيعية ومعقولة في الوقت عينه
الناسُ حولي يثرثرون بشكلِّ غيرِ معقول، الكلام والمقالُ أصبحا ثرثرةً ولغطاً في الهواء كأننا نكلِّمُ أنفسنا ونهذي لأنفسنا، ولم يعدّ أحدنا يسمع وينصت لآخر، لم يعدّ لأيٍّ منا آخر
انطفأت الكهَرَبَاءُ وتفرقَ شملُ الأسرة، وانتَشرَ الأفرادُ في أماكنَ متفرقةٍ من البيت. في الظلام، تكونُ غرفُ النومِ المكان الأكثرُ جذبًا وإثارةً للدهشة
بعدَ الاحتلال، أحبَبنا البيوتَ أكثر كأننا خفنا من أَن نفقدَ هذا الوطنَ الصغير الذي يلمّنا بداخله . . تحبُّ والدتي مطبخَها الصغير وأدواتُ الطعام، ولاسيَّما أواني الخزف وأطباق الرز التي كانت تبتاعها من الصبية الذين يترددون إلى الإحياء السكنية مقابلَ حفنةَ سكرٍ أو دقيقٍ أو عدسٍ (تموينَ سنواتِ الحصار). وكان والدي مشدوهًا إلى حديقتِهِ الخضراء التي زرع ورودها وردةًً وردة، ونبتةً نبتة، بينّما أعشقُ أنا صالةَ الجلوس.
منذُ بدءِ الحربِ والاحتلالِ صارَ الظلامُ عاملَ تفريقٍ، والنورُ عاملَ لم َّالشملِ، يُحشرُ الأفرادُ داخلَ الأمكنةِ المغلقة، يجتمع شملُ العائلة داخلَ صالةَ الجلوس، المكانُ الأوسعُ والأشملُ والأكثرُ انفتاحًا في البيت، يسَعُ وجودَ القدرِ الكافي من البشر، أجسادًا وأفكارًا، في محيطٍ هادئ وصاخبٍ في الآن ذاته . .
الشاشةَُ الفضية تجمعُنا حولَها كما تجمعُ كومةَ حطبٍ محترقةٍ حولَها الملسوعون بالبرد والجياعّ في ليلِ شتاءٍ قارس.
تمددَتُ فوقَ الأريكة وغابَ ذهني بضعّ ثوانٍ فقدَت خلالها حقيقةَ وضعي
هناك من ينشلُني من وضعي ويسلِبُ ذهني ويقودُني إلى حالة من الإغماء
هل غرقتُ في النوم وأنا جالسةُ، أم أنني بقيتُ يقظةً غائبةً عن الوعي
ربَّما كنتُ نصفَ يقظة، ونصفَ نائمة.
لستُ أدري . . لن أستطيعَ أن أحددَ
تنطفئُ الكهَرَبَاء، نضطرُ إلى النومِ، إلي الصمتِ، إلى غلقِ المنافذ والأبواب.
اللصوصُ يحبونَ الليلَ ويفضلونَ الظلام
جنودُ الاحتلال ينتعشون في الليل ويفضلونَ الظلام
والعشاقُ ينتعشون في الليل
وأنا، مثلُ الآخرين، لم أعد أميزُ الليلِ من النهار.
تحتَ الاحتلال، لا يختلفُ الليلُ عن النهار كثيرًا فالعينُ ترسمُ ظلالاً قاتمًا لكلِّ الأشياء.
كثرةُ الخوفِ والرعبِ يجعلانك تمتلكُ قوةً أكبرَ لمواجهة الخوفِ . . لكي لا تشعرَ بالخوف عليك أن تخافَ مراتٍ عدة، وتخافَ بقوةٍ، وعندَها تشعرُ بأنَّ الخوفَ زال منك وصرتَ شجاعًا جريئًا
الغزو وليالي الاحتلال منحاني همًا بثقلِ الجبال وعلوها.
منذ الغزو، وبدءَ مداهماتِ البيوت واعتقالِ الرجالِ والنساء عشوائيًا، وأنا لا أنامُ نومًا متواصلاً. أنامُ بقلقٍ وتحتَ وسادتي مسدسٌ أسودٌ صغير اقتنيته من إحدى العربات التي كانت تبيعُ حاجياتٍ وألعابَ أطفالٍ على أرصفةِ (الباب الشرقي) لأشهرَهُ في وجوهِ من سيقتحمونَ المنزلَ في ساعاتٍ متأخرٍةٍ من الليل. في الظلام، لا يستطيعُ أذكى جندي أو لصٍ أن يميزَ مسدسِ طفلٍ من مسدسٍ حقيقي، وأخفي تحتَ السرير، أيضًا عصًا من الخيزران و(مقيار)، ويفعلُ الشىء ذاتَهُ بقيةَ أفرادَ العائلة
مثلُ المحاربينَ القدماء، فرسانَ المعارك والحروب، أنامُ وأنا متهيئةً لمواجهةِ أيَّ موقفٍ طارئ . . أنامُ كما ينامُ الفرسانُ، بثيابِ القتال وأكفُهم على الزناد. لم أعد أرتدي قميصَ النوم أو (جلابية) البيت، أنامُ بثيابِ العمل ذاتِها
العراقيون، على الأغلب يفعلون الشىء عينَه في منازلهم وسياراتهم ومحالِهم التجارية، لحمايةَ أنفسهم من اقتحامٍ مفاجئ من لصوصِ الليل أو جنودِ الاحتلال الذين يقتحمون الأبواب ويفجرونها بلغمٍ أو يهشمونها بالمدرعة أو الدبابة.
ربَّما كنتُ نصفَ نائمة، وربَّما نصفَ يقظة، كنتُ انتشلُ من نفسي وأتهيأ للثرثرة في الظلِّ
أنا أُستفز بطريقةٍ ما على الكلام
تحتَ الاحتلال، لن تستطيعَ أن تنامَ ملء عينيك، ولن تستطيعَ أن تبقى يقظًا طوالَ الليلِ والنهار، ولن تستطيعَ أن تثرثرَ بكاملَ إرادتك؛ ستجدُ دائمًا رقيبًا يتحكم فيك.
بينَ اليقظةِ والنوم وحالةَ الوعي واللاوعي كان هاتفًا ما قد جاءني ونزل عليّ كنزولِ الوحي على الأنبياء والرُّسلِ وحرَّضني على الهذيان والثرثرة. أرغمني على الكلام والبوح. طلب منِّي أن أتكلِّمَ وأهذي وأسّري وأصرخَ وأسردَ وأدوِنَ وأوثقَ كلِّ ما في داخلي من أحداثٍ ووقائعَ حصلَت ليلةَ احتلالِ بغدادَ
أسردُ وأحكي وأنزفُ كلِّ ما لديّ خلالَ ومضةِ الذاكرة وشعلةِ الوعي الجديد الذي تلبسنّي، على أن لا أكذبَ، ألا أختلقَ، ألا أفتعلَ أحداثًا، ألا أضيفَ كلِّمةً، أو واقعةً، ولا أنسى حدثًا عابرًا، ولا أتغاضى عن موقفٍ
أهذي، ولكن بشروط أيضًا
لمن أسردَ . .؟؟؟.
لمن أهذي . .؟وأنا مثلُ الببغاء؟. لا أتوقف، أهذي بتواصلٍ عجيب
سأهذي، وفي الختام، لا أملك إلا الهذيان
هل بقي من يسمع . .؟. هل بقي من ينصت . .؟. ألم يصب سكان الأرض بالطرش؟ ألم تعمى العيون والأبصار . .؟، لم تصبحُ وظيفةَ العيون البكاء، ووظيفةَ الأذنين السماع بمزاجٍ: أسمع ما يعجبني، وما لا يعجبني لا أسمعه . .؟.
من يسمعني وينصت لي في هذا الوقت، والكلِّ يشكو من مزاجيةِ أذنيه. من يمسحُ الجراحَ ويوقفُ نزيفَ الدم والموت والدمار عن الشوارع والأحياء والكنائس والمساجد، والعمارات الشاهقة العالية، عن الدور الصغيرة، وعن القصور الفخمة، عن الأرصفة والمتنزهات، وعن ملاعب الأطفال، وعن المدارس، وعن القاعات الرياضية، عن السيارات والعربات التي يَطالها الموتُ والدمار
المحتلُّ، مثل الموت، لا يستثني أحدًا
مَن أنتَ أيُّها الهاتف؟ . . صوتُ من أنتَ؟، ضميرُ من أنتَ؟ . . مَن الذي صحا من الغفوة العميقة والسُّبات العميق وقررَ أن يستمعَ وينصت . . ؟.
مَن الذي استعار ضميرًا حيًا وأذنًا حيةً يستلم المعلومات بتلقائية من دون المرور بآلة تجهيز الكلام المسموع ؟.
أجاء الوقت لأتحدثَ ولأهذي وأصرخَ وأُفرِغَ ما في جعبتي من كلامٍ وكلمات ؟
هل آن الأوان لأتكلِّم أنا ويسكتَ الآخرون؟، أهذي أنا ويصمتَ الآخرون؟ . . هل حان الوقت لأكسرَ طوقَ صمتي وأفتتَ حصاةَ الكلام من حنجرتي؟ . . كلامي يختلف عن كلام كلِّ البشر لأنِّي سأتكلِّمُ بلغةٍ مبتكرةٍ حديثةٍ لن يفهمها أحد ولن يسمعها أحد . . ليس بلغةِ الرموز والشفرة والألغاز لأنَّها ما عادت عصّيةً على الفهم
ماذا تريدُ مني؟ . . ، لماذا تريدُ أن تفتحَ جراحي وتثقب أحشائي وتفرغّ ما في جعبتي من ذكرياتٍ مؤلمة وأوجاع وأحزان لن تندمل . . ؟.
لمن سأسردُ، ومن ذا الذي سيستمعُ إلى قصة كلِّ ما فيها من أحرفٍ وكلمات وأحداثٍ تدفعُ إلى الحزن والآلام والبلاء والموت البطيء حسب المزاج
لمن أهذي، والهذيان طريق التائهين ؟. .
تحدثي للمرايا، لأوراق، لوجوه الدمى، للميكرفون، للجثث والأجساد الميتة الذائبة .
ثرثري في أذن الأرواحِ الغائبة التي تطوف في العتمة بحثًا عن الراحة
ثرثري للكائنات التي تنشدُّ السلام.
المهم أن تثرثري والظلام ينشرُ حولك عتمةً وطمأنينة تفتقدينها، والنورُ يتسربل متدرجًا من قرصِ الشمسِ الدائري.
لا تجهشي بالبكاء والنحيب، ولا تلوذي بالصمت وأنتَ تسردين الأحداث. دعي صوتَك واضحًا قادرًا على الجلجلة، مؤثرًا في الآخرين، إسردي بصدقٍ من دون انفعال . لك الحديث الآن: ثرثري كما تشائين فلن يسمعَك أحد، سيرتدُّ صوتَك إليك مثل الصدى
اسمعي يا أنتَ !.
تحدثي معي كما تتحدثين لحبيبٍ يوسدُ رأسَهُ على صدرك وتُلاعبُ أصابعَك شعرَهُ. أليست هذه الطريقة المفضلة للنسوة في سردِ أحداثٍ لأحبةٍ، للحصول على هبةٍ، أو التأثير فيه لأمرٍ ما . . سأضطجعُ على عشبٍ أخضر ورأسي يرقدُ على صدرك وأسمعُ منك
أخبري الزمنَ واسردي له كلُّ ما في جعبتك من أحداثٍ تُشغل بالك وقلبك وتعكرُ صفوَ روحَك. أنتِ صوتُ الشهداء، والمعذبين، والجياع، والمتألمين، والمتضررين من ويلات الاحتلال
بدأتُ هذياني المشروط:
سبعةُ ليالٍ، تسعُ، عشرُ، عشرون، سبعون ليلةً قبل الاحتلال
وسبعونَ ليلةٍ، ثمانون، مئة ليلةٍ بعدها، أعلَنَت الطبيعةُ الحداد في بغداد . . ونطقَت بما لا ينطقه بشرٌ، باحَت بما لم يبُح به لسان.
صامتٌ عن الصمت، والصراخ، والكلام، والثرثرة، والتكبير، والبكاء، والنحيب، والاحتفال، والهذيان، والابتهاج بالمسرات
الشَّمسُ امتنعَت عن الشروق والغروب، فلم تشرق ولم تغرُب احتجاجًا، حجبَت عطاءها الفني والتقني عن البشر والكائنات الأرضية. لم تبث حرارتها لتطردَ البرودة القارصة المهيمنة على الأجساد. عندَما ترتفعُ درجةَ حرارة الحزن في القلب تزداد البرودة وتتصاعد، الحزنُ يولدُ الإحساسَ بالبرودة والجوع والوحدة
والشَّمسُ استكانت إلى الصمتِ والصلاة حزنًا، فلم ترسل ضوءَها وهجَها لتزعزعَ الظلام من الأجواء الكئيبة، الباردة .
ليالي بغداد ونهاراتِِها الحزينة كانت باردةً، مظلمةً، هشةً. سماؤها تمطر ترابًا بلونِ الأحزان والأوجاع والخراب ودماءَ ضحاياها
شوارعُ بغدادَ وأحياؤها الرهيبة المكتظةُ بالسكان وحشرجات البشر والناس، بدَت فارغة. لو كنتَ قد بحثتَ عن نملةٍ لم تكن تجدُ لها أثرًا
الترابُ القاني يكسو ملامحَ الوجوه فاقدةً الرغبةَ للحياة، ترابٌ أحمرٌ بلون الدم يكسو عشبَ الحدائقِ فيسرقُ منه بريقَ الخضار. ترابٌ أحمرٌ قاني يكسو ترابَ الأرضِ، وواجهاتَ المباني، وأعمدةَ الدور، والأسلاك الشائكة، ويغطي وجوهَ التماثيل وذيولَ الكلاب، وأذان القطط، وفروةَ الخرافِ المائعة في المراعي الجرداء. عمائمُ الرجالِ في المدينة صبغَت بلونِ الترابِ وحمَلَت كومةَ ترابٍ، وجوهَ الجدران والأبنية معفّرةً بترابٍ أحمر، تمامًا، كما كانت بعضُ النسوة تعفرنّ وجوههنَّ وأيديهنَّ بالطين حين يفقدنَ زوجًا أو ابنًا، في حادثِ موتٍ مفاجئ .
أصدقُ مشاعرَ الحزنِ أو الغضب، هو ذلك الذي تعبر عنه الطبيعة الصماء ، وأصدقُ القلقِِ قلقَ الطبيعة، فهي التي تمارسُ احتجاجها بقدسيةٍ أكثر ،
ضوءُ الشَّمس باهتٌ، ضوءُ القمر في الليل خافتٌ قرمزي بلون الدم ، تيارُ الكهَرَبَاء لا ينيرُ طرقاتَ المدينة وأحيائَها الحزينة، الكئيبة، الباردة، المظلمة.
(تزعلُ) الشمسُ فتحجبُ نورَها وحرارتَها ووهجَها وأشعتَها المتموجة الذهبية
تحتجُ الغيمةُ فتحجبُ المطرَ وترسلَ رذاذَ ترابٍ تنثره على رؤوسِ البشر، والزهر، والطير، والنبات .
تعارضُ العواصفَ فتكفَّ عن الصُّراخ والزعيق . نيسانُ موسمُ تساقطِ الأوطان والأحزان والمصائر والذنوب والخطايا . 9 نيسان (يومُ وأدِ بغدادَ)، يومُ الموتِ الكوني للطبيعة في بغداد، يومُ ذبولِ القلوب والعقول والأجساد.
الشتاءُ موسمُ الذبول والبرد الذي لا يأتي تضامنًا . الصيفُ موسمٌ للتسكع في شوارعِ الآخرين هَرَبًا من أكداس الهموم والأحزان .
للآلهةِ تماثيلٌ تنهارُ فور زوالِ الأوطان والمصائر على يد الغزاة.
تماثيلُ الملوك المتناثرة في طرقات المدن وزواياها تكفُّ عن سرد أمجاد المملكة المنهارة .
في الليل، الذي يأبى أن يكونَ ليلُ السقوط، أرددُ وحدي مثرثرة:
البكاءُ فنٌ، والنواحُ فنٌ، والحزنُ صناعةٌ وفن، والصَّبرُ على بلاءِ احتلال وطن، فن .
هزيمةُ الحزن فنٌ .
وهزيمةُ الانكسار فنٌ .
وممارسةُ الحبِّ في ليلة احتلال وطن، فنٌ.
أهذي في سري بصوتٍ غيرِ مسموع :
في ليلةِ أحزان الأوطان، الوحدةُ تسودُ وتعمُّ، الشرُّ يعمُّ، والآلام تعمُّ، يفترقُ شملُ المجتمعين ويتشتتَ شملُ المتوحدين .
أطلقُ، في عنانَ الذاكرةِ المهشّمة، كومةَ أسئلةٍ لا أعرفُ لمن . .؟. مَن يتلقى أسئلةً ميتةً لا أجوبةَ لها في جعبةِ الأوطان وخزائنِها، حينَ تسقطُ على غرةٍ من الذاكرات والأذهان والبصائر.؟.
علِّمني أيَّ شىءٍ يَهزمُ الحزنَ . .؟.
أيَّ شىءٍ يهزمُ الانكسارَ . . السقوطَ . .؟.
حزنُ ليلةِ احتلال بغدادَ ، ولوعةُ ليلةِ احتلال بغدادَ، وانكسارُ ليلةِ احتلال بغدادَ . ليلةُ بثِّ الملاماتِ والعتابِ والحرائقِ من الصدور، ملامةُ المنصور، والرشيد وجواريه وغلمانه، ليلةُ عتاب السندباد وأصدقائه التجار في جزرِ الهندِ والجزيرة، عتابُ أميراتِ بلاط الملك الشهريار وشهيداتُ انتقامه وثأرِهِ.
في لحظةَ صمتي، ونَوحي، وبُكائي، وثورةَ غضبي، وثرثرتي. كنتُ أسمعُ من ينهرني دائمًا ويؤنبَني بقوةٍ ويهددُني ويتوعدنّي:
لا تذكري كلِّمةَ السقوط . تمامًا مثلَّما تفعلُ الأمهات حينَ يؤنِبنَّ طفلاً شقيًا على عدم التلفظ بكلمات بذيئةٍ لأنَّها تخدّش الحياء .
كلِّمةُ السقوط بذيئةٌ جدًا، لا تستعمليها أبدًا
الأوطانُ العظيمةُ لاتسقطُ
التماثيلُ الحجرية والخشبية تسقطُ
هبلٌ يسقُط، آلاتٌ تسقُط، أصنامُ مكةَ تسقُط حياء من الخالق
الأوطانُ العظيمة مثلُ بغدادَ لن تسقطَ
ألفُ صوتٍ ينهرني، وينهاني، ويلومني
بغدادُ لن تسقطَ . .
من بينَ الأحزانِ والمواجعِ واللواعجِ ينهضُ المنصور مبتهجًا، بشوشًا، لِيُصَّرحَ قائلاً: بنَيتُ لكم بغداد، لِتتصارعَ الأرضَ مشرقًا ومغربًا، من أجلها
هل نهرَتنِي أمي . .؟.
تقولُ: لم أفعل. عنيدةٌ لا تنصتين إلى الكلام.
شخصٌ ما ينهرني دائمًا وأنا أنوحُ عاليًا أو أنوحُ بصمتٍ وأثرثرُ:
بغدادُ لن تسقطَ
بغدادُ وُلدت لتكونَ سيدةَ المدنِ
ملكةً متوجّةً على عرشِ المدنِ والأمصارِ
لبغدادَ دائمًا منصورُ يُحررّها ويَبنيها.
في الليلة تلك نشطَت ذاكرتي في الوقت الذي رَكدَت فيه الذاكراتُ كلِّها في بغداد . . بعضُها تصلبَت، وبعضُها انصهرَت، وبعضُها ذبلَت وتجمدَت، وبعضُها هذَت وثرثرَت، وذاكراتٌ كثيرةٌ انفجرَت مثل السيارات الملغمة التي سمِعنا عنها بعدَ ألفَ ليلةٍ وليلة من احتلال بغداد
أكثرُ الجنودِ قتلاً من بينَ صفوفِ القتلة، هم الذين قُتِلوا بسبب ألغامِ الذاكرات الإنسانية
بعضُ الأفراد ألغوا ذاكرتَهم ، والبعضُ الآخر طَوقُوها بأسيجةٍ ومنعوا الأفكارَ من الوصولِ إليها.
الكثيرون استورَدوا ذاكرتٍ وصادَروا ذاكرتَهم المحلية
ذاكرتي هي الوحيدةُ من بينِ ستٍ وعشرين مليونَ ذاكرةٍ صحَت وتفاعلَت، وهذَت.
ووجدَت سبيلاً لتجاوزَ صدمةَ الليالي الأولى . . ليالي ماقبلَ الاحتلال، وليلةَ تأكيدِ الاحتلال .
مالا تنساه ذاكرتي أبدًا . . آخر ليلةٍ ما قبلَ الاحتلال المؤكَّد . . الليلةَ المؤكَّدة والمُعرَّفّة من بينِ ليالٍ قليلةٍ مجهولة.
في تلك الليلةِ تحديدًا، استعنتُ بالحبِّ لتجاوز المحنة، واستعَنتُ قبلَها بالصلاة، والذِّكر، والابتهال . داهَمني الحبُّ، وكان ألم الاحتلالِ قد بدأ، ثم كبرَ ونما، وتلاشى أخيرًا عندَما شرعَ قلبي يخلعُ عنه الهلعَ من سقوطِ وطنٍ، ويرتدي ثيابَ متعةِ الحبِّ، ويجترعَ كأسَ نشوةِ ولادةِ عشق بدلاً من ارتشافِ فنجانَ قهوةٍ مرّة أو كوبَ شاي غيرَ محلىًّ نتيجةَ سقوطِ وطنٍ وسقوطَ مصائرَ .
لم يعلِّمنّي أحد، لم يلقنّي أحد، لكنِّي توصلتُ إلى: عندَ احتلال الأوطانِ واستباحة الغزاةِ لها، يجب أن تكونَ مهيئًا لِتحبَّ، لِتعشقَ، لِتموتَ بإرادتك ولِتمارسَ أحلى أنواعِ الجنون. مهيئًا لاستقبالَ الحبِّ. فالحب سقوطٌ بطريقةٍ غيرِ مدروسة في نشوةِ ألمٍ فيه لذةٌ.
نصحتُ كلِّ مَن حولي، وكلُّ من التقيتُ به قبلَ تلكَ الليلةَ، وفي الليلةِ ذاتِها . . وحرضّتهُم على الحب: ابحثوا عن أحبةٍ وارتموا في أحضانِ هواهم حتى وإن كان زيفًا، أو وهمًا، أو صنعًا من ابتكار الخيال. فكل مَن سلكَ هذا الطريق نجا من الانكسار والسقوط.
مَن لم يجد حضنًا دافئًا يرتمي فيه، بكى .
بكى رجالٌ أقوياء، أشداءٌ، وكشّروا الأنيابَ عن ضعفِهِم، وسالَت دمعتٌهُم على الخدّ. منطقُ أن الرجالِ الأقوياء الأشداء لا يبكون هزيلٌ، والامتناعُ عن البكاءِ انتحارٌ
وليلةُ احتلالِ بغدادَ حزنَت النساءُ المؤمناتُ ولطَمنَّ على الخدودِ والصدور ، وامتنعَ الأطفالُ عن الضحكِ واللعبِ واللمزِ
صمتُ الملوكِ، والحاشيةِ، والأمراءِ، والخلفاءِ، والوزراءِ، والجنودِ في أصقاعِ الأرضِ كافة، حتى في البلاد التي يجهلُ سكانُها معنى بغداد وموقعها على الخريطة، لكنهم يعرفون سندباد تاجرَها الشهير، ويعرفون علي بابا والأربعين حرامي، ويعرفون بغدادَ من لياليها الألف ، وبكَينا تعاطفًا .
ليلةُ احتلال بغداد بكى مَن بكى، واحتجَّ من احتجَّ، وصمتُ ناسٍ وحزنُ ناسٍ وثرثرةُ ناسٍ، وهذيانُ ناسٍ. وشهَّر كثيرون السيوفَ والأسلحةَ وقرروا المقاومة، واستسلم آخرون لليأس والقنوط.
وأحببتُ أنا
واكتشفتُ أني أحبُّ، وأهوى، وفي قلبي عاشقٌ
واكتشفتُ أني عاشقةٌ متمرسةٌ، خطرة.
واكتشفتُ أني أحتاج إلى الحبَّ في مثل هذا الوقت بالذات .
وأني ظمأى إلى الحبِّ، والى البكاءِ، والضحكِ، واللعبِ، وإلى ألمٍ حقيقي يهزّني من الأعماق.
عندَما يكونُ الوطنُ مستقرًا وآمنًا . لا تحتاجُ إلى شىء.
بل لا تشعر بطعمِ (ممارسة) في حياتك
تلعبُ بشكلِّ طبيعي، وتشرَبُ بشكلِّ طبيعي، وتهذي بشكلِّ طبيعي.
تحتَ الاحتلال، تشعرُ أنَّك تريدُ أن تمارسَ كلِّ شىء وكأنَّك لم تمارس أيَّ شىء قبله . . لم تقم بأيِّ فعلٍ. الشهيةُ تنفتحُ للحبِّ، للطعام، للعناقِ الطويل، للسُّكرِ، للغناء، للبكاء، لطبعِ القُبل على الخدودِ والأكف. كأنَّك لم تحب، لم تلعب، لم تغنِّ، لم تشتم، لم تهذِ لم ترتمِ في حضنِ أحد، وتجهشَّ بالبكاء على صدرٍ عزيز ، لم تشعر بقيمةِ الأب ، لم تشعر بأهميةِ وجودِ حبيبٍ في حياتك
صدمةُ احتلالِ بغدادَ تحتاجُ إلى صدمةٍ كبيرة بنفس الحجم والثُّـقل، صدمةُ حبٍّ قاسيةٍ من جانبٍ واحد
حزنٌ قوي يحتاجُ إلى سعادةٍ قوية، ودهشةُ حزنٍ تقابلها، دهشةٌ مسرّة، معادلةٌ رياضيةٌ منطقية
لماذا لا تحبني . .؟
أنتَ واحد، وأنا واحد، والحبُّ سيجمعنا ونصبحُ اثنين ونكونُ قادرين على تحملِّ صدمةٍ احتلالِ الوطن
الحربُّ معادلةٌ رياضيةٌ غيرُ منطقيةٍ، والحبُّ منطقٌ وفلسفة
معادلةٌ بسيطةٌ جدًا :الغزاةُ سيهزمونك إذا رفضتَ عَرضي.
أحبنًّي كي لا تهزمَ
وأنا لن أهزمَ وأنتَ معي
فكرتُ مع نفسي ووحدي كثيرًا قبلَ أن أصارحَك وأطلبَ منك أن تحبَني لنشكلِّ اتحادًا وائتلافًا ونقاومَ معًا حزنَ احتلالِ بغدادَ واحتلالِ مصائرَ
نسيانٌ أو تجاهلٌ، أو إهمالٌ؛ حبُّ وطنٍ يحتاجُ بالمقابل إلى حبٍّ بالقوة والحجمِ والثـُّقلِ نفسِهِ
بداياتُ المصائبِ والكوارثِ هي القاسيةُ دائمًا
والليالي الأولى هي القاسيةُ والمؤلمة.
وبعدَها يخفَتُ الألمُ شيئًا فشيئًا ويتناثرَ في أرجاء الجسم ويتكيفَ مع الحالة
أولى ليالي احتلالِ بغدادَ انشغلَت بكَ ونُسيَتها تمامًا، ونُسيَت أنَّها سقطَت في يدِ الغزاة وأنَّها دُمِرَت ونُهِبَت وسُلِبَت
انشغلت بك وركنت بغدادٌ إلى عمقٍ ناءٍ من قلبي، وفي زاويةٍ قصيةٍ من صدري، وحرفٍ منها على مؤخرةِ لساني، ولها صورةٌ مشوشةٌ في ذهني .
تلك الليلةُ القاسية، المرعبة، الهادئة، الصاخبةُ المليئةُ بالضجيج، الصامتةُ حتى القرف، كانت نهايةَ كلِّ شىء وبدايةَ أيَّ شىء ، لم تسِل دمعةٌ، لكني بعدَها بكيتُ. كنتُ أبكي عشرساعاتٍ وعشرةَ أيامٍ وأسابيعَ حينَ لا تتصل بي هاتفيًا وتنقطعَ همسةَ صوتِك عن أذني وتغيبَ عني بعض الوقت
منى
اسمي منى وهو الذي اخترتَه لي ليلةَ السطو على بغداد وليلةَ ابتدأ حبُنا. بل ليلةَ اكتشافِها. قبلها كنتَ تناديني ايمان، ويعرفُني الناسُ وينادوني باسمٍ آخر لم أعد أذكره . سحر، رباب، سلافة، علا .
في الحربُّ تحتاجُ إلى أكثرِ من اسمٍ، وتتقمصَ أكثرَ من شخصية . . ويكونُ لك أبٌ احتياطي، وبيتٌ احتياطي .
نسيتُ تفاصيلَ حياتي قبلَ احتلالِ الغزاةِ بغدادَ والمدنِ التي أترددُ إليها، وكانت هي مفكرتي وذاكرتي التي لا استغني عنهما . . فعندَما سُلِبَت مني أماكنُ وجودي وإقامتي، سُلِبَت مني ذكرياتي وطُلِبَ مني أن أجدَ اسمًا آخر، وابحَثُ عن أبٍ، وعن عشيقٍ، وعن بيتٍ، ودفاترَ، وحقائبَ سفرٍ، ووجوهِ بشرٍ. انشغلتُ الليلةَ الأولى، أهيئ ذهني لاستقبال ذكرياتٍ طازجةٍ .
استباحَ الغزاةُ بغدادَ ومدنَ أخرى كانت حبيباتي. . كلٌّ مدينةٍ عراقيةٍ تعني لي شيئًا في قاموس الحياة. كلُ مدينةٍ لي فيها ذكرى وألمٌ وحبٌّ . كلٌ أرضٍ تطأها قدمي أو تلامسُها يدي هي من ضمنُ ممتلكاتي واهتماماتي . لكنَّها استبيحَت وأخذت مني، لكن من دونَ تنازلٍ .
لم أعد أملك مدينةً في الوطن، ولا أملك شبرًا من الأرض، ولا أملك بابًا، ولا نافذةً، ولا شرفةً، ولا مرآبَ سيارةٍ، ولا سقفًا، ولا جدارًا أعلقّ عليه صورتي وصورةَ من أحبُّ .
لم أعد أملك حتى الذكرى .
سُلبَت مني رأسي، وذاكرتي، وذهني . .
وسُلِبَ مني اسمي، ومنى اسمٌ أطلقتَهُ أنتَ، وهو اسمٌ فتاةٍ أخرى كنتَ على وشك (أن تُحبها) لكن الغزاة استباحوا بغدادَ فسقطَ حقُك في مواصلةِ حبِّك وكان عليك أيضًا أن تبحثَ عن حبٍّ آخر واسمٍ آخر وتجدَ لك بينَ الآلاف من الآباء التائهين أبًا يناسبُ ميولك وهواك .
وبحثَ أبي عن ابنةٍ أخرى له واخترتُ أنا أبًا آخر لي، ووجدتَ أنتَ أبًا يناسبك ويرضي مزاجَك ، وانشغلَت بغدادُ في ليلةِ استباحتِها وسطوِ الغزاة عليها تهبُ آباءً لابناءِ وتُرتبُ أبناءً لاباء.
قال سالم، الذي كان يعاني في سنواتٍ سابقةٍ انفصام قوي في الشخصية: لا تبدلوّا آباءكم وتأتوا بفاحشة عظيمة .
وسالم وحدَه احتفظ باسمهِ واحتفظَ بأبيهِ واعترفَ الأطباءُ والمصحّات النفسية أنهُ شُفِيَ تلقائيًا من دونَ أخذ عقارٍ طبي أو أيَّ علاجٍ نفسي آخر .
وفي الوقت ذاته .صرَّح الأطباءُ في المصحاّت وعياداتِ الطب النفسي: شُفِيَ مجنونُ واحد واستردَ عقلَه بينما فَقَد الآلاف عقولَهم.
هذه هي الحربُّ . .
وهذا هو انجازُ المحتل.
إعادةُ عقولِ المجانيين، وسلبُ عقولِ العقلاء
اسمك مثنى
وأناديك كلِّ ساعةُ بسسم
وتطلقُ على نفسِك كلِّ ساعةُ اسمًااعترضتَ أنتَ ، وعندَما اعترضتُ أنا، أشهروا (فيتو) فوق رأسي .
لا احتجاجٌ، لا اعتراضٌ، لا جدالٌ .
قال جنديٌ أمريكي محتَّلٌ وهو يوجه رأسَ سلاحِهِ باتجاهي: لا تعترضي، نحنُ مَن يمنحكم أسماءكم ويقررَ شأنكم . أسماؤكم ملكٌ لنا، وبيوتُكم وآباؤكم وكلِّ ما تحبون وتشتهون ملكاٌ لنا . . نتصرفُ فيها كما يحلو لنا
لا تعترضي ، تعلَّمي الطاعةَ، والشفافيةَ، واللعبَ بالكلمات.
لا مكانَ لسطوةِ نساءٍ بعدُ ، لا مكانَ للمكر والدهاء
مرَت الليلةُ تلك بسلامٍ
وبقيتُ أنا، وبقيتَ أنتَ، وباتحادِنا هزَمنا العدوَ في الليلةِ المبهمة تلك ،وانتَصرَ العاشقون في أرجاءِ المعمورة ،.واستسلمَ العدو الكبير لليأسِ، انهزمَت أمريكا بانتَصارِ حبِّنا .،وانخرطَ الجنودُ في البكاءِ ينشدون الأمن والسلام ،واستسلمنا نحنُ للآمالِ والأحلامِ، غرَسنا أملاً هنا وابتسامةً هناك.
انقضَت هذهِ الليلةُ، وبقيَت لحظاتٍ وتنصرمُ، لتبدأ ليلةٌ جديدةً لكن بعدَ أن يتلاشى الألمُ رويدًا رويدًا ويصبحَ أقلَّ وطأة.
اكتشافُ حبِّنا في ليلةِ وأدِ بغدادَ هو الإنجازُ الوحيدُ للمحتَّلِ في الوطن.
دمَّروا كلِّ شىء، وسلَبوا كلِّ شىء، ودفنوا الأحلامَ والآمالَ
حطمّوا كلِّ شىء
لأنِّي سأضحكُ في غرفة، وأبكي في الأخرى .
هنا أشربُ كأسَ زبيبٍ أو عصيرَ برتقالٍ، وهناك أشربُ فنجانَ قهوةٍ مرَّة .
هنا ارتدي ثيابًا حمراءَ أو ورديةٍ بلونِ الوردِ، وهناك أرتدي ثيابًا سوداءَ بلونِ الفحمِ وحجمِ دمارِ الأوطان .
في أحدى الغرفِ سأبكي بصمتٍ، وفي الأخرى سأبكي بصراخٍ عالٍ، وفي الأخرى سأحتفلُ مع نفسي بمرورِ عشرينَ عامًا على حبٍّ لم اكتشفهُ إلا في هذه الليلة المشئومة.
في الهمِّ الكبير مثلُ همِّ ضياعِ الوطن تكتشفُ درجةَ صدقِ مشاعرِكَ من كذبِها، تكتشفُ معدنِك الحقيقي .
في لحظةِ الألمِ، تميزُّ بينَ الليل الرمادي والليل الكحلي .
عندَما ينتابُك ذلك الألمُ العذبُ الجميلُ، ينتابك الحبُّ العذبُ الجميلُ .
في لحظةِ الألمِ، أحببتُك أكثر .
وفي لحظةِ الألمِ، بحثتُ عنكَ أكثر، وتأملتُكَ أكثر، وربَّما أرغمتُك على الحبِّ والثرثرةِ والهذيان .
بصريحِ العبارة .
النبيذُ الأحمر شرابُ السكارى لِتجاوزِ الهمومِ . .
كنتُ النبيذ الأحمر والنبيذ العسلي والمخّملي والأرجواني الذي شربتَه لأنسى وطنًا يُحتلُّ أمامَ عيني .
لم تعدُ الجبالُ عاليةً شاهقة، أيِّنما أرفعُ بصَري، أجدُّها أطولُ من رقبتي .
لم تَعُد السهولُ والهضابُ خضراءٌ بلونِ عيني عاشقٍ، أينما أبصرتُ إليه بدا أخضرٌ بلونِ العشبِ والسَّماء .
لماذا تبدو الأوطان جميلةً، شاهقةً، عاليةً، خضراءَ الملامحِ حتى وهي تتكبل في قيودٍ وسلاسلَ الغزاة . .؟.
لم تعد أشعةُ الشَّمس ذهبيةٌ متموجةٌ تسبحُ على شعري حين أنثرُه في الهواءِ مرحًا .
احتلُّ الوطنُ، انتَعشَ الحبُ كله في جسدي .
بعد انقضاءِ تلك الليلةِ المرعبة اكتشفتُ أنَّي أحببتُك قبلَ عشرين عامًا، وأنَّي في تلكَ الليلةِ كنتَ أقربَ إليَّ من حبلِ الوريد. بلغَ الحبُّ ذروتّه، واكتشفتُ أنَّ حبَّك من حبِّ الوطنِ .
وقبلَ هذه الليلة لم يكن الحبُّ ممكنًا .
الحبُّ يحتاجُ إلى ألمٍ قويّ، هزة قوية تُصَحيه إذا غفا، تُحركهُ إذا جمد، تُنعشهُ إذا ذَبل، تنشّطهّ إذا تكاسل . .
في الحربُّ نحتاجُ إلى أن نحبَّ بعضَنا (بفولتية) خاصة لنصمدَ، ونواجهَ الصدمة، بقلبِ أسدٍ ورأسَ ثعلبٍ.
أشعرُ ببردٍ . البيتُ محاطٌ بجبلٍ من النار، أسيجةٍ من النار. الشمسُ في هذا اليوم تُرسلُ حرارتَها باتجاهِ غرفتي حصرًا، مطرٌ في كلِّ مكان، ودفءٌ في كلِّ مكان . . غرفتي وحدَها باردةٌ نائمة على جبلٍ من الثلج .
عندَما كان اسمك زيدًا، كان اسمي سلافة
صار اسمي شيرين، وظلَّ اسمك معتزًا.
وقبل أن ينصرمَ الرمقُ الأخيرُ من الليل غَيَّرتُ اسمي إلى نورِ الهدى، واتفقتُ أن أناديك فراس. ثمةَ جنودٍ مدججون بالسلاح ومروحية تقفُّ فوقَ سماءِ المنزلِ . . أسماؤنا جميلةٌ تهددُ أمنَ الولايات المتحدة، وأشكالُنا كرويةٌ تُهَيجُ أعصابَ إدارةِ (البيت الأبيض)،ورئتُنا تتنفسُّ هواء بطريقةٍ تُهَيجُ أعصابَ ساسةِ واشنطن .
الطائرةُ هذه، وهذه العرباتُ الهمفي وناقلاتُ الجنودِ، وهؤلاءِ الكلاب المدججون بالرِّصاص سيغادرون ما أن تنوي تغييرَ اسمك واسمي.
أناديك حمزة وتناديني مديحة . أناديك سفيان فتناديني هند.

الثلاثاء، 26 يونيو 2007

ليبق لك ياشقيقة شرف المحاولة


ويبقى الهذيان ثمارا مرة لاحتلال أكثر مرارة
وليبق نبض حروفنا ياشقيقة فى جهدنا المشترك
** إيميلات تالى الليل **
ليبق نزف الحروف ثمارا ناضجة لعافية المقاوم العربى لهذا الإحتلال
وليبق ساعدى ملاصقا لساعدك
وليبق لك شرف المحاولة بكتابةجراح وطنك ويقظات المقاومين
ولأحظ أنا بشرف مرافقتك
***

الاثنين، 25 يونيو 2007

لحظة البوح بالتجربة


لما كان البوح بالتجربةعاما

كان من الضرورة الصمت إجلالا بعدها

فقد كانت الوجوه الأسيانة تحتضن الحروف وتؤازرها
***

مر الذى مر




ِِمر الذي مر.لكنها أشياء باقية في الذاكرة ، وفينا

محطتان بالعمر. واحدة للحزن ، وأخرى للفرح ، والإثنتان للكتابة

مقتطفات من شهادة ادبية طويلة تصدر قريبا فى كتاب بعنوان ( سنوات الاشتعال والانطفاء ) قدمت فى مؤتمر ادبى بمدينة كفر الشيخ بمصر فى 2\4\2006

***********
الكتابة شهادة، وعندما لا تكون كذلك، فإنها تصبح أي شيء، إلا كتابة.
لا تكون الكتابة شهادة إن لم تكن صادرة عن شاهد بالحق.
الكتابة التي لا تكون شهادة هي كتابة ظالمة، وناقصة، ومتواطئة.
الكتابة هي أن يكتب الكاتب ما يراه، وأن يشعر بما يرى، وأن يعجنه بدمه ويجففه بعرقه، وأن يكون ما يكتبه صرخة مدوية، تصل إلى الآخرين، ويوصلها الآخرون إلى الآخرين.
وكثير من أنواع الكتابات هي سحابات صيف عابرة، لا ماء فيها ولا روح، جسد ميت، التراب أولى به.
لأن فعل الكتابة اليوم أصبح ترفا، ولم يعد مسؤولية.
والمسؤولية من السؤال: من أنا؟ ولماذا أحمل القلم؟ ولمن أكتب؟ ولماذا؟
لا أحد يطرح هذه الأسئلة اليوم إلا قليلون.
لهذا تكثر الكتابات ويقل المعنى، لهذا سقطت قيمة القلم.
القلم حياة، والقلم موت أيضا، والقلم جسر بين الحياة والموت، يمر منه سالما من كان شاهدا بالصدق، لا متسليا، ولا طالب منزلة، أو باحثا عن الأضواء.
أقسم الله سبحانه بالقلم في سورة تحمل إسم هذه الأداة العجيبة:''ن. والقلم وما يسطرون''.
وقال محمد جواد مغنية في تفسير الآية، والقسم الإلهي بالقلم:
''أقسم به سبحانه لعلو شأنه حيث لا إنسانية ولا حياة إلا به''.
وفي الكتابة الحديثة يكثر الكلام ويغيب القول، لأن الكلام هو أي شيئ، ولأن القول هو الذي يملك المعنى.
والسبب أن الإنسان فقد الارتباط بالقيمة العليا التي جاءت به وستأخذه غدا.
قيمة المعنى الذي يمنحه لحياته.
قيمة الموت، وسؤال ما بعد الموت.
الكتابة الفارغة من المعنى، هي أيضا تغييب للآخرين، وعدم منح الاحترام الواجب للناس، لأنها استهتار بهم، وسخرية منهم، واستغفال لهم.
ولهذا فسدت الكتابة اليوم، لأن الكثيرين لا يعرفون ما يريدون منها، فلا يفهمهم الناس، لأنهم هم أنفسهم لا يفهمون أنفسهم.
يقول بعض الحداثيين: أنا أكتب للمستقبل، وللأجيال المقبلة التي ستفهمني.
رجل كهذا ينبغي أن يكون أحمق.
لأن المستقبل ليس عاقرا، والأجيال المقبلة ستكون لها مشكلاتها، ولغتها، وكتابها، وفنانوها.
إذا لم يفهمك الذي معك، لن يفهمك القادم.
هذا هروب من مواجهة المشكلة، والهروب من مواجهة المشكلة مشكلة ثانية.
الكتابة الحقيقية تضم الحاضر والغائب، تشهد على الحاضر، وتتجذر في الماضي، وتتشوف للمستقبل.

أولا :
شيء ما في القبر


في وقت الأعياد نتذكرهم حتى ولو أرادت الذاكرة أن تنأى عنهم لأسبابها التي قد نغفلها او لا نفقهها. نعاندها أو لا نفعل. نتذكر وجوههم تفصيلا بعد تفصيل ونحّن إليهم ونشتاقهم.
أكثر الأوقات شدة وأكثرها فرحا، ناعمة كانت أو خشنة، تستدعينا للقائهم. ذهب الحاضرون في حركاتنا وانفعالاتنا وحبنا وكآبتنا... ذهبوا بالفعل. وما زلنا نشتاق لنقول لهم كم أحببناهم وحتى ولو لم يسألوا، هل فتحنا محراب الكلام بيننا؟ هل طلبنا أن نغفر لهم أو يغفروا لنا؟ ماذا قلنا لمن رحل وقد كان جسراً وسؤالا ومهواراً وخيمة وقوة وخوفا وأغلالا وأمانا وخيبة احيانا... ذهبوا... كيف لنا بلقائهم؟
العيد الذي كانوا فيه ، العيد آت من جديد... فكيف نفرح وهناك كل هذا الافتقاد لهم... قد نعيّد افتقادهم. قد نعيّد ما كان حاضرهم أو نرثيه... نذهب الى قبورهم ونستجديهم بأن يستحضرونا كما نحب أو كما يحبون، كما لو كان اللقاء عيداً. أو نستحضرهم لأننا نشتاقهم ونستفقدهم ونريدهم معنا؟ ولكن هل يا ترى... ألا نعكر عليهم صفو كينونة يعيشونها بشكل آخر؟ هل هم يريدوننا من جديد؟ أين هم الآن؟
قد نفكر أن نذهب جماعة، كما في لوحة ماتيس (الاتحاد)، ونرقص حبا ومشاركة حول قبورهم أو حول ذاكرتهم. قد يشاركوننا توقنا لملاقاتهم أو لا يفعلون. باتوا في مكان آخر... في صقيع أو دفء، في سلام أو حسرة، في رونق أو ذبول، في نور أو ظلمات، أو في لا شيء... كيف تساعدنا الحياة على موت الأحبة دائما... كما لو انه دوما قبل الأوان؟
هى ليلة فارقة فى عمرى مذ وعيت ، ليلة كل عيد
والعيد غدا، نريد أن نعّيد ونعيد معهم ولو غابوا ، لعل من لقاء موجز. إعادة لمّ شمل، أي لقاء معهم في العيد نستكين له ويستكينون.
حول القبور، في المساجد، أو حول الأضرحة، يجتمع الأحياء جماعة ومنفردين، وخاصة في المناسبات، في أعياد الفطر والأضحى عند المسلمين، وفي عيد تذكار الموتى عند المسيحيين، وفي <<رأس السنة اليهودية>> عند اليهود، وفي عيد <<اوبون>> عند البوذيين، الخ...، لزيارة من رحل من أحبائهم أو أنبيائهم أو أوليائهم.
كنت اتساءل دوما :هل يأتى هؤلاؤ الأهل بدافع واجب ديني، أو للذكرى، أو لأنهم اشتاقوا لالتماس استمرارية صلة، للدعاء، للتكفير او للتطهر؟ ومن لا يزورها، هل لا يستذكر من رحل، أو لأن الذي ولى قد ولى ولا حول ولا قوة الابالله؟
لحظة وفاء
نحن توارثنا عادة زيارة القبور وأخذنا نمارسها دون التفكير فيها، ، كنا وقت الأعياد نرتدي أفضل ملابسنا ونذهب قبل شروق الشمس صبيحة العيد لزيارة الموتى وقراءة القرآن قرب مدافنهم، وكانت العائلة بأجمعها تجتمع هناك. لذا اقترن العيد في أذهاننا بزيارة القبور التي تجمع العائلة جميعها، وكنا نحن الأولاد نشعر بالفرح، إذ ترانا العائلة في ثيابنا الجديدة. هذه العادة أصبحت فيما بعد لحظة وقوف من الحزن أمام قبر العزيز على قلوبنا قبل بدء الاحتفال بالعيد. إنها ذكرى ولاء لمن نحبهم. إنني أؤمن بقراءة القرآن قرب القبور ليس لأن الروح موجودة أو ليست موجودة، إنما لأننا عرفنا قبل موت أولئك الأشخاص، من خلال ممارستهم أمام قبور أحبائهم، إنهم سيكونون مسرورين بهذه الزيارة، وأنهم يتوقعون من أولادهم القيام بمثل هذه الزيارة. بالرغم من أنني لست على يقين أن روح الأحبة ستسمع دعواتي وقراءاتي. إن القراءة، بحسب القرآن تصل إلى الروح من أي مكان كنت به. ربنا كفيل بتوصيلها حيث تكون الأرواح، إذ نحن لا نعلم أين هي تعوم. ولكن عندما اذهب إلى الضريح أشعر بقرب أكثر، إذ هناك يركن الجسد الذي كان. ولكن لا اشعر إنني أريد أن أتحاور مع الموتى، بل اهدي فقط سوراً من القرآن لهم لكي يخفف الله عن ذنوب أحبائي>>.
حديث إلى القبر
ومازلت لحد هذه اللحظة فى موضع التساؤل : هل تعرف الأموات زيارة الأحياء؟ <<ما من مسلم مر على قبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلاَّ ردَّ الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام>> (النبي محمد صلعم).
لكن زيارة القبور كانت ومازالت بالنسبة لى حالة وجدانية بما فيها استعادة لذكرى الأحباء، ، وأنا نشأت على عادة زيارة القبور ، وكنا نغرس قبور الأحبة بأحبال مجدولة من عيدان الصفصاف الخضراءعشية العيد، ويو م شم النسيم انها شجرةمصرية بامتياز ومن ثم تأتي العائلة بأجمعها، صباح العيد ونجتمع حول قبر آخر شخص فقدناه، ونوزع المعمول على الفقراء، ويهنئ أفراد العائلة بعضهم البعض حول هذا القبر ومن ثم يتوجه كل واحد نحو قبر الأقرب إليه.
من منطلق إيماني، اشعر عند زيارتها بهذا التواصل النفسي الداخلي مع أحبتي لأنهم ما زالوا في ذاكرتي، وأتمنى أن يزورني أحبتي بعد مماتي لكي اشعر باستمراريتي بين الأحياء.واوصيت زوجتى بذلك ، وقد لا حظت ما طرأ على سلوكها من تحول جذرى ، من رفض لزيارة القبور، وقد علمت انها تجالس زميلات منقبات لها اثناء ساعات العمل الرسمية ، وذكرتها بحديث شريفعن النبى محمد ( صلعم) : <<كنت قد حرمت عليكم زيارة القبور ولكنني الآن أقول لكم أن تذهبوا وتزوروها لأنها تنعش القلوب، وتجعل العين تبكي، وتجعلكم تفكرون بالآخرة وبالدنيا...>>،.
<<عندما أتضايق من أي أمر وأشعر بالاختناق منه، لا أبوح به الا قليلا لزوجتي أو لأولادي، لكنى اذهب إلى قبر أبي وأحدثه عنه، فأبى في حياته أو في مماته يمنحنى الراحة، فكلما وصلت إلى مفصل صعب في حياتي يحتاج إلى قرار أرى أبي في منامي ومن مجرد ظهوره استمد القوة. ومن الملفت أن كل كتابة مندفعة في جريانها، وجادة في مدلولها أمارسها بعد العودة من القبور مباشرة ، ولعدة أيام متوالية ، هل هي الرغبة بأخذ الحياة قبل أن يدهمني الموت ؟ ، هل هى مقاومة لتلك العبثية التي راجت في أفعالي بعد مرض الولد الوحيد الذي سيطول ، أو الذى لن ينتهى سوى بموته ؟ ، هل ، وهل ؟ ، ولكن الإجابة أظل دائما فى غنى عنها ، لأن أبى قال لى على أرصفة المرارة من الحياة دائما : أطلب من الله دائما أن يعطيك ظهرا قويا ولا يعطيك حملا خفيفا ولكن الزيارة التي اندفع إليها لا إراديا ، وفى كل مرة ، هي إلى قبر << نادية >> التي كانت رفيقة أيامي المتوهجة بالشباب وحب الوطن ، التي ماتت في قبو بارد في سجن من سجون نظام السادات ، أزورها لأشعر أمامها بالخذلان أنى تركتها تذهب ونجوت أنا بنفسي ، برغم أن ذلك تم بمعجزة كبيرة ، والغريب أن قبرها يقع على مرمى بصري يوميا ، فلا يحتاج الأمر لمناسبة للزيارة .
تمت نجاتى من الموت ، لأنهم خيرونى بين انفصالى عنها فى الدنيا فقط ، ام انفصالنا فى الدنيا والآخرة ، ولم اكن أعى هذا السؤال حقيقة ، فظننت ، وكل الظن اثم ، انهم يودون ايثارى بالترحيب المشهود لهم به ، لتخفيف عبء الكرم عنها ، وقد قالت لهم أن قلبها يوجعها ، ولما صفعها صاحب الثلاث نجمات وهو يقول : قلبك يوجعك وتظلى شيوعية لا تؤمنى بربك ؟ ، كنت ساعتها قد ابعدت الى حفل آخر ، ولم اشاهدها غير جثمان ملفوف 0
هى محطة لم استطع للحظتى الآنية الاقتراب منها ، او مجرد تلمس الحروف لصوغ ملامح منها، فأغرق راسى فى الكتابة مع ناس قريتى ،كمعادل موضوعى عن الأسى، وأواصل التوحد مع المتوسلين بوهج الكتابة فى المدن العربية ، كتابا وشعراء وصعاليك
<< وفى زيارتي لقبرها حاجة نفسية وضرورية ، تشعرني بالأمان الداخلي وبأن الحبيب هو حي بعد وفاته، فلا يشعر بأن الوفاة هي النهاية فينتهي احد أسس إيمانه وهو أن هناك بعثا بعد الموت. من لا يزور قبر أحبته يعتقد أن الموت هو النهاية>>. وفى كل مرة أشعر أن زيارة قبرها كما تمت بالداخل أيضا فقد سكنت الخارج فى ، فاندفع الى الكتابة أيضا ، ملبيا رغبتها التى لم تر من آثارها شيئا ، وهى أن ترى أول غلاف لكتاب لى
هناك أخاطبها لمواساتها والأصدق ربما مناداتها هي لمواساتي. تواصلي معها فعل اشتياق وفعل ندامة وفعل اعتراف ومعاتبة، لأنها تركتنى ألملم بهجتى بكل غلاف كتاب جديد خزيا ، لأنها لن تراه ، ودائما فعل حاجة ملحة لوجودها قربي. ، ولكن ولسبب ما اعتقد أنها متفوقة وأكثر شاعرية ونقاء وصفاء منى، وهناك من إله ، هى حتما سبقتنى اليه.، ولاترقب مجيئى ، وأسمع داخلى يرن بصوتها : أن أعمل وكأنى أفرح بك
الآن، وبعد مرور سنوات على رحيلها، حين أمر بالقرب من تلك المقبرة التي رقد جثمانها بها، بين المئات وربما الألوف من البشر، اذكرها وأتلوا آيات صغيرة وكلمات كانت تحبها لبابلو نيرودا ، وأغنيات كانت تدندن بها لصالح عبد الحي ، وبخاصة أغنيته الخالدة << غريب الدار 0 عليا جار >> .، ولسبب ما كانت تكره أغنيات يكتبها أحمد فؤاد نجم ، ويغنيها الشيخ الضرير إمام عيسى ، وحين صار على امتلاك جهاز حاسوب ، وقررت ادخال أغنيات الشيخ عليها لم أتجاسر مرة واحدة على سماعها . والان بعد ان نكأت جرحا تخثر الدم على اطرافه ، لا بأس من الجلوس على شاهد قبرها وكتابة تلك الرحلة الارتجاجية لجيلنا .
لطالما كنت مفتونا بعالم الموتى وبسر الموت منذ الطفولة. عرفت الأمر باكرا عندما كنت تلميذا في مدرسة القرية. تعرفت حينها على هذا الطقس من خلال مناسبة عيد الفطر كما ذكرت سابقا. لقد كان لهذه الذكرى في ذلك الوقت هالتها وهيبتها وروحانيتها الخاصة بالنسبة لي على الأقل، أنا الطفل الذي شعر آنذاك بأنه صار يحمل سرا جديدا ومغزى آخر للحياة. كان الأهل ينظمون زيارة إلى المقبرة ولم يكن لي أي قريب دفن هناك، لكن ما إن وصلت المكان حتى شعرت أنني أسير على الغيم، وإنني عبرت من عالم الطفولة البسيط إلى عالم اشد طفولة وأكثر بساطة، وبغريزتي عرفت كم أننا ضعفاء. قرأت الفاتحة، وشاركت في الدعاء لنفس الموتى (الغرباء)، وأجهشت في البكاء حتى كاد يغمى عليّ، وظن الرفاق الصغار أن احد أقاربي مدفون هنا.
وثمة قبور لم ازرها بعد ، منها ماهو بعيد فى الجغرافيا ، كقبر صديقى محمد شكرى ، وقد اوصانى ان لا أفعلها ، وقبر ابنى الوحيد لأنه لم يقم بعد فى الجغرافيا ، وإن كنت آمل زيارته قبل ذهابى بجواره أو فى أحضانه ولو بساعة واحدة ، وهو وان كان ميتا حيا ، فتلك امنية تلعب فى تضاريس الكتابة اليومية ، لذا فأنا لا أكتب الا وحزن قوى يحركنى. وهذا ماجاءبالضبط كتمهيد لمجموعتى القصصية الأثيرة والقريبة الى ( من أوراق موت البنفسج)
الآن لم اعد بحاجة إلى زيارة القبور ورؤية الشواهد المنشورة في أرجائها. مضى زمن بعد ممارستي لتلك الشعائر. اخذ الموت أبي وأصدقاء وأحبة وكلهم ما زالوا في الوجدان والذاكرة. لا اعلم إذا كانوا يسمعونني. ما أعلمه ، ويقينا إن نادية التى قضت على ايديهم وأبى الذى كان يلاحق كتبى فى محطات التهريب على اسطح الجيران اتقاء سطوتهم ، يسمعانى ، فهما فقط من بكيا من أجلى في محن عابرة .، ووأخيرا أخذ الموت فتحى عامر وأطوار بهجت ، ولم أجرؤ على محو رقمى هاتفيهما من دفترى كما يفعل الكل ، لأن محو الرقمين محو للذاكرة.
<<لا يمكن لطقوسنا وأسرارنا الخفية أن تتغير، على عكس القوانين الضعيفة غير الأكيدة التي يضعها البشر>>، يقول فولتير. ويرى الأب بارثيلمي ان <<الطقوس شأنها شأن الدليل الذي يمسكنا بأيدينا ليرشدنا على الطرقات التي خطها مراراً. للأسف إن طقوسنا تختفي تدريجيا، ومعها كذلك في الدرجة الأولى السهر على الميت. إذ أن هذه الأخير هو الذي يساعدنا على إدراك أن أمواتنا قد ماتوا فعلا>>. وحين كنت غائبا فى ظلام ما ونادية تفارق الدنيا ،لم اسهر على موتها ، وحين سللت كفى من قبضة أبى ليلة احتضاره الطويلة باكيا ، لم أسهر على موته ، ولكنى الآن أسهر على موت المعنى الذى اتفقا عليه دون لقاء بينهما طال ، وهو أن يكون للإنسان معنى ووجود حقيقي بالحياة ، وان تكون قضية للإنسان ، أو أن يكون الإنسان هو القضية الكبرى بين سطور كتبي ، فإذا لم يكن الإنسان قضية 0 فما تكون القضية ؟.
مناسبة اجتماعية
<<انني اميز بين الدين كإيمان والتدين كتظاهرة، وأجد أننا آخذين بالميل اكثر فأكثر نحو الطقس وليس نحو الروح. فروح الدين هي العلاقة بالقيم. التصوف الذي يجعل الإنسان يراجع نفسه بما يحصل بشكل فكري ونظري أي عقلاني وليس بشكل طقسي. أنا لست طقسيا وآسف أن هناك ميلاً شديد عند البشر نحو الطقوس حيث تحول كل شيء إلى شكلي ومظهري لا يركز على الجوهر. وأنا ضد تحويل العلاقة بمن نحب إلى طقوس شكلية تحول دون التأمل الصوفي>>.
من المعروف أن كثيراً من العادات والطقوس تمتد جذورها إلى آلاف السنين ما قبل الميلاد، وإذا كانت قد تعدلت فهي ما زالت تتشابه إلى حد بعيد. في القرن الخامس قبل الميلاد كان السلتيون ((Celt يحتفلون بعيد <<جميع الارواح>> في 31 ديسمبر، إذ كانوا يعتقدون أن في ذلك الوقت يكون الغطاء بين الأرض والعالم الآخر رقيقا جدا، مما كان يسمح بأن يختلط العالمان ببعضهم البعض، كانوا يشعلون نارا كبيرة على تلة كي يضيئوا طريق الأرواح، وكانوا يضعون لها الطعام أمام أبواب المنازل كي لا تدخل إلى داخلها. وما زال اليابانيون البوذيون يحتفون بالموتى في عيد <<اوبون>> السنوي حيث يعلقون المصابيح أمام البيوت لتدليل الأرواح على الطريق، ويرقصون في المعابد، وفي نهاية العيد الذي تستمر طقوسه أسبوعا، توضع مصابيح عائمة في الأنهار والبحيرات، والبحور، لكي تستدل الأرواح طريق العودة إلى عالمها.
عندما وعيت، بدأت اشعر بأن الموت موحش وكريه. أن نستوحش من أحبتنا عندما يموتون. ولكني أؤمن أن الموت حق، وأننا كما أتينا إلى هذه الدنيا بدون خيار نرحل عنها كذلك من دون خيار>>.
صك وفاء وولاء
أزورهم لولائي ومحبتي ووفائي لهم، أريد أن أبقى على صلة بهم. وحول القبور يكون حال سبيلي كالآخرين الذين أتوا ليؤكدوا وفاءهم للسالفين، وتكون مناسبة اجتماعية للالتقاء بأناس لا تلتقي بهم الا وقت العيد حول المدافن. وأنا عندما أقرأ صورة ( يس ) بشكل خاص اشعر بأنهم يسمعونها، وأشعر في نفس الوقت بأن هذا الطقس علاج لي بمعنى انه يشعرني بالراحة النفسية، كما يكون شعوري عندما أقوم بعمل خيري أو إنساني. وكذلك فإنني اشعر بأنني ما زلت قادرا على التحاور مع أحبائي في قبورهم وأستذكر نظراتهم وكلماتهم، وأسر لهم بمشاكلي وأشعر بأنهم يوحون لي بحل لها، وبعد ذلك نعود إلى البيت بشعور باللذة والمتعة لأننا نكون قد ختمنا صك وفاء للناس الذين ولّوا وما زلنا نحبهم.
<<إذا مر رجل بقبر أخيه يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام وعرفه؛ وإذا مر بقبر لا يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام بعضهم أرسل إليّ إشارات بأنه يعي ما أقول، ربما يكون الاتصال لحظتها في ذروته في المكان الذي يترك فيه الموتى آخر آثارهم... لمستهم الأخيرة على الوجود المادي المألوف، آخرون لا يؤمنون بذلك ويعتبرونها من دواعي السخرية والتهكم... ولكن شيئاً غير عادي يلف وجودك في مكان تسبح الأرواح فيه، يهدأون حين يعرفون أنك شخص هادئ، ويضجون بالحركة حين تظهر لهم اضطرابك... في السنوات الماضية توسع السكن ليضم المقابر ولتلتف المباني حول أسوار القبور، ولذلك أصبح عادياً أن يكون مشوارك اليومي ذهاباً وإياباً لا بد وأن يأخذك في عبور سريع على ضفة مقبرة. أحياناً أفقد ذلك الاتصال، ويصبح مروري مملاً واعتيادياً ولا معنى له... ولكن سرعان ما تستيقظ تلك الأصوات والمحاورات بيني وبينهم... لا شك أنهم موجودون الآن. الآن أزور قبور الموتى باستمرار... ولا أفعل ذلك في الأعياد بسبب الزحام الذي تشهده المقابر وقتها. أفضل أن أكون وحيداً في الجبانات والترب... مع مدينة من الشواهد المنتصبة كمبان تتحرك بينها الأسرار. غالباً لا أزور قبر صديق أو قريب... أتجوّل في المكان وكأنني مدعو من سكانه. أقوم بذلك، لأسباب بعضها روحاني... وبعضها له علاقة باكتشاف المقابر كانت جولاتي تلك تسبب لي المتعة... والدهشة معا... وغالباً ما أكون في حالة اكتشاف مستمر، وليس من الأمور المدهشة أنى استذكرت دروسي في الثانوية الأزهرية بداية سبعينات القرن الماضي وسط ترب<< سندوب>> بضاحية مدينتنا المنصورة..
وفى اليوم الذي سبق أحد الأعياد، عند الغروب، وكان جميع الزائرين، ذلك اليوم البعيد، قد غادروا قبل الغروب للاحتفال في العيد غدا، اذكر أنني رأيتها وحيدة لا عيون مرئية لها. مررت بها بصمت والرأس حان، سمعتها تقول، ربما ليس لي:، حفرت له القبر عميقا وكبيرا، وجعلت فوهته على مقاسه، سأنتظر بعضا من الوقت. علّه يخرج!


ثانيا:
...بعد أن انقضى العمر الذي لم أعشه

وهى ليلة أخرى ، تأتينى بلا طقوس أعتادها ، أو أسعى للقائها مرة، ولكنها دائما ما تنبهنى ، لأنى أعرف موعدها الزاحف كل عام ، إنها من بين المناسبات كلها تبقى أعياد ميلادنا ذات وقع خاص، فهي تضيف سنة وتنبهنا، إن كنا غافلين، إلى عمرنا الذي يزداد وحياتنا التي تتناقص. نستطيع تمضية عيد ميلادنا بشتى الطرق، السعيدة منها والتعيسة، لكننا لا نستطيع تجاهل ذلك الجرس القويّ الذي يُقرع منذ منتصف العمر، ومن أي سنة أحصيت أنا منتصف العمر ؟ وإذا صادف وأمضينا حياتنا في بلاد يحكمها الخوف فإن الإشارة المفزعة لعيد الميلاد هي: لقد أُهْدِرتْ سنة أخرى من عمرك. إذن هل يمكننا الحديث عن عيد ميلاد في ظل الأنظمة الأمنية؟
أبدأ بالقول: إنني، وبشكل مباشر، تعرضت لكثير من صفعات رجال الأ من. وصفعات قليلة كانت في البيت أو المدرسة، وهذه لا تجعل مني مناضلاً صالحاً أمام الكثير من أصدقائي المعتقلين السابقين. ، ولكنى أيضا و ببساطة شديدة واحد من ملايين تم استثناؤهم من الضرب بحكم المصادفة، ولاعتبارات منطقية وواقعية أيضاً. فأنا في الواقع لم أشكل خطراً على أي نظام، لم أفعل ما يستوجب الاعتقال والضرب، وشخصيتي الهادئة لا تبدو جذابة بما فيه الكفاية لمخبريه. أما استقلاليتي عن التنظيمات المعادية للنظام، بل ونقدي لها أحياناً، فقد ترضي هؤلاء المخبرين، دون أن تلغي تشككهم بي. فأنا أنتقد النظام أيضاً، وبقسوة في أحيان كثيرة وفي المحصلة أنتمي فى نظرهم إلى فصيلة الثرثارين المزعجين أحياناً، غير الخطرين فى أحوال كثيرة.
المصادفة أيضاً، أو حسن الحظ، أو كلاهما نجّياني مرات كثيرة من الاعتقال والضرب. فمؤهلاتي السابقة ليست كافية بحدّ ذاتها، طالما أن جزءاً ممن اعتقلوا لم يفعلوا شيئاً، بل اختارتهم يد القدر الأمنية لتربية الملايين من أمثالي. هذه ليست نكتة: أن يفكر واحد مثلي، في عيد ميلاده، بأنه لم يُضرَب كثيرا، أو يعذب بما فيه الكفاية، ويرى في هذا شيئاً من الغرابة، ويفتش عن الأسباب التي جعلته من الفئة الناجية!
بلغتُ الثالثة والثلاثين في عام 1984. وهو رقم أنظر اليه بتهيب كبير ، فهو يمثل لى علامة ثلث قرن، وزحف قليل سينتصف قرن ، وكنت أتخيل دوما أنى لن أستمر بالحياة أكثر منه،
أي أن المصادفة أوقعتني بالضبط تحت برج جورج أورويل. ولمن لا يذكر فقد شهدت تلك السنة عودة إلى الاهتمام بجورج أورويل، وتحديداً بروايته 1984. ولمن لا يذكر أيضاً فإن هذه الرواية صوّرتْ ما يمكن أن تصل إليه بشاعة الأنظمة الأمنية، حين تتحكم في العالم، كتبها أورويل عام 1948، وقلب آخر رقمين على سبيل التنبؤ. أنا واحد من أولئك الملايين الذين لا اسم لهم في رواية أورويل. صدّقوني ليس هذا بالمجاز، بل على العكس. الرواية هي الاختزال والمجاز، فلم يكن لدى أورويل الوقت والصبر ليفرد لي مساحة خاصة. والحق أنه كان مصيباً، إذ لا يمكن الحديث عن أفراد في ظل أنظمة تفعل كل ما بوسعها لتسحق فردانيتهم.
ففي عام 1973 لم تكن البلاد تتسع سوى لصور الرئيس المتدين ، والزعيم المقاتل ، وصاحب العبور! أبناء الجيل الذى جاء بعدنا لم يعوا غيره زعيماً. ففي بداية وعيهم الطفولي، أي في عام 1973، قيل لهم إنه انتصر على أعداء الداخل ، وأنا واحد منهم وسط موكب هادر من طلاب مصر بالجامعات ، ،و عملاء الخارج مراكز القوى فى عهد لم يشارك فيه بأدنى جهد، ومرّغ بالوحل أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر، وبعدها بأربع سنوات تصدى للمؤامرة التي استهدفت خاصرة مصر ، وأنقذ مصر من الخراب والمجاعة، ومن ثم تصدى لخونة الوطن ومشاغبيه من أمثالي ، الذين باعتهم طلائعيتهم الى الغربة والمنافى الإرادية واللآإرادية فى بعض الأحيان .
خلال هذه السنوات لا أذكر عدد المسيرات التي تم سوق الآلاف إليها، هؤلاء التلاميذ, كقطيع. ففي عام 1977 مثلاً كان الملايين من الأطفال أمثال يمنى ابنتى يساقون ليهتفوا لبطل السلام أنور السادات . أنا لم أحب السادات، ربما لأنني سمعت به قبل خيانته، لكن مسيرات تعليم النفاق السمج علمتني أن أكره السادات، وبحسب ظني الآن فإن السادات هو أول شخص كرهته في حياتي. وإني لأتذكر بدقة كيف صنع الإعلام غير الرسمي، والمخيال الشعبي، من شخصية السادات شيطاناً كاملاً، أُسبغتْ صفة القباحة على منظره، وعلى طريقة نطقه، وعلى مجمل أفعاله، ولم يعد يمثّل خصماً سياسياً وحسب، وإنما أصبح يجسد الشر المطلق. وهكذا دخلتُ السياسة من بوابة الكراهية.
فمع بلوغي سن الرجولة، في سنة أورويل كما أسلفت، دخل اليساريون من غير المتحالفين مع السلطة حياتي، وقبلها كانت سلطة السادات تشنّ حربها الوقائية ضد أعدائها المحتملين في الداخل، وتحديداً ضد اليساريين من أصدقائي وغير أصدقائي. شاركت في النشاطات التنظيمية لليسار بالسبعينات فى جامعة الأزهر قبل أن يتم فصلى ، وبعدها بأكاديمية الفنون ، التى تصديت فيها – مساندا من قبل رفاق كثيرين لتخرصات رشاد رشدى وتهويماته الرجعية وأساليبه الأمنية في إدارة شئون ألأكاديمية، وعشت أجواء الفوضى الفكرية التي تتيح تجاور ماركس وفرويد ولينين وتروتسكي وروزا لوكسمبورغ، وطبعاً ولهام رايش في إنجيله "الثورة والثورة الجنسية". وخلال تلك السنوات شاركتُ اليسار في اقتراف الكثير من الأفعال التي اعتقدنا أنها منافية للسلطة، شربنا ما وقع تحت أيدينا من خمر، وعاشرنا ما أُتيح لنا من نساء، حتى أن صديقا أكبر لنا عاشر ساقطة لحظة أن وضع السادات جبهته مصليا فى المسجد الأقصى، وغنينا أغنيات التحدي التي أداها الشيخ إمام، وسهرنا ليالي كثيرة وطويلة ونحن نتدرب على كراهية السلطة. وعلى مدار خمس سنوات انفضّ أصدقائي اليساريون، اعتقل قسم منهم، وهاجر قسم آخر، وتاب بعض منهم، فيما اكتشفت متأخراً ما فعلتْه بي يساريتي، إذ بتُّ أكره، بالإضافة إلى السادات، أمريكا وعملاءها والسلطة ومخبريها، وأكره انتهازية الروس ولا ثوريتهم، وأكره الخيار الثالث وميوعته، زادت كراهيتي للأعلام والأناشيد الوطنية وصور الزعماء، باختصار بتُّ أكره كل ما يعكر نقاء حلمي اليساري. وفي تلك الفترة أحببت فقط الزعيم السوفييتي أندروبوف لأنه مات سريعاً، وكأن نقمتي لم يعد لها رجاء سوى الفناء البيولوجي لسلطات وقوى راسخة لا يزحزحها إلا القدر. ، وباتت كل مدينة عربية على كل حال ألقاها غير راغبة في فتح صدرها لي إلا بقدر ما يسمح به أربابها، لذا وقفت في ميادين كل تلك المدن بدءا من بيروت حتى مكناس بالمغرب مرورا بتونس وصنعاء وتعز ، وكأني لم أقترب من غير شواطئ جغرافياتها ، فحرصت بقسوة على نفسي أن أغزوها رغما عنها ، وأن ابلل الروح بملامح أبنائها ، وكانت تلك العلاقات التي تتناسل كل يوم مع رموز العافية فيها من كتاب وثوار وصعاليك وحفاة ملا حقين وأوباش ومجانين بحب الحياة مثلى ، وكان أن نهشت فطيرة قدمها لي محمد شكري ذات سنة ، وبعدها لم أشعر بجوع للحياة أبدا .
ولكن النقمة أفقدتني مرات الثقة بالآخرين وبنفسي، وفي وقت ما بدأت التغيرات الكبرى في العالم ،كنت قد توقفت عن النمو النفسي والعاطفي. انهارت الكتلة الشرقية وبقي الكثير مما أكره، وهذا لم يُحدث فرقاً كبيراً لأبناء جيلي العاطلين عن الحياة في بلد لا يزال منتمياً إلى 1984، ويحكمه الأفول البريجنيفي شديد البطء. عندما لا يتغير شيء في حياتك فلا شيء حينها يثبت أن الزمن يمر، هذا الإحساس يصبح حقيقة واقعة. فالكتاب من أبناء جيلي ظلوا خلال عشرين سنة وهم يُشار إليهم على أنهم شبّان واعدون، أسوة بأقرانهم من الفنانين أو أصحاب الكفاءات العلمية أو غيرهم. إن حياة أبناء جيلي من المصريين تساوي ولاية أبدية لرئيس راحل مضافاً إليها، بالاستمرارية ذاتها، جزء من ولاية رئيس لاحق. أليس هذا مبرراً كافياً لنكون أولاداً على أبواب الأربعين؟ هذا طبعاً إذا غضضنا النظر عن مقدار ما في حياتنا من حياة. ففي زعمي، نحن أكثر شعب تفترب أعماره النفسية عن أعماره البيولوجية، وعلى هذا ربما يكون من العدل الإلهي أن نُمنح أعماراً مضاعفة على ألا تُمنح هذه الفرصة لقادتنا، أو أن تُحسب أعمارنا بقدر ما نغير من أنظمة. يلزمنا الكثير من الوقت لتصبح حياتنا شبيهة بحياة الآخرين، وبحساب الولايات الرئاسية السابق فإن متوسط أعمارنا يجب أن لا يقل عن ثلاثمائة عام، ليعادل سبعين عاماً لمواطن غربي، وحينها ربما استطاع كتابنا الشباب أن يصبحوا رجالاً، وربما أنجز مخرجونا السينمائيون أفلامهم المؤجلة والمعطلة، وحتى نساءنا المقيمات ربما تحولن حينها إلى عابرات جميلات.
إن الحصيلة المرّة لحياتي تكاد تتلخص بالملل، فما زلت أكره الأشياء ذاتها: أكره السلطة، وأكره رجال الأمن حتى في أفلام السينما، وحتى إن أدت هذا الدور حسناء مثل أنجلينا جولي. ذهب السوفييت ولم آسف على ذهابهم، ولم يقدم لي الأمريكان مبررات مقنعة لأحبهم، وعلى العموم أتمنى الحصول على مبررات مقنعة لأحب أي شيء، لعلني بهذا أتخلص من وحش الكراهية الذي حملته طويلاً. لكن لم يتبقَّ لي من الوقت ما يكفي لأقايض أوهاماً بأوهام، ليثبت لي أحد أن لي فرصة حقيقية للعيش في هذه البلاد، وقد رحل الرفاق الحميمين ونادية زهرة الروح السليبة قضت في قبوها المظلم أيام السادات ،وأنا مللت العيش في السماجة والرتابة. ليثبت لي أحد صحة جملة من نشيد وطني، أو جدوى شعار من الشعارات، والشعارات المعارضة لها أو المزايدة عليها، التي أفقرت حياتي، وإلا كُفُّوا عن استغفالي على هذا النحو الرديء، ابتكروا طريقة جديدة لسرقة ما تبقى من عمري. إن يأسي لا يدفعني إلى أبعد من المطالبة بالتحول من مغفل مهان إلى مغفل محترم.
يقول لي صديق بترف أحسده عليه: ألا تلاحظ أن أبناء جيلنا بدأوا يعانون أزمة منتصف العمر؟ أما أنا فأفكر: ما أصعب أن تعيش أزمة منتصف العمر في بلد لم يكن لك فيه عمر. فقياساً على ماانصرم من عمري لا أعتقد أن لي فرصة جيدة في الحياة، حتى وإن حدثت بعض التغييرات فثمارها ستكون من نصيب أجيال لاحقة، أما أنا ففرصتي الوحيدة الآن هي أن أعد العدة لزيارة قبر ابنى متمنيا على الله تحقيق تلك الأمنية السوداء ، وأن اقوى على كتابته فى الغد ثم أرحل إليه ، وثمة فرصة اخرى ، وهى أن أفتح النافذة، فأرى جيراني يؤرجحون بقرتهم، على نحو ما يحدث في إعلان عن الزبدة، وأتأكد من أنني مواطن عربي حلم حلماً مزعجاً بأنه عاش كمصري أو عربي، فأبتسم وأهزّ رأسي، وأقول لنفسي برضا وثقة: لقد كانت ليلة فظيعة، لكنه كان كابوساً، كان كابوساً وحسب.


magedhiem@hotmail.com

magedhiem2007@yahoo.com

الجمعة، 22 يونيو 2007

ونواصل ... الحلقة الثانية

الحلقة الثانية

3
أيها الحسن القلق والمتوجس دائما



كأنّ احدهم بل جميعهم يغرس سكينا في صدري ويذبحني من وريد إلى وريد.
رؤية هؤلاء العلوج يسبب لي الصداع وألما في الرأس لاأبرأ منه إلا حين يصل إلى مسامعي صوت انفجار قذيفة هاوون أو عبوة ناسفة تحرق أشلاءهم وتحيل أجسادهم إلى رماد .
كم أحمل من كراهية لهؤلاء الغزاة ياحسن وأتمنى زوالهم من الأرض أنهم سبب تعاستنا وما لحق ببغدادك من الدمار.. استغربت حين سألتني عنها وعن أحوالها بعد رحيلك المفاجئ عنها هل بقيت كما هي جميلة أثيرة تأسر القلوب وتجذب الألباب إليها وما مدى صحة ما تنقله وسائل الإعلام عنها من أنها استحالت إلى مدينة أشباح هجرها ساكنوها وأصبحوا لاجئين في إنحاء المعمورة يشحذون هبات الدول وعطاياهم ؟
بغداد ياحسن أصبحت عصية على وصف حالها وأحوالها ماذا يمكن لأقلامنا أن تكتب وتخط عن جرحها ونزيفها اليومي ماذا يمكن أن تنقل أقلامنا من مشاهد شقاء هذه الأسطورة التي أذهلت العالم برمته قرونا وعهودا طوال .. كيف يمكننا أن نصف حجم الدمار الذي لحق بها كيف تطاوعنا ألسنتنا وقلوبنا وأقلامنا إن نخبر محبو بغداد وعشاقهاّ من إنها أضحت من اجل سواد عيون الديمقراطية البشعة -مدينة مظلمة تنقصها الخدمات والرعاية أنها مثل الطفل ومثل الورد ومثل الضرير والأصم تحتاج إلى عناية فائقة ، عناية خاصة لايمكن لكل من هبّ ودبّ أن يمنحها لها ..
بغداد السندباد تتحول إلى بغداد ترقد في شوارعها جثث تائهة تحنّ إلى ذويها وتبحث عن حفرة ترقد فيها بسلام بعد أن هشمت ما فيها من عظام وتمزقت ما فيها من اللحوم بالدريل وأحرقت بالتيزاب..
لاتبتئس أيها الحسن الحساس جدا والقلق جدا فأمريكا الديمقراطية جدا جلبت لنا وسائل متطورة ومبتكرة في ممارسة القتل بطريقة ديمقراطية جدا..
جارتي سلمى ياحسن وصديقة عمري أظنك تذكرها .. ههه ، أم تود تذكيرك؟
هههه ، لا تغضب ، سلمى ياحسن تمنت إن تعثر ولو على إصبع من أصابع ابنها المفقود منذ عامين ونصف العام ونذرت أن تفرش العلم العراقي بطول الجسد لو تحقق حلمها واستردت عضوا من أعضاء ابنها فقد أرهقها البحث المضني والانتظار المؤلم والشوق والأسئلة التي تلحّ على الظهور بين الحين والأخر ( لم أسمته عمرا).. وفي غمرة أحزانها وآلامها لم تنس أن تقصد دائرة النفوس في المدينة وتقدم طلبات بتغيير أسماء ما تبقى من أولادها أحياء ( عثمان صار لبيب) ،( مروان صار يونس) ، (وزينب صارت هيام )..
ربما ستأخذك الدهشة والعجب مما اكتب لك في أيميل هذه الليلة وستقول إن الاعتقال قد اثرّ عليها وصارت تهذي ولاتعي مما تكتب فكيف يمكن لأم أن تغيير أسماء أولادها دفعة واحدة وما علاقة الأسماء بالموت والقتل وسأعذرك لأنك شهدت السنة الأول لاحتلال بغداد وغادرت بعدها عائدا إلى وطنك مصر أم الدنيا بعد أن ضاقت بك بغداد بشناشيلها وأسواقها ومنازلها وشوارعها وأزقتها شانك شأن كل المواطنيين العرب الذي كانوا يقصدون بغداد ويهلونّ في مرابعها عندما تضيق بهم أوطانهم ولم تكن أمريكا قد نفذت مخطط القتال الطائفي في العراق ولم يكون يدري (عمر) انه سيقتل على يد عبد (الزهرة) ولم تكن زينب تدري أنها ستبقى عانس إلى أن يتقدم بكر ويخطبها من أبيها.، ولم يكن ماجد يتصور حاله مغادرا بغداد مصابا متخفيا وتاركا روحه معلقة بهيام .
سعدت جدا حين اطلعت في إيميلك السابق لي على رسالة الصديقة العزيزة لطفية الدليمي وفرحت جدا من نبأ مغادرتها إلى باريس وتخليها عن نشاطاتها الثقافية والإبداعية في بغداد فقد كنت خائفة أن تفقد ساحة الإبداع العراقي مثقفة رائعة مثل لطفية كما فقدت العشرات من الصحفيين والمبدعين فأسمها ورد ضمن قائمة الاغتيالات التي أصدرتها فرق الموت مع المئات من المثقفين ورجال الفكر والعلم والأكاديميين وطبيعي جدا إن أكون مدرجة ضمن هذه القائمة التي قاموا بنشرها في مواقع النت واطلع عليها الكثيرون حتى وصلت ضجتها لوالداتي المريضة وخالاتي وأصبحت مثار الخوف والقلق لهن ّ يصعب علي مغادرة البيت دون إن تبادر احداهنّ في الاتصال بي عشرات المرات أين أنتي،لاتتاخري،لاتستقلي سيارة بمفردك، لاتردي على أرقام غريبة تجهلين أصحابها.ولو كنت موجودا أنت الآخر لقتلوك لأنك تعشق العراقأكثر منهم ، هم ليسوا عشاقها . بل أنت ، أما هم فهم لصوص الليل الأمريكى الخانق وأعداء الحياة.
قلق لطفية في الغربة على مصائر ابنائها وأسرتها قلق طبيعي جدا، فالقلق بعد الغزو الأميركي صار رفيقا مصاحبا لكل من لايسير في ركاب المحتل وينضم إلى قوافله..
ياحسن إن الابتعاد عن الوطن والغربة مذلةّ ّواهانة يورث صاحبها الهلاك ،لطفية تفكر في تشجيع أولادها على طلب اللجوء إلى ألمانيا وسويسراوهي الظاهرة المستشرية الآن بكثرة فحكومة تجلبها المحتل لن تكون قادرة على توفير الأمن والحماية لا لنفسها ولا لشعبها..
قبل إن أنسى عزيزي ، وصلني أيميل مقتضب من زينب سلمان تقول فيها أنها استقبلت خديجة في بيتها ووجدت لهما عملا يدر عليهما مالا وإن كان قليلا إلا أنه يساعدها على العيش في زيورخ بأمان وأنا بصدد مفاتحتها باستقبال محمد وزوجتة سعاد اللذان هربا أيضا من جحيم بغداد وبنصيحة مني قررا اللجوء إلى زيورخ فهي المدينة التي حضرتني ما إن بلغني قرار سفرهما المفاجئ إلى دمشق ومن هناك يقرران طلب اللجوء إلى السويد إذا لم تتمكن زينب من ابداء المساعدة لهما ...
هل كان لك اتصال قريب مع الدكتور فاهم في ليبيا؟ فقد حاولت الاتصال به ولم افلح،شبكة المحمول عندنا لم تعد صالحة للتغطية الجيدة ، انقطع اتصالهم عني منذ فترة ولم أتمكن من الاتصال برباب زوجته ولا أميرة ابنتهما ، فإذا اتصلوا بك أو اتصلت بهم حاول أن تخبرهم بضرورة الاتصال بي أو تنقل لهم هذه المعلومة فبيتهم في منطقة الكرادة والذي قاموا بتأجيره ليستفيدوا من إيجاره في الغربة قد غادره المؤجر دون أن يتمكن من تسديد إيجار هذا الشهر لكونه تعرض إلى تهديد بوجوب مغادرة البيت دون نقل ما فيه من أثاث بسبب انتمائه المذهبي ، لم يتمكن الجيران الآخرين في المنطقة من أقناع المؤجر في البقاء وعدم أيلاء ورقة التهديد التي ألقيت إلى البيت ووجدوا نسخة منها معلقة على إحدى الأبواب الداخلية للمنزل مما اضطر أن يترك المنزل ويغادر إلى إحدى المدن المجاورة للعاصمة ، وهذا الموضوع شغلني جدا حاولت الاتصال بالأصدقاء هناك لتوفير مؤجر جديد ولكن محاولاتي بأت بالفشل لعدم توفر مؤجرين للمنازل الخاوية التي أصبحت كثيرة جدا بسبب الهجرة اليومية المتواصلة وبزخم ملحوظ جدا ، تملكني الخوف والقلق على مصير الدكتور فاهم وأسرته وهل سيتمكنون من معالجة الخلل في الميزانية والنقص الحاصل بالغ جدا يقدر ب 800 دولار شهر ..
معذرة حسن ..
انك برغم كل شىء ترسم صورة مشرقة وبراقة وإنا أعطيك واضعا قاتما عن مأل إليه وضعنا في بغداد بعد مرور سنتين على رحيلك ، هناك أمور كثيرة طرأت على حياتنا لم تكن موجودة في السنة الأولى من الغزو وقد أعلمتك عنها مسبقا ، الوضع تدهور بسبب محاولة الغزاة وأزلامهم التي دخلت إلينا من بلاد فارس من إشعال الفتنة الطائفية والحرب الأهلية وهذه هي اخطر مرحلة من مخططات الغزاة الذين يرومون تنفيذها في بغداد ، لكني أؤكد لك ولكل الأصدقاء المثقفين الذي يراسلوني بالإيميل ويأملون من الحصول على الحقيقة دون لبس والاطمئنان على وضعنا –أؤكد لكم أن هذا المخطط لم ينجح رغم المحاولات والجهد الكبير الذي يبذل والأموال الطائلة التي تنفق ، وأؤكد لكم أن ما يحدث في بغداد لادخل لنا نحن الشعب به وإنما هي أفعال شنيعة تمارسها فرق الموت والمليشيات التابعة للحكومة التي نصبها المحتل ...
لازالت صداقتي متينة وقوية مع الكثير من المثقفين من شتى المذاهب ، رعد الأشوري وتوفيق المسيحي واراس مثقف كردي رائع من الشمال وإيناس القاصة الشيعية الرائعة .حتى زينب المغادرة كانت شيعية سنية فى آن ، أم شيعية وأب سنى .
أتصل بهم ونتبادل الإيميلات والمسجات على الموبايل وأتابع كتاباتهم وشطحات خيالهم على مواقع النت ويأتون لزيارتي ...
إطمئن أيها الحسن العربي أن العدو تسلل إلى عقول بعض الأميين والجهلة ولازال المثقف العراقي بخير رغم كثرة الأهوال.
آمل أن لاتفوتني أن أجيبك عن كل التساؤلات التي تدور في رأسك وتنقر على تلابيب الدماغ فيك بإلحاح ، أدرك أن طبعك ناري وأنت من برج القلق ، إطمئن ، أحاول تدبير أموري وآمل أن لا أقع في قبضتهم ثالثة ، جرت مداهمات وتمكنوا من اعتقال الكثير من الشباب ولا نعرف متى سيتم الإفراج عنهم ، تم اعتقال باسل ابن صديقك الأستاذ فؤاد وهو مشغول بإجراء محاولات للإفراج عنه عن طريق بعض المعارف من أهل المنطقة والذين يعملون مع القوات الأمنية الحكومية ..
قلقي ينمو ويتصاعد على مصير شقيقي صهيب الذي اعتقل بعد سنة من رحيلكم عن بغداد وفي أخر رسالة وردت منه عبر الصليب الأحمر الدولي كان يتساءل هل لازلت على الاتصال بكم عبر الانترنيت، لقد أفرحني رسالته هذه والتي تعتبر الأولى منذ اعتقاله ويستفسر عن وضع صديقه ماجد ويتمنى لو انه لم يرحل وبقي في بغداد يعملان سويا ويقاومان معا هذا العدو الجاثم على صدرنا جميعا.. أنت تعرف ياحسن إن صهيب وماجد كانا منذ صغرهما ومن المدرسة الابتدائية وحتى أنتهاء مراحل الدراسة معا إلى إن تخرجا معا وجمعتهم (مجموعة الشهيد سعد ادريس حلاوة ) أيضا بناء على اقتراح ماجد ،، وتكريما لمصرى شاب احتج على سياسة حاكم عربى رمى شرفه تحت أقدام الصهاينة ، لقد كنت اشعر بحزن صهيب إبان فترة رحيلكم عن بغداد بعد تلك الحادثة المشؤومة التى أصيب فيها ماجد .
لقد قال لي ذات ليلة وكان يتهيأ مع رعد ومجموعة أخرى من شباب الكرادة أن وجود ماجد معنا كان ضروري جدا فهو يمتلك عقلية تخطيط عسكرية جيدة وكان ينجز زرع الألغام بدقة متناهية لم يخب يوما ما .
أصدقك القول ياعزيزي فلولا حادثة اختطاف ابنك الأخر حازم توأم ماجد ودفع تلك الفدية المالية الكبيرة لتلك العصابة المجرمة التي حاولت النيل من مكانتك الاجتماعية والثقافية في بغداد ، لما كنا قد سمحنا لك بمغادرة بغداد ولكنت تقاسمت رغيف الخبز معنا كما كنا نفعل قبل الغزو ، لكننا خشينا على وضعك النفسي السيئ و لاسيما إن صحتك كانت تتدهور وخشينا إن تتكرر الحالة في ذلك الوقت الذي كانت حوادث اختطاف المثقفين والعلماء والأكاديميين قد بدأت تظهر للعيان ، كنت أعلم أنك لن تتردد في الذهاب إلى دار السينما والمسرح في الصالحية للمشاركة في تقديم عمل مسرحي كنت قد أنجزته أو الإعداد لعمل مسرحي كبير كان يراود ذهنك المسرحي العبقري فى مسرح الجامعة المستنصرية لكن الظروف الأمنية في العراق بعد الغزو لم تكن تشجع على الإبداع أو العمل اليومي فلم تكن تستطيع الوصول إلى أي مكان إلا وأنت تبلع المرّ ، لازال الوضع في بغداد مثلما تركته قبل عامين من الآن ، الحواجز الكونكريتية والجدران الإسمنتية قد كثرت أعدادها بشكل لايطاق ، وزاد على ذلك كثرة الدوريات والمفارز على الطرقات ، تصور إني لم أعد أطيق الذهاب إلى المدرسة بل إني كرهت مهنة التدريس التي كنت أحبها جدا ، ولولا المعيشة الصعبة والراتب القليل الذي يسد جزءا من نفقات المعيشة اليومية لكنت قد قدمت استقالتي وفضلت المكوث في البيت لكني اضطررت إلى إيجاد عمل أخر يوفر لي مصاريف إضافية لإعالة أسرة صهيب التي فقدت معيلها الوحيد بعد اعتقاله واضطرت لتحمل نفقات معيشة زوجته وأطفاله الأربع ممن لايتجاوز عمر أكبرهم خمس سنوات ، عملت مصححة لغوية في إحدى الصحف العراقية التي تشكلت بعد الغزو لكوني اختصاص لغة عربية ، ولانبهار رئيس التحرير بعملي الدؤوب منحني فرصة عمل أخر وهو محررة أدبية مما إعطاني فرصة الاطلاع على الوضع الثقافي في البلد والتعرف على أدباء وشعراء كثيرين كنت اقرأ عنهم في الصحف فقط ، ومنهم عرفت قدرك الأدبى والثقافى فى الفضاء العربى، لاأخفيك سرا أني أفكر في تقديم استقالتي من مهنة التدريس والتفرغ للعمل الأدبي والصحفي لكني انتظر إطلاق سراح صهيب من المعتقل ليتحمل إعالة أسرته ، وأفكر أيضا في الاستغناء عن التدريس في المدرسة والجلوس في البيت وإعطاء دروس خصوصية للطالبات ، هناك ميل من الآباء للاعتماد على التدريس الخصوصي فالمدرسة صارت غير ذات جدوى بسبب كثرة العطل وصعوبة الوصول إليها ، هم يفضلون التدريس الخصوصي لأبنائهم وبناتهم تماما كما كنت تفعل أنت مع ابنتيك مناروسما أنت تعلم خبرتي في التدريس قد تجاوزت أثنى عشر عاما تمكنت فيه من تدريس أعداد كبيرة جدا من طالبات الكرادة واليرموك وطالبات يأتين لي من مختلف المناطق ،هذا ابن صديق صهيب، وتلك صديقة محاسن أختي ..
عزيزي حسن
اكتب لي سريعا في الإيميل القادم عن تحسنّ صحة ابنك ماجد ، لقد الحّ صهيب في رسالته تلك بالاستفسار عن وضع ماجد وهل تحسنّ صحته بعد تلك الإصابة البليغة التي تعرض لها عند مشاركته مع صهيب في عملية مسلحة ضد الأمريكان والذي أسفر عن إصابة ماجد بطلق ناري في الساق اليسرى ونزف على أثره ساعات طويلة لعدم تمكننا من معالجته في المستشفى خوفا من تسليمه للقوات الأميركية التي راحت تبحث عنه في أقسام المستشفيات كافة ولولا تدخل الدكتور فاهم وموافقته على إجراء عملية سريعة لإخراج الرصاص من قدمه لكان ماجد في عداد الشهداء ، أخبرني عن وضعه النفسي وهل لازال يرغب بالعودة إلى بغداد للمشاركة مجددا في عمليات قتالية ضدهم ؟،
يقول صهيب: عندما يتم أطلاق سراحي ، سأعاود الاتصال بماجد وأوفر له طريقا للعودة إلى بغداد ، أنا لااستطيع إن استغني عنه إنه صديق عمري وأخي وهو يبلغك السلام والتحيات ويقول إن صديقه عماد المصري اتصل به قبل اعتقاله بيومين وابلغه انك أرسلت معه إثناء سفره لزيارة أسرته في الفيوم – مبلغا من المال ليتم توزيعه على بعض الشباب لشراء ما تحتاجون له من السلاح ويعتذر إن كان المال قليل لكن هذا ما تمكن من جمعه من مصاريف العائلة التي أصبحت باهضة جدا فالوضع الاقتصادي في مصر متدهور أيضا ومع ذلك سيفعل ما بوسعه لإرسال ما يتمكن من إرساله لكم لدعم أعمال المقاومة المسلحة ضد الأمريكان..
وأخيرا ياحسن .
سأختم أيميل هذه الليلة النيساني لك بأمنيات عودة نيسان إلى سابق عهده ،شهرا للخير والربيع وتنظيم الاحتفالات بالمناسبات الوطنية والقومية فيها ، فهو لم يعد مناسبة فرح ، وبعد أيام قليلة جدا ، ستمر علينا الذكرى الرابعة للغزو ، التاسع من نيسان المشؤوم ، هل تتذكر هذا اليوم الملعون ، لأاعتقد انك تنساه ولا أي عقل بشري سيكون قادرا على أن يشطب ويحذف من ذاكرته هذا اليوم النيساني المروع ولا كل الأيام الآتية من بعده والحافلة بالماسي والدمار والموت البشع ..
سأنصرف ألان فالمطر زاد من نقره على زجاج الغرفة ولا أرغب أن تفوتني مشاهدة مطر غزير يتساقط وينقر حباته زجاج النوافذ ولن أجعل النسيم البارد يرحل دون أن أملأ صدري من قطراته فلن أخفيك سرا ،أشعر بأني مختنقة وأحتاج إلى تغيير هواء رئتي فلم نعد تنسم هواء نقيا بل هواءامشبعا برائحة الجثث المتعفنة ورائحة القنابل والغازات السامة.
قبلات أمي الحنونة لك ودعواتها لك بالعودة القريبة لبغداد التي تحبها وقضيت فيها شطرا من حياتك إبان نضالك الدؤوب في مصر وتردد دائما: أنها تشعربحنين أم إليك ، وكأنك خرجت من أحشائها، وأن أبناءك تركوا فراغافى القلب والروح، والأمر الأقسى دوما عليها غياب زوجتك أم حازم وعن محيط أسرتنا الصغيرة والعشيرة كلها، وأسمعها تقسم بحبور دائم أن أبواب بيوتنا ستبقى مفتوحة ولن نوصدها أمام الرافضين لسياسات حكوماتهم ولكل من يساندنا في قضيتنا بنضالنا لتحرير بغدادنا وموصلنا وديالتنا وكل شبر أخضر وبقعة خضراء من أرض العرب بغداد. وسيظل بيتنا مفتوحابرائحتك ورائحة أولادك وزوجتك الرائعة أم حازم.

4
إنه القلق الذى يجلبه الرعب ياحسن

حسن
لم تفعلها سابقا وأشك أنك ستفعلها الآن أو مستقبلا..لا أظنك تتجاهل إيميلا واحدا لي أو تهمله ، لكن ممكن أن أتصور أنك شطبت إيميلي إليك سهوا بعد أن تكدست إيميلات كثر في صندوق بريدك،ولكن حتى هذه أستبعدها ، أنا واثقة إن إيميلاتي ليس مثل كل الإيميلات ، هكذا يخيل لي ويترأى لي أنك لن تهمل أية أيميل ترد إليك من بغداد المجروحة ، المكلومة ،أستغرب عزيزي ، لم تفعلها مع المئات من الإيميلات التي نشاءت بيننا منذ رحيلك عن بغداد وكانت التسلية الوحيدة لنا والراقية التي يمكننا من خلالها التواصل والاطلاع على أحوال بعضنا بها .
عشرون ليلة تنصرم منذ كتابتي أخر إيميل وكنت قد ألححت عليك بالرد السريع لأتمكن من إجابة شقيقي صهيب المعتقل في سجن بوكا والذي استفسر عن صحة صديق عمره ماجد ، اضطررت أن أكتب له رسالة وأبعثها عن طريق الصليب الأحمر دون أن أتناول شيئا عن أوضاع ماجد لكني أخبرته أنه تماثل للشفاء وسيتجشم عناء السفر إلى بغداد بعد الإفراج عنك ، هكذا أخبرته برغم إدراكى استحالة الأمر حاليا ..
أتابع صندوق بريدي مرات عدة في اليوم الواحد أملا في استلام إيميل منك ، لاأخفيك سرا أن قلقي بدأ يتصاعد عليك وأخشى أن تكون قد تعرضت لسوء ما ، عندما تتلقى إيميلي هذا أرجو إن تجيب ولو بكلمة مقتضبة (استلمت) وستجيب لاحقا عندما تفرغ من ما يشغلك ...
اللعنة على هذا الاستعمار الجديد الذي بدأ يهدد حياتنا ، نعم ياحسن ، أنا مستعمرة من قبل هذا القلق اللعين الذي صار يخيم ّ على وضعي ، تصور أن وقوف شرطي على الباب صار يسبب لي الصداع ، سماع نقير آلياتهم وهي تمر متسللة مذعورة يصيبني بالقرف والاشمئزاز ، تأخر أحد الأولاد عن المنزل يؤدي بي إلى الآلام في الرأس والمعدة والمفاصل .. تصور أن خروج أحد أولاد أشقائي من الدار دون إخبار والدته قلب البيت رأسا على العقب فقد تبادر إلى ذهن أمه أنه اختطف وتصورت أنها ستلقى على رأسى في القمامة تماما كما تشاهد لقطات من أفلام تعرضها التلفاز وتخيلت أن فلذة كبدها ملفوف بقطعة القماش الأبيض ويرقد الآن مع عشرات الجثث اختطفوا بالطريقة ذاتها ولم تكن قد مضت على اختفائها أكثر من نصف ساعة ..
لست أدري كيف نسيت أن أدون رقم المحمول عندي فالهاتف الأرضي الذي أعطيته لي لايرد هو يزيد من شعوري بالخوف عليك ..
قبل ساعة من كتابة هذا الإيميل لك ، سمعنا دوي انفجار قوي هز البيت برمته، ظلت الصغيرة سحر تبكي قرابة ساعة ولم تهدأ إلا بعد أن داهم عينها الوسن ونامت على مرفق ذراعي ، ورد ت إلينا أخبارا بأن سيارة مفخخة انفجرت قرب أحد مفارز الشرطة أسفر عن موت ثلاثة أشخاص وإصابة عشرة آخرين تم نقلهم إلى المستشفى وطوقت أرتال قوات الاحتلال منطقة اإنفجار وربما ستقوم بمداهمة بيوت ومحلات قريبة من موقع الانفجار.
أخيرا وليس آخرا ، أتساءل هل شاركت في مؤتمر دعم المقاومة العراقية الذي نظم منتصف إبريل والذىلم أتمكن من حضوره رغم توجيه دعوة رسمية لي من قبل اللجنة المعدة للمؤتمر؟ وصلنى خبر أنه تمت استشارتك من قبل اللجنة المنظمة عن أسماء المشاركين العرب والعراقيين المقيمين خارج العراق لمعرفتهم بموسوعيتك فى فهم الحالة العراقية جيدا ، وأنا كنت منشغلة في مجلس العزاء المقام على روح أحد أقاربي والذي اغتيل إثناء عودته من بغداد متجها نحو كركوك –المدينة التي تشتعل فيها الصراعات الطائفية والانقسامات المذهبية بسبب البترول الذي تحول إلى نقمة بعد أن كانت طوال العهود الماضية نعمة تجلب الرخاء والعز لسكانها المتوحدين ..
لقد سررت بهذا المؤتمر ياحسن وأنا أستمع إلى هتافات أبناء مصر الحبيبة وهم ينادون بخروج قوات الاحتلال من العراق وإقامة نظام وطني ، ووقف نزيف الدم العراقي الذي صار يطال العراقيين على الهوية


5
على مهلك علينا شوية

دفانا الحنين فى ليل الشتا الحزين
ونسمة الهوا الطرية فى عز الصيف
ست منار أو تانت منار زى ماحضرتك تحبى أن أنادديكى
وسامحينى أول مرة مش هاقول لك (تانت ) منار
لاننا من عشرين يوم واحنا ماسكين قوبنا بإيدينا
وانا عارفة إنك الآن وفورا ستخمنى نوع اللى حصل لينا لإنك بتقولى إنك أحيانا كتيرة بتابعى أحداث الدنيا من خلال الفضائيات وخاصة الجزيرة.
وأكيد إنتى سمعتى عن الأحداث اللى حصلت فى شارع الجلاء وف ميدان التحرير بالقاهرة
أكيد عرفتى أنا مين أولا؟
صح
انا منار الصغيرة
سامعاك بتزعقى وتقولى زى زماااان :
- مناااااااااااااااااار قطتى الشقية؟
صحيح انا عندى عشرين سنة زى ما حضرتك عارفة ، لكنهم لسه مصرين على إنى منار الصغيرة ، وأنا باحتج كتير عليهم ، وباقول لهم انا مش أقل من ( تانت ) منار هناك فى بغداد ، وشايلة المسؤولية بجد معاكم ـ، فليه مصرين على إنى صغيرة لسه؟ ، يمكن عشان تفضلى إنتى كبيرة فى نظرهم وعالية المقام على طول ؟
المهم
بابا أعتقلوه من شارع القصر العينى بعد مطاردة الشرطة لأعضاء حركة كفاية والمتظاهرين المصريين اللى بيحتجوا على اللى بيحصل فى العراق ، وموقف النظام المصرى اللى ما بيفرق سنتي واحد عن موقف الأمريكان وكان بابا فى طريقه لحضور المؤتمر التضامنى مع المقاومة العراقية وهذا أقل ما يستطيع القيام به الآن حسب كلامه
وواضح انهم ضربوه كتير عشان لما عمى أصحاب بابا من اتحاد الكتاب وصديقه جمال الفنان التشكيلى راحوا يشوفوه رفض مأمور القسم بتاع قصر النيل إنهم يشوفوه فذهب معهم وفد كبير من اتحاد المحامين ومعظمهم من أصدقاء باباومن المنظمة المصرية لحقوق الإنسان ، وأنا كنت أعطيت إيميلك الأخير لعمو سرحان اللى هوا ناشط كبير فى المنظمة عشان يوصله لبابا واحنا اليوم رايحين نشوفه بعد ما نجحت المساعى لزيارته وهاكتبلك بعد ما رجع من عنده ويمكن يكون كتب لك حاجة من المعتقل لأنهم رحلوهم لمعتقل القلعة الشهير ،وانتى عارفة إنهم أيام أنور السادات كانوا أوهموا الناس بإغلاق المعتقلات
لكنهم على رأى بابا ، أغلقواالأبواب الأمامية وفتحوا الأبواب الخلفية
هارسل إيميل ان شاْء
الله بعدما أرجع من عنده
ولأن أخى ماجد مايزال طريح الفراش يتألم من جراح جسده وروحه ، لكن شقيقى حازم هائج ، واحتجاجاته صارت عالية وخاصضة بعداعتقالبابا ، وماما خايفة جدا عليه، وهو لا يمتثل لأوامرها ولا لنصائح خالى ، وأظن لوهيام أرسلت له رسالة قد يستمع لاستعطافها أن يهدأ وأن لايلقى نفسه فى نارهم ، تكفينا بلوة اعتقالبابا الآن
وهذا ما سيقوله ابى لكم عند خروجه ان شاء الله

منار حسن
أومنار الصغيرة

لحظة تسلل للأ[مام



لحظة تسلل للأمام


علي أبو سليم عجوز .محني الظهر ، رأسه تسبق خطواته ، وخطواته ترفعها قدمان هزيلتان مشعرتان ، بصره مرمي تحت رجليه ، يخبُّ خباً وهو مندفع نصفه الأعلى للأمام ، وفي يده منجل جديد محمرُّ من إثر نار محمد العزوني الحداد فيه ، والأخرى في سيالة جلبابه ، والسيالة يؤطرها قيطان من قطن رمادي بهت لونه وتهرأت حوافه .
عبر قناة ضيقة عند رأس غيط البرسيم من فوق مدق طيني منخفض علي حافتي القناة التي يلمع في مجراها الضيق بقايا ماء لعلها من بقايا مطر قريب .
خلع حذاءه الميري الذي اشتراه إبنه له من سوق دكرنس والمبلل بالماء ، وخلع جلبابه ، وما تزال رأسه منكفئة في منتصف المسافة بين انتصابه وموطئ الأقدام ، وضعها مكومة فوق الحذاء ، وبرم تكَّة سرواله الدمٌّوري علي خاصرته وشمَّره أعلي ركبته ، وقرفص عند حافة حوض البرسيم العالي المهيأ للحش ، وبقايا ماء المطر تبظٌُّّ من بين أصابع قدميه باردة .

الشمس ما تزال غائبة هناك . في الأفق ، وحبات الندي الثلجية اللامعة علي أوراق البرسيم وسيقانه منذ منتصف الليل ما تزال باقية .
تكوَّم خلفه في سرب طويل ما انتهي من حشِّه وهو ما يزال منكبَّا ، لا يرفع رأسا لمن يلقي له بتحية عابرة ، ولا يلتفت لمتابعة مرور القطار والرد علي تحية ابن أخيه سائق القطار حين يهديها له بصافرته .
فقط يرفع علي أبو سليم يده القابضة علي المنجل الجديد العالق بأسنانه الحامية كِسرة من جذوع سيقان البرسيم أعلي رأسه ، ويواصل ، ولما فرغ من إنجاز حشَّه ، وما قدَّره يكفي البقرة الحلوب وابنها الفطيم و الحمار والثلاث نعجات والأوز الذي في الحوش خلف الدار ، غرز سن المنجل في الأرض اللدنة ، فصارت يده الخشبية شاخصة لأعلي .
تحسَّس ليونة طين الأرض المحشوشة تحته ، فضغط بكفيه عليها ، وزحف ساحبا ركبتيه بعنت شديد حتى جسر جاف يفصله عن أرض جاره المتولي الكرداوي ، لفَّ جسده المتشكِّل علي هيئة دابة ، وكأنه يتهيَّأ أن يطأ أحد أحفاده الظهر المتعب بعد عشاء كل ليلة

، ارتكز بمرفقيه فصارت مؤخرته في حضن الجسر الجاف تماما ، رفع نصف جسده العلوي وطرحه من الكتفين فوقه ، راح يحرك نصفه الأسفل حتى استوي جسده باستقامته ، فكَّ ربطة رأسه القطنية ، وكان عرق خفيف دافئ تحتها .
اغتبط للحظات وهو يري ثلاثة مدقات من البرسيم المحشوش يكوِّمها ابنه البكر كومات يسهل حملها ، راح يتابعه بحبور وهو يرفع الربطات فوق العربة الكارو خلف حمار منكب علي كومة منه عند رأس الغيط .
رغب علي أبو سليم أن يفرد انحناءة جسده أكثر علي الجسر الجاف ، وأن يقتنص القليل من دفء شمس شتوية كان قد اكتمل لمعانها فوق الغيطان ، تمدَّد ، ولما انتهي ابنه البكر من رفع كل البرسيم المحشوش ، ورصه فوق العربة ، حمل أباه فوق ذراعيه ، ممددا . لا يهتز له جفن ، ملفوفا في جلبابه ، سوَّي له منامة فوق ظهر العربة أعلي البرسيم ، ورفعه .
وكان حذاءه الميري لمَّا يزل مبلَّلا بالندي عند حافة القناة الضيقة علي رأس الغيط ، وكان ابنه البكر يتابعها بأسي وهو بطريق عودته مطرق الرأس
.

تواطوءعلى حدود الموت


تواطوء على حدود الموت

هذا القوس المرتفع من غبار ، يجعل من محطة القطار ما يشبه فوَّهةفرن ، ويجعل من القطار ذى التسع عربات حديثة الطلاء ، الرمادي. أشبه بثعبان يفرُّ من جحرٍ عميق .
لم يكن هذا القوس من الغبار مألوفا .كما يحدث .خمس مرات فى اليوم ، ولا تلك الزعقات التي تكفي واحدة منها أن تزعج صغار الأطفال أو تهيِّج الطيور من أعشاشها وتفزع الدجاجات الراقدات علي البيض فوق السطوح ، ولا هذا الصخب ، ولا هذا الدبيب العالي. الذي يلتحم مع قوافل الغبار المهيَّجة . لأنه ، وقبل مروره علي تلك القري الكثيرة الراقدة في فضاءات الحقول الواسعة . بين مدن متباعدة . في خطِّ مستقيم حينا ، ومتعرج حينا ، ومقوس مرات كثيرة ، كان قد هُـيِّئ له طريق مرتفع . يقطع الغيطان علي الجانبين ، ويصعُب ارتقاؤه لدواب وصغار الآدميين .
كان هذا القوس من الغبار ، المتعانق بالصراخ . ينمَّ عن وقوع قريب لأمر غير معتاد أو مألوف . هو في الأخير . جَلَلٌٌ
0جعل الذين هبطوا من القطار متساقطين قبل أن تهدأ عجلاته من هديرها في المحطة المقتربة ، يركضون للخلف ، مذعورين ، هنا وهناك ، من فوق الطريق الترابي العالي ، يتناثرون كجراد منتشر. عند منتهي مدقِِ صغيرٍ يتّسع لعربات الكارو بين الغيطان الممدودة علي الجانين ، وينقطع عند شريط السكة الحديد ، المرتفع قليلا عن المدقات والقنوات والمراوي
وأمر الاحتماء من خطر القطارات موكول لمن يمرالقطار عليهم. وهم منكبُّون في أعمالهم بالغيطان . نهارا ،ذاهبين إليها أو عائدين ، يلمحون تسرُّبه من ضجيجه المتوالي الرتيب ، وصفارته التي تطير في فضاء الغيطان ، يدركها القريب والبعيد . فلماذا المخاطرة ؟ .
لكن حمارة منصور إبن نور العيون ، الوحيد ، الذي أنجبته بعد زيجات متعددة ، هنا في البلد مرة ، وفي طماي الزهايرة (قرية الست أم كلثوم التي بها ولدت وشقيت بطفولتها) مرة أخري ، وثالثة في حفير شهاب الدين. آخر الزيجات .
كان ثالث الأزواج عابر سبيل . يبيع أقفاص الجريد ،متجوِّلا في بلاد الله ، ولما فرغ من بيع أقفاصه ، كان الوقت غروبا ، وآخر من أبتاع منه .كانت نور العيون وأمها قفصا لكتاكيت الثلاث دجاجات الراقدات علي بيضهن عشر ليال ، عندها أقام ليلة في حضرة أمها . قبل مغادرتها الدنيا بأعوام ، وفي صباحها ، كان الشيخ زلاقي بعد فراغه من صلاة العشاء قد عقد قرانهما ، وشاهدان من المصلين بصحبته .
منه أنجبت منصور . أسمته كذلك . لأنها كما تقول : أنجبته لينتصر لها علي زمانها المعاكس ، وكانت ترفض استسلامها له ولحكمه عليها. أن تظل بقية عمرها وحيدة .
ولكن الزوج الذي لا يُعرف له اسم لحد هذه اللحظة ، والذي خرج ببضاعته بعد مرور عام علي ولادة منصور . لم يعُد حتى هذه اللحظة .
ولما لم تصبر هي علي غيابه ، ولم يفسِّر لها أحدٌ من أهل قريته . أو يٌقَوِّي عزمها في البحث عنه . حملت منصور ، وعادت تسكن دارها التي تركتها ، وقراريطها الثمانية . نصيبها من أرض أبيهاانتفاعه من الإصلاح الزراعي .
ولما كبر منصور بين يديها وأمام عينيها ، وتقوَّي به ظهرها في الدنيا ، رافقته ذهابا وعوده إلي الغيط ، وأوكلت أمر استيعابه الدنيا وأحوالها وخفاياها لابن خالتها . الذي لم ير لأبيه هو الأخر وجها ، فعركته الدنيا وعركها. حتى استقر علي أرضٍ لينة مع زوجة وكثيرٌ من صبية وبنات .
كانت حمارة منصور لها رأي أخر بالفعل .
فالذي يتشمَّمها ، ويضرب بعروة رأسه في بطنها ، ويدخل لها تحت زند العربة الكارو التي تجرها ، يضرب ببوزه في أثدائها الممتلئة ، وينكش الأرض بحافريه الخلفيين فتقرض له بأسنانها العريضة، برفق ،في شعر رقبته الناعم . يعاود نطحها ببوزه في بطنها، فتُبعده بمودة من تتهيأ لإرضاعه ، وتوقن أن الانتظار لن يطول بوقفتها الغير مريحة حتى يعبر القطار ، لحظات ويعبر ، وسيمضي ، ووقفتها تنتظر لن تطول برغم اعتيادها عليها ، وستكابد جر العربة مرة أخري ، ومنصور وأمه تتدلي سيقانهما فوق زنديها، وبخلفهما صندوقها بقايا كنس الزريبة والقش المهروس وفضلات ما بعد يوم الخبيز ، وسيهبط منصور بلا شك علي الأرض، يشدٌّ من أزرها ويساندهابالدفع معها نحو المرتفع الترابي كي يعبروا شريط السكة الحديد إلي الجهة الأخرى ، وستدفع معه نور العيون بعزم لا ينقصها ، وحينما يعبرون. سيرفع منصور زندي العربة لتسقط مؤخرتها للخلف ويفرغ ما بصندوقها علي رأس الغيط ، وسيدير وجه حمارته ويربطها داخل الزندين الشاخصين لأعلي ، ويرمي أمامها ربطة الدنيبة ، ويُبقي وليدها طليقا يركض حولها أو يعاود محاولته الرضاعة منها كلما عنَّ له ذلك ، ويتشمَّمها ويٌمرغ جسده الصغير علي تراب المدقات القريبة لكنه لا يهدأ ، وأمٌّه متململة ، ترفٌس برجليها الخلفيتين ، وتهشٌّ ذبابات سوداء غليظة عن فخذيها ومؤخرتها بذيلها ، وتضربه ببوزها مرة وبرأسها أخري ، ومنصور وأمه مستغرقان في استحلاب حكايتهما ، لا تدري
ماذا كان بينهما من حديث حتى هذه اللحظة لم تتذكر نور العيون تفاصيل كثيرة مما جري ، لم تمتلئ لها آنية من حكايات. تثرثر بها وتجترها. وقت اشتداد حسرة التذكُّر ، لتستدفئ وتلتذ بها مرافقاتها في لحظات شجن مهما كانت مرارتها .كعادتهن في البلد ، أو خيطاً يصل بين الثكالى والمحزونات لما يلتم شملهن بأية ساعة ، وهي كثيرة .
لكنه .الغبار يتصاعد علي الجانبين ، والهدير قادم ، وصفير يشقٌّ سماوات الغيطان الواسعة ، وحمارة منصور تٌبعد صغيرها .لأنها غير مهيأة لإرضاعه ، فيتذمَّر الصغير متدلِّلا ، مقتربا يلهو بحضن الشريط الحديد ، فترفع أمه رأسها منتصبةً كالمستشعر خطرا ، كان الصغير يتشمَّم أعشابا شوكية نابتة بحضن الشريط الحديدي ، فيزداد تململها ، ويرتجف شعر رقبتها ، فيجذبها منصور من مقودها الملفوف حول معصمه ليشجٌب فيها رغبة الاندفاع، وقد كانت منذ قليل ساكنةً مستسلمة لمداعبات صغيرها .
صرخت نور العيون ، صبت قوةً في ساعديها مع قبضة إبنها الممسكة بمقود الحمارة ، راحا يجذبانه سويا إلي صدريهما ، بينما هي تندفع بخوفها نحو صغيرها .
هذا فقط ما تذكرته نور العيون ، وما تذكره .
لأنها كانت لحظة خاطفة ، انسلَّت فيها الحياة كما تنسل شعرة من عجين لدن .حين عبر الصغير غير مبالٍ بلحظات قبل عبور القطار ، لتندفع أمه بحملها الذي تجره وتحمله . ولأن نور العيون كانت قد سقطت علي الأرض مغشيا عليها ، ولم تشاهد لحظات منصور الأخيرة .