ما أجمل الأنا لك يابغداد

ما أجمل الأنا لك يابغداد

الأحد، 8 يوليو 2007



وهل الشعرديوان الأقلية فعلا ؟

ثمة أسئلة جوهرية تخامرنى عقب كل لقاء شعرى أشارك به _ متلقيا ومحباللشعر على الأقل_ ، ولأنى لست بشاعر فى الواقع.، ومن هذه الأسئلةهل لا يزال الشعر (ديوان العرب)؟
هل هناك بعد، فعلاً، نقطة تواصل بين قسم كبير مما يكتب اليوم من قصائد وبين جمهور المتلقّي؟
وبمعنى آخر، هل لا يزال القراء على استعداد لسماع ما يُلقَى عليهم؟
سؤال صعب، لا بد ان يضعنا في مواجهة ذاتنا قبل أن يضعنا أمام اي شيء آخر. وصعب ايضاً هذا السؤال، من شخص مثلى لا يزال يملك حرقة الكلمات هذه، التي تقوده الى شتى المجالات.
أسئلة تثيرها أمسيات القراءات المتعددة التي يعرضها (لقاءات الشعر )كل فترة وأخرى، حيث يبدو الشعر أقل المخلوقات احتفاء به فيما لو قارّناه بباقي النشاطات الفنية وبخاصة حفلات الغناء العديدة والمتعددة التي تعرضها مختلف المسارح والقاعات والأماكن
لنترك قليلاً الآن الاضطراب في البرامج الشعرية، التي غالباً ما تستبدل فى كل لقاء شعرى، ولنسأل عن (مصير الشعر)هذا المصير الذي يبدو كابياً بعض الشيء، على العكس من السنوات الماضية حيث كان يعرف ألقه الخاص.
أولى المشكلات إعراض الجمهور عن الحضور
بعض الامسيات لا يتجاوز عدد الحضور فيها العشرين شخصاً، ولو تأملنا فيهم جيداً لعرفنا أنهم الشعراء المشاركون في معظم اللقاءات الشعرية الذين جاءوا لسماع زملائهم، وكأنهم بذلك لا يرغبون فقط في التضامن مع اصدقائهم ولا في شدّ أزرهم فقط، بل وكأنهم يقولون لهم، لقد جئنا للاستماع اليكم، فعسى ان تبادلوا المعروف وتأتوا للاستماع الينا، حين نقرأ
متعب الأمر بشكل كبير حين يصبح على هذه الدرجة. ومتعب أن نفقد هذا التواصل مع هذا الآخر الذي نعتقد واهمين انه موجود
ربما كان من السهل إيجاد اسباب متعددة وشتى لكل هذا العزوف عن الحضور. من السهل القول إن الناس مشغولون بامور اخرى، وبأن الحروب المتنقلة او اوطاننا تدفعهم الى سماع اشياء اخرى. ومن السهل ايضا القول ان الفضائيات أسست لثقافة سهلة بدأت تسحب نفسها على كل شيء لتصبح هي المثال الاعلى الذي يحتذى. ومن السهل القول مرة اخرى، ان الاوضاع الاقتصادية التي تؤرق جميع الشعوب العربية، تلعب دورا حاسما في إبعاد الجميع عن الكلام المنمّق الذي يقوله الشعراء، كل هذا وارد وقد يكون صحيحاً
لكن هل بإمكاننا ان نطرح السؤال بشكل معكوس؟
ماذا لو كانت المشكلة الحقيقية تكمن في الشعراء انفسهم؟ لقد بُني الشعر العربي منذ القدم على نمط ثقافي، لم تنجح الحداثة في تخطّيه بعد، ربما تكمن المسألة كلها في هذا الحيز.
الكتابة الشعرية اليوم في مكان، و(الثقافة) العربية والاجتماعية في مكان آخر. من هنا يبدو أنه من الصعب جداً ردم هذه الهوة ليس الشعر من يستطيع ذلك، بالتأكيد ليس الشعراء ثمة نظام ثقافي قادنا الى ما قادنا إليه الآن
ومع ذلك من الجميل ان نبقى نحلم بأن الشعر لا يزال ديوان العرب
بالحقيقة نحن بحاجة إلى إعادة التفكير بكل ما أنتجناه لغاية اليوم



نوافذ الملح ، واللعبة الحرة فى الكتابة


حتى الأمور التافهة لها علاقة بالثقافة، وكذلك المواد البخسة الثمن ك<<الملح>>. فنحن نتصرف دائماً على أن الثقافة أرفع من أن تتحدث عن مزبلة أو مياه نتنة أو مواد رخيصة.

هي تحكي قصة الذهب لا الحديد مثلاً، وقصة الإنسان لا الحيوان، وقصة الشجر العالي والغريب لا قصص الطحالب والطفيليات

تتحدث عن بطل يطول رأسه السماء أو، على الأقل، السقف، لا عن شخص هزيل مشرد خسيس ونكرة بين البشر
قال لي صاحبي: كيف تعكف على قراءة كتاب بهذا الحجم عن <<الملح>>. أي فائدة تجنيها من ذلك؟
لم أستهجن استخفاف صاحبي بالوقت الذي أصرفه على قراءة أكثر من خمسمئة صفحة عن مادة الملح، فهي، في الأساس، مادة بسيطة التركيب علمياً، وسهلة المنال والاستخدام في أيامنا، وواضحة إلى درجة أن لها لوناً واحداً أبيض (وإن بدرجات) وشكلاً واحداً (وإن اختلف حجم الحبة منها).

أنا، نفسي، استهولت أمر قراءة مثل هذا الكتاب، إلا أن حشريتي العلمية هي التي سحبتني إلى القراءة بعين متفحصة متنبهة، حتى أدركت أنني أمام كتاب ثقافي بامتياز، اتخذَ من الملح محوراً يدور حوله حجرُ رحى الحضارات العالمية
رحت أجذّف في الكتاب بمتعة، نادراً ما تحل بي أثناء قراءة كتب الحضارات

أجذف ومركبي الملح، وإذا بي أخوِّضُ في تاريخ العالم والحضارات، من دون أن يذوب صبري أو يذوب قاع المركب، ترافقني لباقة كاتب، هو مارك كورلانسكي، استطاع، بالفعل، أن يفتح في قلعة تاريخ الملح نوافذَ على فلاسفة العالم ومؤرخيه وعلمائه ومجتمعاته وعاداته وتقاليده، من بدء الخليقة حتى اليوم.
ما أردت أن أقوله، بكل بساطة، أن كتاب <<الملح>> يشكل درساً لمهنتنا في الصحافة الثقافية. يعلّمنا أن أي شيء يمكن أن يكون مادة مقالة ثقافية أو تحقيق ثقافي أو ريبورتاج صحافي، أو موضوع كتاب. كل مادة في هذا الكون تحمل تاريخ الخلق. إذ يمكن أن تعوم الثقافة فوق قشة خفيفة، أو فوق مركبة فضائية، لا فرق. كل مادة يمكن أن تحرك الأفكار، وكل فكرة يمكن أن تحرك مادة

إنها اللعبة الحرة في الكتابة، التي لا حدود لها، ولا كوابح، ولا قوانين، ولا أخلاق. ولا فرق، في أفق الكتابة، بين شيء من يومياتنا أو شيء من أيام الخلق السبعة، أو عجائب الخلق السبع
إنها اللعبة التي تستطيع أن تلغي الحدود بين التافه والمجيد، أو تضيء الحدود بينهما، اللعبة التي تفتح أمام الكلمة الصغيرة فضاءات لا حدود لها، أو أمام المادة الحقيرة أفق دورات ودورات من حياة صاخب


أيتها المتزهدة التي استباحك الحب


لقد مر الزمن الكافي كي تتبدد الأنواء على الشواطئ وتترسب الشوائب في القيعان ولا بد لنا من الوقوف على العتبات ربما كلانا كنا أنانيين ، كلانا كان يطيل النظر إلى مرآته
أنت لم تشفقي حين تركت كف قراراتك تفعل ما تشاء بوجه المعاني
وأنا لم أرحم أسئلتك حين آثرت الصمت
لغة الصمت لغة الذين لا يعرفون شيئا ، ولا يحبون المعرفة
الصمت لغة الذين يعرفون عن كل شيء ، ويريدون المزيد
كان لا بد لي من التحنط كالمومياء، والتكوّر كالقنفذ ، والتجمّد كالدهشة
. تلك وسائلي في الدفاع عن رخاوتي ، ولافقاريتي ، وهلاميتي حين تداهمني المفاجأة في لحظة أكون فيها قد خلعت أصدافي
لا جدوى من التغيّب
.. ولا بد لنا من أن نقف على العتبات ، لنتبادل إشارات الاستفهام ، والتعجب لا بد لنا من أن نجلس على المائدة لنتـــــبادل أطراف العتــــاب كنتِ دائما تريــــــــدين أن نعتـــــــقل علاقتـــــــنا في أطـــــر ، وأصص ضيقة ، وصغيرة وأنا لا أحب تعريف الأسماء بقصد سجنها في كلمات
ولا أحب زمكنة المعاني
فأنا أرى الماضي مستمرا ولن يصل إلى الحاضر
.. والحاضر مستمرا ولن يطويه الماضي ، أو يغــطيه المستقبل
والمستقبل مستمرا ولن يرشي الحاضر كي يدخل إلى الماضي ويذوب فيه
حين اتخذتِ قرار حبى كنتِ شديدة العطاء فظننت أنك بإعادة حاجياتي ، ومسح خطواتي من على غبار القطيعة تستطيعين تنفيذ نواياك كيف لك ذلك .. ؟ دون أن تصابي بداء النسيان الكامل دون أن تخلعي ذاكرتـــــــك منــــــك ، تلك التي احتل جلّ مساحتها الطبغرافية دون أن تمســـــــحي جلدك بكل تغصناته ومساماته المروية بعرقي
دون أن تخلــــــعي قلبك المسكون بأطيافي دون أن تنزلي عن حـــــــصان الزمــــــــن الجامح دون أن تكــــــوني أنت
حين اتخذت قرار حبى كنت شديدة الجمال هـــــــاربة بكل مخـــــــــاوفك من مواجة الانسحاق إذا ما بقيت مصرّة على حبى ، ودفن ماضينا المؤلم في النسيان الأبدي فعليك أن ترفضي اسم أبيك وتمسحي وجه أخيك وتحطمي نصائح أمك
عليك أن تغتسلي من ماضيك كيف ستكونين لحظتك وأنت الماضي المنكفئ في اللحظة الحاضرة .. ؟!! عليك أن تغيّري الأريكة التي تعج بغبارنا ، والدرج اللاهث بأنفاسنا ، والمنزل الذي كنا نعتلي منه على الحرمان والمدينة التي لا تعرف كيف تربي الحمام ليس امتحانا لخلاياي حين تتركينها دون ترتيب وترويض وتأنيس وتعشيب
ليس امتحانا لماردي حين تحتجزينه في قمقمه ليس امتحانا أيتها المتزهدة التي استباحك الحب كيف لك أن تتناسي تفقّد سنونواتك في ربيعي؟!!
كيف لك أن تحرريني من جسدي ، وتطلقيني حرا خارج أسوارك .. ؟
ألا تخشين أن أصوّب كل ياسميني على جسد امرأة سواك .. ؟!
هل أنت واثقة من أن الأخرى قد ضاعت في زحمة الأجساد وبدلت أسماءها .. ؟!
هل أنت واثقة من أنهالن ترث أسلحتي البدائية وبندقيتي العتيقة تلك التي أخشى عليها العطب في الشتاء والانفجار في الصيف .. ؟!!
هل أنت واثقة من أن لا أحد سواك يستطيع أن يعيد ترتيبي
لا أحد سيعيدني إليّ ..؟
هل أنت واثقة من أن اللجـــــــام الأخير لن يفلت من عقاله وأن فكرة ما قبل الجــــنون ستبقى راسخة بأسوارها وأن الفوضى واختلاط الشخوص ، وتعثر الأفكار لن تضغط على الزناد ،
وحينها : تتساقط الشظايا ببطء تحت قصيدة الرثاء الغائبة ومن ثم يدوي انفجار هائل

السبت، 7 يوليو 2007


عزلة الأدب - تقنية اكتشاف الداخل


هل علينا القبول أن إنسان هذا الزمن بائس؟ حيث البؤس هنا لم يأت من لوعة الحياة وثقلها بل جاء من جفافها وفراغها بالرغم من الضجيج والدهشة المستمرة من اكتشافات لا يبدو أنها ستنتهي عما قريب، إلا أن الأمر واضح ويقيني، فبهذه الاكتشافات يفرغ الداخل ويمتلئ الخارج.
بكل اكتشاف واختراع تمليه التقنية نكتشف استلابنا وبعدنا عن أنفسنا، والذي يحدث بالمعنى العام هو أن الحياة التي في داخل الانسان تفرغ كل يوم، تمنح طاقتها إلى الآلة، إلى عالم الآلة، أو قل إلى عالم الانسان الالي، ولقد تم تأثيث مكانة (السوفت – ويير) كي ينتهي الانسان مستلبا حيث الروح يشار إليها الآن أنها من أعمال الخارج وليست من أعمال الداخل. وسيقبل هذا الكلام ويدركه المبرمجون والتقنيون رفيعو المكانة الذين يتواصلون يوميا مع الآلة بلغة غريبة عنهم ألا وهي machine language في حديث الفلسفة المدنية يشار إلى مراحل تكوين العالم والمدنيات بموجات متلاحقة صاعدة هابطة، يتم تخزين الطاقة الانسانية في شوط منها وتفريغها في شوط آخر.
وليس هناك من اختلاف بيننا وبين أمنا الطبيعة.فالمد والجزر قبل أن يكونا في ميدان الشواطئ والأبحر هما في قلب الانسان نفسه.

كأن الكون هو إنساننا الكلي ولا نفعل سوى العيش في داخله والتناغم مع نشاطه، ان نشاطنا هو نشاط كوني.
الوقت الآن متأخر، هل غابت الشمس؟ كما قال كازانتزاكي في إفتتاحه لعمله الطريق إلى آل غريكو وهذا الغياب هو غياب المعنى الذي شكلهما الدين والأدب. يصف كازانتزاكي في احدى فقراته كيف العمال يستيقظون صباحا ويهرولون إلى أعمالهم في وصف استهجان وهو لا ينتقد الساعين وراء لقمة العيش بقدر ما ينتقد الزمان حين يدفع القوة العالمية الى موضع الاستهلاك، وكذلك أومأ تشارلي تشابلن مبكرا في بداية القرن الماضي في أحد أعماله – الازمنة الحديثة- أن الانسان ليس سوى ابن الآلة. فهو يتحرك كما تتحرك ويقفز كما تقفز.

واليوم يتضح جليا، فنحن شئنا أم أبينا نسكن الآلة من دون علم أو إدراك.
لسنا نحن أبدا الذين خلقنا من لحم ودم، روح تشتعل وتريد أن تتوهج، بل كائن آخر من حديد وأسلاك. وإن كانت هناك شعلة ما فهي شعلة الخارج، بصيص الآلة الذي يجذب الضائعين إليها.
إن الهم المشترك، الهم العالمي اليوم هو هم التقنية، فالحديث الذي يشترك فيه القاصي والداني، الصغير والكبير هو عن عالم الآلة. الاتصالات والكومبيوتر على سبيل المثال أو التلفزيون والذي راح يحتويه الكومبيوتر أيضا ويسلب قواه، كيف يعمل وكيف يبرمج

أما الحديث الغريب غير المشترك، الحديث الذي لا تلق له أذنا صاغية فهو حديث الأدب. ما الأدب؟ أو بكلمة معاصرة بعيدة عن أجواء سارتر، لماذا الأدب؟ في جو مشحون وإزدحام مضطرب، يضيع الزمن، ويضيع السؤال.

لقد مرت البلاد العربية بصحوة (توصف بالكاذبة غير الواعية) بدأت في القرن التاسع عشر بمحاولات بطرس البستاني والمنورين السوريين والمصريين - حيث من يطلع على كتاباتهم ما اشبهها بكتابات اليوم وكأن العالم العربي عاد أكثر من مائة عام الى الوراء حيث تناقش مقالات اليوم تحرير المرأة وقيود الحجاب وحرية الرأي الخ- وقد أدرك معظمنا نهايتها- ففي حوالي عام 1974 مر مظفر النوب بسورية كي يلقي قصيدته وتريات وكانت هذه القصيدة على لسان الصغير والكبير. ثم تلتها قصيدة لا تصالح لأمل دنقل.

لا أضع هنا تعينات نقدية ولا تأريخا لنهاية الشعر أو الأدب ( أو بكلمة أشمل نهاية الروح العربية) بل أشير إلى رموز تصلح تعينات لتأريخ نهاية الأدب في الشرق. في ذلك الوقت انكتبت أيضا شرقي المتوسط ومدن الملح. كانت تلك المرحلة هي المرحلة التي أغلقت الباب وراء الأدب- وقد حمل متاعه وخرج.
في سوق الشعر اليوم السؤال المؤرق، هل مات الشعر، وانزوى رواده وقلت حصته من حياتنا؟ هذا السؤال الذي يطرح كل يوم بحلة مختلفة، يفتقد من يطرحه الرؤية الكلية للعالم، لم يمت الشعر بل الذي مات هو الانسان. لم يمت بل يحتضر عاجزا مشلولا لا يستطيع النطق مستلقيا على سرير المرض، ينظر بعين لا روح فيها.

ماذا تحمل نظرات عاجز مشلول ملقى في غرفة تمريض معزولة؟ إن ترهل الشعر فإن الأدب كله سيترهل، فالشعر هو قلب الأدب ولا يمكن أن يحيا أدب من دونه.
بالطبع – لا أحد يموت، حتى الانسان لا يموت، لكن هذا، الموت، هو مُعامِل الروح المراوغة، والذي حدث هو أنفصال لجزيرة كاملة اسمها الأدب انفصلت عن العالم كله وأمست قائمة بنفسها بعيدة غريبة. لا أحد يأخذ بشأنها.
وكمثال، يكتب سعدي يوسف، عن الشيوعي الأخير.

سلسلة من الانطباعات والاحاسيس التي لن تؤثر في أحد ولن يقرأها أحد. سيقرأها أصدقاؤه الشعراء- إلا أن هذه القصائد هي في الواقع دلالة على نهاية العالم في نفس شاعر عربي كبير. وكذا الحال مع كل شاعر.أن الانطباع الأخير عن حضور محمود درويش الشاعر في الوعي المعاصر أخذ يتضاءل وينحسر.

ورغم تدني فنيا سجل أنا عربي عن لوحته (الديوان) الجدارية فإن الأولى أحرزت ثقلا لم تحرزه الأخيرة مع الفارق بين القصيدة والديوان.وهكذا فإن حضور أمسية شعرية هو حضور لحفل جماعي أو لعيد ميلاد، والتقاء لاصدقاء ينشدون فك العزلة عن طلسم الشعر، لكن ليس باليد حيلة. فالأدب بما فيه الشعر لا يدخل في صيرورة اليوم ولا مكان له في احلام الناس.
لقد عاد إلى يوتوبياه وصار فائضا عن الحاجة.

يحس ذلك من يمشي في شوارع العواصم العربية التي ازدحامها هو فيض غير منظم، اندلاق سكاني لأناس حالتهم ليست حالة أرواح تعيش لمهامها الانسانية بل حالة أرواح تعيش لمهام دنيوية تحكمها طاقة ميكانيكة أرضية يصعب إيقافها.
بصيغة لافتة مختصرة نلاحظ معا أن الأدب قد اعتمد طيلة مراحله على الكلمة، فالكلمة هي سره وروحه واينما حضرت يحضر أما حين تغيب فإنه سيغيب ويفقد توازنه ويعود ليدور حول نفسه في متاهة العزلة.
الذي نلاحظه في هذا العصر هو غياب قدرة الكلمة وحضور غاشم للمعلومة، لقد استبدلت الكلمة بالمعلومة data وأخذت الأخيرة مكانتها وحصانتها في مجتمع اليوم.
من دون معلومات لا أحد يستطيع الحركة، ولا طريقة من دونها للتعامل.
القول الآن للمعلومة ( الأخت الصغرى للرقم) حيث الكلمة غائبة مقصية وهنا إحدى اسباب تدني اللغة، فالاهتمام بالرقم (المعلومة) أضعف بنيان اللغة وجعل استخدامها استخداما صحيحا مقصورا على أكادميي التراث واللغة.
ونرى حتى الأدباء والشعراء الجدد لا يستخدمونها الاستخدام الذي كان من قبل خمسين عاما على سبيل المثال، نصوصهم مليئة بالاخطاء وفقيرة روحيا ويحار الشاعر الآن كيف يبحر في محيط اللغة.
فهو مرة يريد تحطيمها ومرة تفجيرها وفي الواقع لا يفجر شيئا، إن التفكير في طريقة التعامل معها هو دلالة على البعد عنها وفقدها.
واللغة التي أتكلم عنها ليست الحرف والكلمة المجردة بل هي الصورة وقد خلقت في كلمة- التي هي بصيرة في نهاية الأمر.
الصفحة الأخيرة التي كتبها الأدب في حضارة اليوم- بل مدنية اليوم، هي صفحة الهروب، أقصد تيار الوعي الذي يتدفق دون هوادة وبلا رابط. حيث أن الإهتزاز الذي حل به (بسبب التغير الديموغرافي ربما الناتج عن تطور التنقية والطب) أفقده جأشه وأدخل فيه رعشة وهذيانا.
لذلك يحاول بروتون الكتابة الميكانيكة ويحاول أن يكتب شعره وهو نائم! وتأتي هلوسة السرياليين.
لقد فقد نظام الرؤية وراح منطق الحياة يختلط أمامه. لا وجود الآن لأدباء مبدعين بالمعنى المدني التاريخي، فأدباء اليوم ليسوا سوى ظلال، شهداء مغفـْلين يحملون ضريح الأدب للأجيال القادمة والتي على ما يبدو لن تقدم قريبا.
هذا الكلام يذهب إلى الغرب، أوربا وأمريكا، أما عنا نحن الشرقيين، العرب، فما نحن سوى أبواق تنقل صدى الآخر.
لهذا نلمس العجز دوما في حالتنا الأدبية والثقافية، فالنص الذي ينتجه الأديب العربي بعيد كل البعد عن الجمهور وتطلعاته، بعيد عن معاصرة الهم اليومي.

أورد إشارة موت الأدب عند العرب، ألا وهي استيراد وانتشار فكرة اتحاد الكتاب العرب ومحاولة حصر مفهوم الابداع فيها. وأنني اتساءل لماذا اتحاد الكتاب، اتحاد على من؟ على الشعب أم على السلطة؟ المبدع الفنان هو مؤسسة بحالها ووجود كياني لا يحصر في اتحادات، إن فكرة اتحاد الكتاب هي فكرة دالة على أن الإبداع الانساني عند العرب المعاصرين هو مسألة حرفية لا علاقة لها بالحرية الفردية.
ودلالة أخرى على موت الأدب هو انتشار رواية عمارة يعقوبيان ورواية بنات الرياض مع فرق المستوى بينهما بنائيا، آخذ هنا مثالا من قلب الأدب، فهما قد مشيا على ترداد واحد، في داخلهما واجس وحيد ألا وهو فتح الباب على امرأة تستحم، فالجميع سيلقي نظرة عليها والنظرة هنا نظرة تطفل وليست نظرة إلى الجمال والفن. وانتشارهما على نطاق واسع يؤكد أن العرب تقرأ لكنها تقرأ كي تملأ عينا لا تشبع ولا تفكر.

ومثال آخر: أتحدث بهذه العجالة عن سعدي يوسف فبظني أنه من الشعراء المرهفين الذين وفقوا في مزج الشرق مع الغرب. وأتحدث عن الشيوعي الأخير.
إن العنوان وحده قصيدة راسخة ذلك إن استنطقنا التاريخ الذي بدأ بالبيان الشيوعي الذي حرره انجلس وماركس.
إن انتهاء حقبة الشيوعية بالنسبة للمثقف والمبدع العربي كانت إحدى أزماته الكبيرة تهزه وتقلق وجدانه، لقد تعلق بها كتعلق الوليد بأمه، والآن وهي تنتهي لقد فقد الثقة بالتاريخ وبالحياة نفسها.
لذا جاء مسلسل الشيوعي الأخير كمحاولة من الأدب نفسه كي يوقف إغلاق الستارة على المشهد الختامي، فمازال هناك شيوعي أخير يؤكد بخفاء وباطنية أن المسرح مستمر ولن ينتهي.
هذه الضربة الأدبية لم تدخل في الصفحات اليومية للثقافة، فلولا وجود الانترنيت وسهولة القص واللصق للنصوص لما وجدناها مباحة هكذا تنشر إلى جانب نصوص متدنية ادبيا في مواقع إلكترونية هي مواقع إعلامية أكثر منها أدبية. فيها الصور الدعائية التي تطغى على النص هذا إن كان هناك أصلا نص.
مانراه هنا أن، ليس فقط الأدب قد هجر الناس بل الثقافة نفسها كجسد يغلف الأدب نفسه.
فالمشتغلون بالثقافة والأذكياء منهم نراهم قد تخلصوا من هذا العبء وأمسوا إعلاميين.
كانت الموجة الماركسية الشرقية أحدى المؤثرات الكبرى على ازدهار الأدب العربي. صحيح أن هناك الموجة الفرنسية لكنها ايضا تأثرت تأثرا خفيا بالماركسية حتى أن السريالية كما أرى هي تطوير وقفزة في منهاج ماركسي جديد.
الماركسية لم يطلقها ماركس وحده، لقد اطلقها الانسان ثورة وتحررا لقراءة جديدة للتاريخ المعاصر.
مبدعو وفنانو القرن العشرين كانوا ماركسيين بإمتياز.

وبنهاية هذه الحقبة ينتهي تقريبا الحث - الالهام الذي كان يدفع الأدباء العرب لقول مالديهم من هموم .. انكسارات وآمال. فغياب الجانب الأخر ثم حضور العالمية (العولمة) تحاول أن تحمل مفهموها الغائب- الانساني، قد غيب الاستقطاب وأنهى مشروع الفن النضالي.
يحاول الاديب العربي الان ان يأخذ مكانا له في المشروع الانساني العالمي هذا المشروع البعيد كل البعد عن واقع العرب فهو مشروع لا مكان له على تربتنا.
والشيوعي الأخير هي محاولة غير واعية، محاولة الطفل الذي وجدها سعدي يوسف أمتداد المثقفين الماركسيين وكأنه لا يريد أن يعلن النهاية. تراه وحيدا في عالم صاخب، والقصائد الثمانية عشر ( قصيدة الشيوعي الأخير) تدل على ذلك فهي وحيدة بروحها ووهجها، هي كوكب يدور في مدار غير أرضي بل أنه أرضي ونحن الذين فقدنا مدارنا. فهي تشير الى الذين رحلوا وهجروا. وبطريقة أو بأخرى يريد أن يركب تيار العصر ولا يعرف كيف: يريد أن يتعلم. الشيوعي الأخير يتعلم الهبوط بالمظلة:

أي حماقة جاءت بك؟

الأيامُ...

جئتُ هنا لأعرف كيف أهبطُ!

قلتُ: ياهذا، يجيء الناس كي يتعلموا الطيران!

قال: لقد تعالينا

تعالينا

إلى أن لم يعد خيط ولو واه يشد عروقنا بالأرض..

اني الان اهبط بالمظلة

ربما تتعرف الأعشاب رائحتي فتمنحني الحياة!

هذا الشيوعي الأخير الذي يريد أن تتعرف الأعشاب إلى رائحته مرة أخرى وتمنحه الحياة. الحياة التي افتقدناها وافتقدها الجميع.
من السهل الكلام عن التراجع والموت والخراب، لكن الكلام عن البناء وعن الإحياء لهو كلام صعب.
ماهي مقومات وأسس بناء العالم الميت مرة أخرى - إعادة جزيرة الأدب الضالة؟
إن الفن حمل طبيعي سيتحول إلى كائن مشوه حين يتم دفعه.

ليكن البحث عن الحرية وعن الذات هو المقام الأول ومنه تنفتح الطرق الأخرى، حرية المبدع واستقلاله هما الأداة نحو ابداع محتمل فالعالم العربي مليء بالتناقضات ومليء بالأمل أيضا- النضال ضد التشوه الذي تحمله النفس العربية وضد التشوه الذي ينمو من دون هوادة في أرض الواقع.
أن يكون الأديب العربي ابن بيئته وليس ابنا اوربيا أو افرنسيا ويكون حر العقل وحر النفس

الجمعة، 6 يوليو 2007

ولأنها روح تألقت فى الأرواح الأسيانة



روح برسم البيع

منها

نجلاء صبرى

حيث لا افتراق للروح مهما كابدت


****
تعودت أن تفترق بها الحياة كثيرًا على طرقات التجارب
لا تدرى حينها أى طريق تسلك ؟ فهي مصابة بفوبيا القرار، هكذا يكون ارتباكها محموما بجدائل القلق.
ذاك الذي يلوكها بين طياته، ويجعلها تثقب اليقين ببصيص من نار مخبأة بعينيّ عصفور يقطن عش القلب المجدول من قش أحلام مؤجلة
تسأل نفسها عن مصدر تلك النار: فتجيبها النفس: أنها لا تدرى، ولكنها فقط تدري أنها فقط تريد
أما أى شىء تريده، فتلك هى المعضلة
يشرد بها التأمل كثيرًا لناصية المستقبل، والمقارعة ما بين حزنها وفرحها. فلحظات الفرح أحيانا تبنى للمجهول . حيث لا حروف تحتوى المعنى وقتما ترتجف اللغة على حدود إحساس عميق بالحب، ويقتصر الدور على التواصل الروحي ومفردات العيون وبوح الصمت البليغ ومجازية الجسد ، ولا ابتسامة مرجعها الشفاه حينما يفوق الفرح ملامح اللحظة ، ولا رجفة منبعها القلب عندما يعتريك الشوق لصدر حبيب يرقد بغيمة قريبة من لحية الرب
فلتفعيل شوقك . يستلزمك تذكرة من متجر الفناء الخالد عبرالمرور بأرخبيل اللاعودة ، حيث ستمكث أبدًا راقدًا بجوار الحبيب ، متوسدًا صدره الواجف بالطمأنينة
على النقيض لحظات الحزن دائمًا مبنية للمعلوم . خاصة ً تلك التى تصاحبها القسوة والرعونة والشوق لبعض الأحبة المكبلين بالبُعد
أتذكر أني ذات مشاهدة لمدونة صادفتني تلك الجملة لمخرج سينمائي أتقن إخراج لحظة أسى عميقة : قال( كلنا منازل فارغة بقلق ، ننتظر من يفتح لنا ويحررنا )
على ذاك المعنى تأسيت لقلبي ولذاك العصفور الذي يمكث بقفصى الصدري كم بت أشفق على جناحيه الصغيرين. أنهكه التحليق في ذاك المحيط ،وأرهقه تواطؤي فى تقليص مساحة حريته
أتعلمون أن قلبي يتكلس عاما بعد عام ؟
هل سمعتم من قبل عن قلوب متكلسة ؟
تلك مهزلة الرؤية . لا ندرك الشىء إلا بضده
نعم قلبي يتكلس، تترسب به أحزان الأحبة . تلك التى عودنى ضميري ألا تمرعلىّ مرور الكرام ، بل أضايفها بمسكن روحي. حتى أنها بعد فترة تغدو صاحبة بيت، وتطالبني بديمومة الإحتواء
الغريب في الأمر أني بحكم العادة قد أغفو عن نمو بذور الحزن والألم الخاصة بي في إنشغال بمداواة حزن الآخرين ، وتحت مبدأ لا ضعف ولا إستكانة، والمقاومة ثم المقاومة ثم المقاومة . لا أفيق إلا على قرع الجناحين وصوت نبضات تنذر بإنفجار قنبلة الروح . تلك الروح التى زينتها بكل قيمةٍ جميلةٍ، تلك التى من أجلها باعني الأحبة لشجن وثبور مقابل بعض من الإبتهاج المؤقت الفوضوي
الآن أنا هنا بينكم . أنتهج نهج التاجر الذكي
فمن منكم يشتري روحا على وشك الإنفجار ؟! من يفتح الباب لذاك العصفور صاحب الحدقات النارية ؟
ولكن لتعلموا أن روحي من النوع النادر. لذلك قلت أني أمارس دور التاجر الذكي. فلا مجال للنوعية الرديئة بمتجر عمري
هل تعلمون ما معضلة الروح عندي ؟
معضلتها أني ذات حب إقترفت حلما ، والحلم في عرف المتربصين خطيئة ، والخطيئة لا تغتفر. تستحق عليها تجرع كل ما يحمل اللون الأسود والكحلي . بل ربما كان الخليط بطعم الهزيمة وفجيعة المهزلة، ولكنهم لا يدركون أنها بمثابة ضغط مؤقت. يولد زلزالا عابرا بقشرة وجداني ، ولا ألبث أن أستكين
إلى الآن كل ما مررت به كان زلازلا من نار مؤججة بعمق روحي . أما متى وكيف سيحدث الإنفجار الكبير؟ وعبر أى فوهة سينطلق بركان التمرد ذاك؟
لا زال في علم التوجس ، ولا سبيل لإدراكه إلا حينما يتم الإحتراق الكامل
.
فكما قال جبران
فالحر في الارض يبني من منازعة سجنا له وهو لا يدري فيؤتسر


الخميس، 5 يوليو 2007



فوضى الحواس



لمرة ثانية منها

ا

يامن في طرق أسراري قد تاه

في هذا اليوم سأفتح شبابيكي

لتبوح بأسرار صمتى

هاأنا فوق حصان الكون لن أترجل

والحب يسري بنبضاته ليوقظ دفء المشاعر

سأجعل منه مصلا يجري في قلبى الحائر والمجنون

من نبضات قلبي سأتلو لك بدمعي

فيا دمع دلني

على جسد كالسندس

وثغر كالأ بنوس

وعلى الوردة في بستان أحلامي

يادمعي كن لي بوصلتي لأصل إلى بستان أحلامي

يا دمع دلني على فاكهه الإثم والجنون

واملأ ثيابي بهالأقول هذا جسدي من نار

وهذا هو ثوبي

يا دمع اركبني أنا الفرسة وكن لي لجامي

ها أنا ملفوفه في منديل معطر بالأريج

ويفوح منه راحة نفسي

فيطلع لى عاشق يقرأ لي جوعه

فيفيض دمعي وأتوه بين فوضى حواسي

****************************

أخبرني كيف أمارسك دون أن نخلع أحلامنا...؟

أخبرني كيف أختزن لعابي لأروي عطشي...؟

أخبرني كيف أندس في رائحتك واحترق؟

أخبرني كيف أقبلك من كــــــــــــــــل الجهات

وكيف تمتزج بلهيب تنهداتى؟

فأنا حورية النار

أخبرني كيف وكيف وكيف ؟

أخبرني دون أن تخبرني

فأنا سأشهد ضدنا أننا عاشقان... كرقعة سوداء! ... ورقعة بيضاء...

وتحرك جيشك على خارطة جسدي

يسحرني اجتياحك...

فأقبلك..

أقبلك يسقط جندي

أقبلك

تنهار قلعة

أقبلك يُقتل وزير

... وقبل القبلة الأخيرة

أسمع صوتك يقول

ما أروعك

الثلاثاء، 3 يوليو 2007



فى فضاء التمنى سابحة أنا فيك


منها

عندما يفرح القلب تشعر
برغبة فى أن تكتب كما لوكنت تمسك السماء بيديك
فى فضاء التمنى سابحةأنا فيك
ممتطية صهوة زمانى
فهل لى أن أملك ذاتك ؟
وأستدعيك لإرهاق أنوثتى؟
هل لى أن أصرخ بملء تنهداتى الحارة والمتوهجة لحبك؟
أم أنه يجب على أن أبدل لونى
وأن أخيط كفن الحياتى؟
أن أخجل من جسدى وأدارى صدرى الناهد
أن لا ابوح بما لا يباح؟
سابحة أنا فيك
وفى مسام جسدى تختبىء
ألحس بلسانى قطرات العسل العالقة بريق شفاهك
أتشمم عبق رائحة جسدك وهى تنادينى وتجرفنى
وأصهل بالضحك عندما تدغدغنى بشفاهك
فأنا أرى دفء الفصول فى أحضانك
ياسيدى أعترف لك بانكسارى
فما أنا سوى قارورة عطررخيصة
فى حناياى خبأتها يوما لأشتهيك
وعربد جسدى
ففاح منه عطر نزواتى
ترى كيف ترانى؟
هل أنا امراة الإنكسارات؟
أم أنا اللؤلؤ والكريستال؟
أترانى أريد أن أحبك بجنونى وتهورى ولا تخشانى؟
أريد أن تقتحم دروب جسدى وأفترش معك الرمال الدافئة
فبحرى بك مجنون
ومزاجه مشاكس ومائى ولا يعترف بالمواقيت
وأ ن تمتطى جسدى كصهوة ريح
وأن تتوسد نبضى
وأن تدرك زمن مدى وجزرى
وقبل أن تقترب منى تعلم فن الغوص
فبحرى يرسم دوامات
ويبتلعك داخل أحشائى دون أن تدرى
حبيبى
ترى وأنا بين ذراعيك أصير قصيدة؟
فهيا اكتبنى بأصابعك
واقرأنى بعينيك
واشتهينى كوشم منحوت على صدرك
فها أنت لا يزول
ولايمحى حبك


.


ما بين طبائع الاستبدادوثقافة الخوف


بالعودة إلي الوراء، يمكنني أن أتذكر أنني قد أثرت الموضوع في اجتماع للجنة التضامن الآسيوي الأفريقي عقد بمدينة الإسكندرية في أعقاب احتلال العراق. كان المطروح علي بساط البحث في مثل هذه الظروف الاستثنائية الدامية هو تنشيط برنامج ثقافي. وكان من السهل ملاحظة الاستغراب علي وجوه كثيرة. تابعت الكلمات المحتقنة بالتوصيفات التي شاعت وهي تتكرر من جديد حول أسباب سقوط بغداد في عصرنا الحديث. وحين جاء دوري، فوجئت بأنني لا أستطيع أن أقدم شيئا يخرج عن وصف ما حدث.و وجدتني مندفعا إلي إعلان عجيب: إننا لن نملأ عن جدارة موقعا في هذا الكوكب المضطرب حولنا إلا إذا عرفنا ماذا نخاف؟ ولماذا نخافه؟.. وإذا كنا لا نملك إلا الكلام كدليل علي حياتنا، فلنبدأ برنامجنا بالحديث عن ثقافة الخوف.. ليلتها ضحك سفير سابق لدولة عربية شقيقة في باريس " يعيش بالإسكندرية، ويدأب علي حضور ندواتها وحواراتها " تساءل سعادة السفير في صوت مسموع: هل توجد ثقافة للخوف؟ مازحته سريعا ببضع عبارات عالقة بالوجدان " أمشي جنب الحيط " و" العين متعلاش علي الحاجب " و" الميه متجريش في العالي " و" من خاف سلم " و" اللي يجوز أمنا نقول له يا عمنا " و.. و.. و" الحيطة لها ودان " هذه الأمثلة التي تجري علي ألسنتنا ـ ربما كل يوم ـ لا نقف عندها طويلا. تبدو مفهومة مقبولة لدينا بحكم ما نسميه، الحدس المشترك، والحس المشترك، والفهم المشترك. وهذا هو ما يجعلنا نتداول مفاهيم كثيرة دون أن يشغلنا التوقف حول مغزاها أو معناها الذي دفعها إلي ألسنتنا.. وحين نتوقف بالسؤال أو المعرفة تبدأ المشكلة.انفض الاجتماع وقد اتفقنا علي أن يبدأ البرنامج بمسألة "ثقافة الخوف" وحتي كتابة هذه السطور لم يدعني أحد ولا أعرف إذا كانت لجنة التضامن قد بدأت برنامجها أم أن الأمر انتهي عند تبادل التأملات. واستمر سؤال هل توجد ثقافة للخوف؟ يثير حب الاستطلاع. ولم لا؟ إن كثيرا من أحوالنا في القارة الأفريقية والآسيوية إن لم يكن في كل بقاع الأرض يمكن أن يعالج تحت هذا العنوان

.

والموضوع يطرق تحت عناوين كثيرة.. ويتطلب العلم والعمق والفصاحة من قبل المفكرين والفلاسفة والمثقفين. وأنا مجرد كاتب يمزج السياسة بالأدب والثقافة ويتوهم أن بعض الأسئلة التي يثيرها تجلب التشويق.الحاكم والمحكومأراد أسامة بن لادن والملا عمر وتنظيم القاعدة أن يؤكدوا تفانيهم في خدمة الإسلام. ومن قلب الجهاد ضد الشيوعية والاتحاد السوفيتي السابق ـ هذا الجهاد الذي كانت تباركه أمريكا وتراه خيرا ـ برز هؤلاء لنشر العقيدة الإسلامية والأخلاق الإسلامية وتعميمهما. قاموا بتحطيم تمثال بوذا، وحرضوا علي نسف مركز التجارة العالمي في نيويورك، وضرب حائط البنتاجون في واشنطن ووقعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر وحقق النصر الأكبر علي بضعة صخور ومباني وثلاثة آلاف ضحية من البشر، مزيدا من التحقير والتأثيم والبتر. وتسليم العرب والمسلمين لقمة سائغة لإعادة التشكيل والصياغة، والتصحيح والإصلاح والعلاج. الأرض والناس والجنسيات والعقيدة واللغة والشكل والملابس والعادات والتقاليد وبرامج التعليم... وتحركت الجيوش وقامت باحتلال "كابول" ثم "بغداد" ولا نعرف حتي لحظتنا هذه "متي" ولا "أين" ولا "كيف" ستنتهي "هوجة" مواجهة الإرهاب والقضاء عليه.ثم كان أن وزعت جريدة "القاهرة" كتاب "عبد الرحمن الكواكبي" "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" ضمن مجموعة كتبها التثقيفية التنويرية التي توزعها بالمجان بصحبة بعض أعدادها. وإذا بقراءتي الجديدة للكتاب تدفع إلي التأمل في العبارات الدارجة التي تدور علي ألسنة الناس. يواجهون بها وقع أشياء تراها عيونهم أو تسمعها آذانهم. وقد اختلط الحابل بالنابل، والدين بالسياسة، والإرهاب بتحرير الأرض ومقاومة الاحتلال. ودخل النظام العالمي الجديد إلي كل بيت وارتفعت تكاليف الحياة وعظمت مشقتها، وانتشر الجوع وسوء التغذية وتشريد وحرمان الأطفال والنساء. وعادت الجراثيم والفيروسات من قلب بهرجة الطب وأبهته أكثر فتكاً وشراسة ـ وانتشر الإيدز وظهر السارس. وتلوثت البيئة والماء والطعام والهواء. وكل ذلك يقفز من كلمات الكواكبي كناقد عربي لا يرسم حدوداً صارمة. لا بين السلطة والمجتمع ولا بين الثقافة السائدة والمهيمنة وتلك الخاضعة والتابعة. إنما تخيل حاجزاً شفافاً بين نمطين من الخوف يري أحدهما الآخر. خوف الحاكم من المحكوم وخوف الرعية من حاكمها. يصف خوف الحاكم المستبد بأنه أكثر من خوف المحكومين. فالحاكم الطاغية يعيش في ذعر وقلق وانعدام راحة وهدوء بال ولكن من دون أن يكون بالإمكان رؤية ذلك. إن خوفه من رعيته هو أكثر وأشد من خوفهم من بأسه، حتي وإن فاضت ألسنتهم بالعبارات التي تفصح عن نجاحه في إلغائهم ونفيهم أو دحضهم وإقصائهم. إن خوفه ينشأ عن علم وتربص واحتراز، يجسد الخوف وينميه "أسوار من الجند والأحراس للحماية.. وأبواق لا تهمد للدعاية.. علي سبيل المثال" يخاف الحاكم علي حياته وسلطانه ويخاف المحكومون علي لقيمات من نبات، وعلي وطن يألفون غيره في أيام. يخاف الحاكم من انتقام ـ بحق ـ يمهل ولا يهمل. ويخاف المحكومون من توهم تخاذلهم. يغرقونه في التمويه والتعديل، والتلفيق والنفاق وحتي الانحناء والانكسار. يعرف الحاكم أسباب خوفه فتملؤه بالذعر المتفاقم باستمرار واضطراد الاستبداد. ويجهل المحكومون سبب خوفهم فيتملكهم ذعر قابل للزوال في أي لحظة.ميراث الخوفلا تنحصر رؤية الكواكبي في "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" عند هذه النظرة "التلسكوبية" لتفهم مشكلة السلطة وعلاقتها بالمجتمع. إنما يقدم تشريحاً مفصلاً لهذه العلاقة. يكشف لنا ـ وهذا هو المهم ـ عن مسألة جوهرية لا تزال الحاجة قائمة في ثقافتنا المصرية والعربية لاستخدامها بطريقة بناءة


أن نعرف أسباب خوفنا المادي والمعنوي. وان نتعرف علي أسباب الجهل بهذه المعرفة. فما يفعله الإنسان مذ وعي وجوده، هو نجاحه أوفشله في تسكين أحاسيس الخوف حين تحركها الأشياء تحت جلده. وأجرؤ علي أن أطرح افتراضا بأن العرب والمسلمين هم أكثر الناس جهلاً بأسباب خوفهم من أنفسهم ومن غيرهم. ولا يجب أن تغرنا بطولات الاستشهاد وشجاعة فقدان الحياة. فليست هذه بالحالة الصحية، إنما يمكن أن تكون دليلاً علي كوابيس مجتمعاتنا شديدة التعقيد. يلعب فيها الموروث سيفاً مسلطاً علي رقابنا قبل أن يكون علي رقاب الآخرين. يهدد انطلاق الفكر وحريته بكل مكونات الخوف. من عوامل اقتصادية وتصاريف المعيشة إلي القيم الدينية والأخلاقية والعائلية، والتنظيم السياسي للمجتمع، ومكانة المرأة، والعلاقات الجنسية وآداب المائدة والحلال والحرام.... وفي كل حالة نري النمطين من الخوف ـ إياهما ـ اللذين دعا الكواكبي إلي تمييزهما. يقفان منفصلين متنافرين ـ علي طرفي نقيض يبدو غير قابل للتسوية. يضاعف من التباعد والتنافر هؤلاء " الإخوان المكرسون" للخوف علي "الله" و"كلامه" و"شرعه". يسعون بشتي الطرق إلي دولة دينية علي النطاق المحلي والإقليمي والعالمي إن أمكن، تحقق برنامجاً قائماً علي العقيدة الإسلامية. إنهم لذوو قيمة كبيرة طيلة نصف القرن الماضي في إشاعة الخوف من الحياة والموت. لكن ما لا يستطيعون الهروب منه هو البحث عن تأثيرهم ـ بعيداً عن توسلهم القرآني والنبوي ـ علي مجالات الشعر والقصة والرواية والأغنية والفنون والعلوم.


كان يمكن أن يعادل فرقعات القنابل وعمليات الاغتيال. أو يخفف من وقع خصائصهم المتشابهة لكل من يخرج من عباءتهم حتي الذين يستخدمون كلاماً متسامحاً مرضياً، يثبتنا ولا يبتعد بنا عن حالة مطلقة من التوازن بين صراع المتناقضات في الحياة. في إيقاع متواتر وتنغيم زخرفي. من كيف نتوضأ ونصلي ونصوم ونحج إلي الإعجاز العلمي وفـوائد الإنترنت.وفي أحاديثه ومحاضراته "بحثا عن عالم أفضل" والذي نقله للعربية الدكتور أحمد مستجير، يؤكد الفيلسوف " كارل بوبر" أن الخوف المتبادل لابد أن يفرز عدوانية متبادلة. كانت دائماً وراء سباق التسلح وقيام الحروب. لم تتوقف الحروب أو يسود السلام، وإنما ظهرت الحروب الوقائية والاستباقية والسعي الحثيث لامتلاك أسلحة الدمار الشامل. عندما يتخوف طرف أو جار من أن يمتلك الطرف الآخر القنبلة الذرية والهيدروجينية. ولكي يظل التفوق سمة الكبار وعلي رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية تم القفز إلي حوائط الصواريخ وحرب النجوم. لاشيء.. غير تكرار القوة المتصاعدة الفظة، كماً وتعقيداً وتكلفة. ولا شيء.. بقادر علي ستر عجز القادة والزعماء والساسة عن تشخيص الأسباب ومعالجة مرض الأزمات الاقتصادية العنيفة "ملايين من العاطلين عن العمل في أمريكا ذاتها، وملايين من المحرومين من خدمات التأمين الصحي". بما يجره ذلك من انهيار وعذاب ومعاناة ولا إنسانية القتل الجماعي. في ظل توفر المهارات واحتياجات الإنسان والحياة، لتصريف حقيقي لعوامل ونوازع الصراع والتناقض. لم تعلمنا الحرب العالمية الأولي، كما لم نجد فتيلاً في الوقاية أو العلاج للتطورات التي أدت إلي قيام الحرب العالمية الثانية.طبائع الاستبداد العالميومازلنا نعيش "طبائع الاستبداد" حين قام الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن ذات صباح ليروعه اصطدام بضع طائرات مدنية اختطفها مجانين. ليحطموا بها مركز التجارة العالمي ومبني البنتاجون وأهدافا أخري... ظهر الرئيس.. وبدلاً من أن يسأل العالم كله: ما حقيقة الأمر؟ ما هذا الذي حدث؟ زل لسانه بسؤال أقل أهمية: هل بدأت الحرب الصليبية؟ ساق العالم إلي التضحيات والموت ما بين الحديث عن الدوافع السيكولوجية ـ عدوانية بوش وبلير وشارون وبربرية أسامة بن لادن والملا عمر والظواهري ومصعب الزرقاوي، وما بين أطماع النظام العالمي الجديد وسعيه وراء ثروات الغير من المواد الخام والمواقع الجغرافية. ومن عجب أن عالماً فجرته تفجيراً دراسات العلماء في الطبيعة وعلوم المادة، تستحكم بأدمغته منذ قيام الحرب علي الإرهاب مغاليق صراع الحضارات أو تفاقمها


... صدام الثقافات أو تفاعلها.


وإذا كان الكواكبي يعد مساهمة هامة في الانتقادات التي تكاد تبطل نظرية المؤامرة.. فإن كل شيد يمكن أن يوضع تحت لائحة "ثقافة الخوف" هل هي قانون آخر للنشوء والارتقاء؟


الأحد، 1 يوليو 2007


معذرة ، يا نجمى الأوحد
ياكوكبى الغافى فى عليائه
هل أبطأت قليلا ، شغلتنى عنك أمور الحكم
ولكن ، هاأنذا إذ أدفع مقبض هذا الباب الموصد
أحمل من بحر الأنواء من مزيد
وكأنى تحملنى ريح هادئة سجواء
فوق الكفين الناعمتين
كى أغفوفى شطئان بحيرتك الخضراء
عينيك الطيبتين الرائقتين
إيه..ماأجمل أن ينفض ظهر مثقل
فى نقلة ساق أو لمحة عين
صلاح عبد الصبور


مواسم الضنى

القسم الثالث والأخير




فى العزاء تتأسس العتمة


ما تزال آثارا باقية للمعركة الحامية الوطيس بالساحة الوسيعة امام الجامع ذات نهار جمعة التى لن يعقبها اخرى قبل يوم التصويت بالانتخابات
هاهو الشيح احمد يعود من المنصورة خالى الوفاض ، بعد نهار امس الذى قضاه بمعظمه فى التحقيق الإدارى معه بمديرية الأوقاف ، ناله حسب وصفه المرح للأمور الضيقة الحرجة ماناله من ( ضرب على قفاه ) وتوبيخ من المعمم الكبير مدير المنطقة المرتعد أما م أى صوت مرتفع أو أى مجاهر بحق أمام أى سلطة ، ولما حاول الاستيضاح من المحقق المعمم هو الآخر عن من قدم الشكوى بحقه باستخدام المسجد للتحريض ضد الحكومة ومرشحيها ، أو إزالة اللبس من الأمور ، لم يجد أذنا صاغية ، لانه شوح فى وجهه بعريظة مستطيلة ممهورة ببعض توقيعات ، وبأسفلها تزكية بها خاتم نائب الدائرة المنقضية مدته والمرشح لمرة أخرى ، لكنه فى الأخير عاد غاضبا من لفت النظر الذى سيضاف الى ملفه الوظيفى ، وتحذيرات شفهية من المعمم الكبير ، إن لم يقم أمر الدعوة الى الله بالحسنى سينقل الى مكان قصى فى البلاد .
ترك الأمر أثرا سيئا فى نفس الشيخ احمد ، والغضب فى صدور اهله وعائلته الكثيرة العدد ، ومن لايستهان بأمر معاداتها ، لضمها شبان كثر عاطلين عن عمل ومتهربين من خدمة عسكرية وعصاة خارجين عن مألوف البلد من هدوء ودعة ، فصارت حالة تربص تسود بينهم لكل من سيثبت انضمامه الى من أساء لشيخهم أحمد .
ويغيب الموت ثانى يوم عودته من المنصورة عمه الأكبر بعد مرض طال مقامه بجسده ، فأقامت العائلة سرادقا بنفس الساحة التى شهدت منذ أيام معارك طاحنة بين راشد وإخوته ومن يتبعهم فى تأييد المرشح الحكومى ، وبين مؤيدين للحاج المقاول الكبير .
ولآن من تعزية العائلة لن يقتصر على أهل القرية ، فقدأوسعت عائلة الشيخ
في السرادق ,واكثرت من إضافة هيبة عليه ، ليحظى بوقار يماثل وقار ه أو توقيرهم له ،وقد يحج إليه للعزاء أصفياء ومريدين له من قرى محيطة.
وحانت لحظة كان الشيخ يتوجس خيفة منها كثيرا ، لما امتلأ السرادق وغص بالمعزين ،ولعلع صوت الشيخ محمد الطنطاوى أمام الميكروفون الناقل صوته العذب الى فضاء الكون الصحو ،ولما كان يتوسط بعضا من كبار اهله وشبابها عند مدخل السرادق وقوفا صفا واحدا لمد الأيدى لطوابير المعزين ،فقد كان عليه بين لحظة وأخرى الخروج من الصف للترحيب بمعز ين قادمين من غير مكان ، ويحظون بسمعة فى البلد كعضو مجلس الشعب أو الموظفين الكبار بدوائر مختلفة .
ولما كان للموت جلاله ورهبته فقد كان لزاما أن تصفو النفوس من مشاحنات ، وتهدأ القلوب من التخاصم بعد تقديم العزاء ، وهو ما اعتادته البلد وأهلها طوال السنين ، وما تعهده معيشة المصريين منذ فجرهم الأول ، وهو ماجسده الشيخ احمد حين لاح له مقدم واحد ممن أساؤا له فى نهار الجمعةالشهيرة ، وممن لا يشك لحظة بوجود اسمه أسفل الشكوى المقدمة ضده بمديرية الأوقاف، فانبرى متخطيا وقفته بالصف ، ومتقدما لمصافحته وشادا على يده ليصحبه الى مكان لائق حيث يراه أهل الحل والعقد فى البلد ، وكأنه يؤنبهم على تراخيهم فى لم الفرقة ورأب الصدع بين الأهل ، ، وقد كان مقعدا جلديا قريبا شاغرا ، فاستوقفه مستلطفا جلوسه عليه، لكن الداخل للعزاء الآن كان لاويا عنقه فى أنفة مصطنعة ، ونافخا صدره بزهو مبالغ ، وبتأفف ظاهر ، وسحب يده من يد الشيخ أحمد ورافضا الجلوس فوق المقعد المشار اليه.، واندفع بعصبية تجاه صدر السرادق حيث تصف المقاعد الجلدية ، التى تحتجز لمعزين من خارج البلد ، وحاول الشيخ احمد وقف اندفاعه بتؤدة ، ولكن السيد الموافى المنتصب فى آخر الممرات التى تقسم السرادق يستقبل القادمين ويرشدهم الى المقاعد الشاغرة ، وكا ن يضمر منذ سنوات لهذاالداخل فى نفسه أشياء ، فانتفض محمر العينين مندفعا نحوه ، قبض على طوق قميصه وهو يجذبه بعنف رافضا جلوسه على أى من المقاعد ، التى يقصدها أو غيرها ، وكان يصيح متوترا صوته : عزاك مرفوض ، عزاك مرفوض ، ياللآ بره ، وكان يدفع بجسده خارج السرادق ، ولما ارتفعت الهمهمات، تعالت صيحات من هنا وهناك تدوى بأرجاء السرادق الفسيح ، فطغت الفوضى على صوت الشيخ محمد الطنطاوى ، الذى بوغت ، ليحتبس لثوان، يهم بعدها مدلدلا ساقاه من فوق الدكة العالية الى تتوسط الواجهة ، وهو يهز رأسه أسفا ، ونظراته تلا حق الفوضى هنا وهناك ، ويتابع تكدس كبير من رجال يتدافع خلف راشد الذى سيق نحو الخارج ، ومن فمه كانت تندفع شتائم عالية متلازمة مع يديه المشوحتين فى الوجوه بارتعاش، فما كان من عبد الحميد النحال صاحب مكبرات الصوت سوىأن أعلن بنفسه : صدق الله العظيم .
بينما سارت الأمور على غير هدى بعد ذلك


السؤال بوابة المعرفة


ان كانت المعرفة تؤسس رباطا قويا ، وتزرع نوعا من حقول مغناطيسية تلف الكائنات ، أو حتى الأشياء، فإنها فى المقابل تظهر عتمة الآمور وشوائبها الراسية فى الأعماق ، وتنتهى لنوع من التنافر ، يباعد ما بين الأقطاب التى تحمل ملامح التجانس ،وإذا كان السؤال هو بوابة الدخول الواسعة لحقل المعرفة ، فإن أسئلة كبرى تحمل أشلاء المشهد المتوتر على أجنحتها ، وقد تخرج أجوبة متفق عليها بشكل متقن ، أو إجابات متعددة ، تنضح بملامح حامليها ورؤاهم .
وثمة أسئلة لم يمنع كرنفال الآلم والتوتر القائم بالبلد الآن من خروجها ، وكنت ترى من خلال الأجوبة عنها وكأن هناك تواطؤا ما أو نفض اليد من تسببها والتحلل من آثارها ، برغم اقترابها من منطق صادق.
هل كان سقوط شوقى ابن بدير من فوق عامود الكهرباء ، انتقاما ربانيا منه جزاء اعتدائه على مؤخرة الصبى ابن العاشرة ، أم أنها ثمرة التقاط الرزق فى السنوات العجاف ، والمشى على أشواك الحاجة التى هى أم الاختراع ؟
هل سرق هيثم ابن رأفت الخولى الأساور الذهبية والألف جنيه من المرأة الثلاثينية الربعة المدكوكة باللحم ، وقد كان واعدها بزواج لأيام .ليفك النحس الواقف على باب دارهاوينفًركل العرسان المتهيئين لخطبتها ، وكان قد قضى معها ما قضى ، فتنكر لما وعد ؟
وهل يعرف عبودة ابن رجب القريشى ملامح الشبح الذى اصطدم بجسده النحيل فى ظلمة الزقاق قرب باب داره الذى كان مواربا ، وكان مندفعا يتعثر فى ثياب يرتدى الأسفل منها فى ارتباك ، وهل اهتدت ظنونه التى يسبقها إثم ويعقبها مثله إلى أن الشبح هذا كان بداره ؟
أيكون مهرب الحاج رضا من أزمات أيامه ، وعثرات زمانه ، وهو الذى كان مهابا لهيبة أبيه فى مجالسته الأشقياء والعاطلين ، وتحمل اهانات راشد ابن محمد ابو دراع المتكررة له ، وأن يتورط بالرقص فى شوارع البلد ملتف الخاصرة بجديلة قش الأرز ، وفى مقدمة موكب الدعاية للمرشح الحاج فايز؟
والهمهمات خلفه تتساقط بأ ن هكذا تصنع الفلوس فى النفوس ؟
وهل حقيقة أن على ابن خالتك امينة عضو نشط مع جماعة الارهابيين الذين تسميهم الحكومة كذلك ، ونحن لا نعرف من امره سوى أنه مسالم وصاحب علة تؤخره عن خطبة الجمعة دائما فى أن يدخل المسجد بهذا النهار الا حين تقام الصلاة ، وما الحيرة من أجل وصل الأمانة الذى حصل عليه بدهاء من سعد المكباتى استردادا لدين مسلوب اضعافا مضاعفة هو ، أم للحكاية مسارب أخرى كما قيل له بالتحقيق فى سرايا النيابة بالمنصورة ؟..
قدم كثيرون للأمير ابن أبى يوسف تبريرات فى مجملها مقبولة ، فهو، حسب ما يقول ، وعلانية ، أنه عاطل، وهذا موسم ارتزاق كمواسم الحصاد للعصافير ، وهذ الموسم لا يأتى غيركل خمس أو ست سنوات ، ومن أجل لقمة العيش يلعب الإنسان مع المردة والجان ، ويمشى فى الهواء ، ويعاشر جنيات البحر ، ولكن هل وفىالحاج رضا وراشد بوعدهم له ، وأعطوه أجره على صبغه جسده برمز الحاج فايز الانتخابى ، أم التهما ما يبتزان به المرشحين ، ومدركين أن الأمير لن يرفع فى وجوههم صوتا ، وكما حدثتهم أنفسهم بذلك ؟ ، وأن كان قد تضرر ولم يحصل على شىء ، فلماذا يكررها ثانية وثالثة ، وقد ظل يستعرض نصفه العارى ، راقصا بموكب الحاج فايز حال تطوافه بالبلد ، والرمز الانتخابى منقوش على صدره وظهره ليلة احتفال أنصاره بفوزه ، ، وهل صحيح أنه هو من قام بكسر ساقه كى يصل احتجاجه وتصل شكواه منهم اليه ؟.
وأى نوع من البشر راشد هذا ، والسؤال يجرجر اسئلة لا تتوقف عند أى منعطف أو تروغ ، فلا يكاد يمر أسبوع إلا وله حادثة وموقف ينشغل الناس بمضغ تفاصيلها ، ما بيت استهجان ونفور ، وما بين تندر وتله بها ، فدائما ما يورطه لسانه المنعتق فى زلات لا يخجل من وقوعه ، ولا يقدم على التراجع والاعتذار عنه ، فلماذا اذن لا يقنع بما يصيبه من إهانات ، ويوقف هذيانه الجارف وتقمص دور الرجل العظيم الشأن ، وهل يكون الكذب الذى يستملحه نوع من تجمله حقا ، ولمغالبة قسوة الشعور بالوضاعة التى تطارده منذ الصغر ؟ ولماذا يدفن ماضيه القريب بهذه الجسارة ويخلق واقعا وهميا لا يمت له بصلة ، هل هو جنون العظمة حسب ما يعلنه أكثر العارفين ؟ لكن الجنون زوبعة وطريقة دائرية تأخذ صاحبها الى هوة لا يدركها .
وهل عمل الناس بما بح به صوت الشيخ احمد من نصح فى إصلاح امور الدنيا والدين ، حتى يتضرر كثيرون من تقريعاته وعباراته المؤنبة ، برغم أنها تلمُح ولا تصرًح ، وهل يكون منبر الجامع الكبير أداة دعوةلإصلاح أمر الدين فقط ، أم يكون وسيطا لحمل البشر على تقويم ما اعوج من أمور الدنيا ؟.
وثمة أسئلة لم يكد الناس فى البلد يخرجوها من جوانحهم ، حتى يعيدوها كما كانت الى ظلمة الأرواح التى يبس معينها ، وتصلبت ليونتها ، ولأنها بالتأكيد تكشف عرى الآخرين .
ولكن
وآه من لكن هذه
.

واشتعلت حرائق كثيرة
تمهيدا لحريق كبير يرتقبونه


كانت تباشير صلاة فجر يوم آخر تعلن عن نفسها بخفر وتلصص من مكبرات الصوت الناقلة التواشيح الدينية من الجامع الكبير والمساجد الأخرى عبر مذياع ، وقلة من بشر يتململون ويحركون أعضاءهم ، يغلبون لذة الساعات الأخيرة من نوم ليل مجهد كانوا حتى أثناء نومهم يتصببون عرقا ، فكل ما تحت شمسهم تعب فى تعب ، والأصوات الطالعة من المآذن تجوب فضاءات ضيقة ، وتكاد تخترق بالكاد الضباب المخيم على القرية ، وحتى الديكة لم يحن موعد صياحها الربانى ، وثمة صقيع يحمل برودة إلى أطراف رجال متسللين على قلتهم لأداء فريضة اعتادوها مهما كانت مشاق الوصول اليها ، وخيم على الشوارع والحارات سكون يترنم بوقعه ، ويستنشق رائحته هؤلاء ، وهوالسكون الراقد حتى فى لمبات الشوارع المدلاة من أعمدة صدئة ، وقد خبا ضؤها بفعل تكاثف الضباب ، ولما تتابع زحفهم ، وكانت حياة قد عادت الى دورة مياه الجامع ، ولم يكن غير باب وحيد قد فتح فيه اتقاء لبرودة تلك الساعة .
وكان البلتاجى خادم دورة المياه وهو يرشرش ماء الوضوء على وجهه يتشمم بدربة يحسد عليها رائحة ، راح فى اصرار يحاول التطلع الى مصدرها ونوعيتها ، فرفع رأسه ، ووارب النافذة الصغيرة التى بأعلى رأسه بالميضة ، حينهاصارت الرائحة أكثر قربا من أنفه ، وعلى إثرها تهامس مع من يجاوره مقرفصا فوق الميضة يتوضأ :
n أنا شامم ريحة حريقة ياوله
n حريقة ايه ، جاتك حرقة بجاز ، طول عمرك شمام.
لكن البلتاجى بإحساسه وحواسه التى لم تخيب له منطقا فرغ من وضوءه مسرعا متلهفا ، وهرول الى ساحة الجامع المضاءة يفتح إحدى النوافذ العالية الواسعة لتقتحمها قوافل دخان محمل برائحة ندى الصباح ، فرفع زر مكبر الصوت ، ولحظتها اندفع قبل آذان الفجر صوته مسرسعا :
حريقااااااا’ حرقة يابلد غفلانة ... إصحوا ياناس . حريقة
وللحظات ، التقطت الرؤوس النائمة على وسائد التعب الصراخ الآتى من ناحية الجامع الكبير ، فانفتحت أبواب الدور وكأنها على موعد واحد ، وانتفضت الوجوه هلعة جزعة ، فحملت النسوة على التو أوعية ودلاء تمتلىء بالماء من كل مصدر، وتحلق الرجال والصبية المباهين برجولة مبكرة أمام صبايا هلعات عاقدات الأذرع فوق الصدور الناهدة ، ومن هن المتأففات وسط الصراخ والصفير واستجابات مكبرات الصوت بالجوامع الأخرى للإستغاثة ، والكل فى تلك الصبيحة المبكرة مندفع نحو مرقد النيران ومستودع الدخان ، والذى صار عن قرب نارا مشتعلة ، حيث دار المتولى تاجر المواشى ، والذىعند مشاهته من أول مجير كان يدفع بعضديه باب زريبة بهائمه المغلقة ، ويحاول تهشيمه بعد ذلك من الداخل وبفأس فى يده صائحا مستنجدا بمن بالخارج ، أن يهموا بكسر الباب من الخارج لإخراج البهائم المحاصرة ، وقد اندفعت زوجته وأمه المنحنية فى عجزها وشيخوختها وبناته الأربع يصرخن ويولولن ،وكان الكل يحتويه فزع أغرقهم فى عجز حال ، تكاثر المحتشدون المحيطون بالدار والزريبة ، و تجاسر بعض منهم بالقفز فوق الزريبة وسط قوافل الدخان وألسنة النيران التى صارامتدادها مخيفا وتحيط بالدار من كل ناحية ، وتسقط قطع لهب من سقف البوص والقش والخشب فوق الآبقار وصغارها والجاموس وصغارها ، والمهرة التى بلا حصان تصهل وترفس بخلفيتيها جزعة يطل رعب من بؤبؤ عينيها.
كان شريط الضوء لمقدم نهار جديد قد بدأ يتسلل ، ليزيح قوافل الضباب ، وبينما نوافير الأدخنة راحت تتلاشى وقد تحول محيط الدار والزريبة الى بركة ماء سوداء يختلط بها احتراق القش والبوص وعروق الخشب المهشمة مع رائحة احتراق جلود حيوانية .
وتناثرت البهائم خلف الدار ، منها ما تشوه كاملا وسلخ جلده عن آخره ، وما هو ملطخ بين الاحتراق والسواد والإختناق، ومنها ما صار كفئران وليدة ، وسحب بعض الشبان عجلين رضيعين من الداخل نافقين .
غير بعيد كان يجلس الموافى مقرفصا مكلوما ، دافنا رأسه بين كفين مرتعشتين ، مخذولا منقبض الفؤاد ، يحطن به زوجته وبناته ، وأمه التى تجلس منحنية عند قدميه ، يتضامن معهن نسوة كثيرات فى عويل وتأسفات ومصمصات شفاه متوالية ، وكأنها حالة مأتم .
وبين العويل كانت تطلع الآهات المتحسرة،والكلمات التى تطير ، تلتقطها الآذان لتعيد صياغتها فى شكل آخر وجديد .
n الله يخرب بيوتكم .. مفيش غير ولاد سكينة .. منهم لله
مالنا ومال الانتخابات ياموافى يابنى ، نجحواواستريحوا وقعدوا فى دورهم ، واحنا اللى شلنا الطين على دماغنا اهه ، كان لازم تطردوه من العزا ؟
بينما أعيدت الى الأذهان ، ورجعت للصدور أسئلة أخرى، قد تنحبس اجاباتها الى حين .
وقرر بعض العقلاء ، وقنع الموافى يقرارهم .
n فوض الأمر لله،واحمد ربنا على سلامة ولادك ، وقدر الله وما شاء فعل ، واوعى تتهم حد واللا تقدم شكوى .
كان الموافى يتسمع نثار الكلام والتطمينات ، وفى رأسه تمور بداية أخرى ، يرقب هو وآخرون شكلها وميعادها .
******************************************
انتهت



مواسم الضنى

القسم الثانى


ب
واشتعلت حرائق كبيرة
تمهيدا لحريق أكبر



وقفة قبل المنحدر



فى عز حرارة الصيف اللاهبة ، وحرارة الأحداث الأكثر لهيبا ، بدت كل الأشياء ساخنة تقبل الاشتعال ،وإعلان الحريق إن تطاير أدنى شرر ، حينها تطير غربان مشتعلة الأجنحة الشوكية ، تحط على أفاريز الشبابيك وأعالى الدور الحبلى بالغضب ، وفوق أسطح فتحت مسامها للدخان ، فتأتى ريح فى غير موسمها دائما ، تدمدم وتزوم ، وتلم فى عنفوانها كل مشعلات الغضب ، ويدوى الكون بالخراب الذى يسعى .

1/ شوقى بين امرأتين وصبيين

كان خبر سقوط شوقى ابن بدير من فوق عامود الكهرباء مدويا ، ارتجت القرية كلها له ، مابين شامت مقدر أنه الجزاء المستحق له عند رب العباد ، وما بين مرتجف لعواقب الخبر مما يشاع عن تربص صبية يناصرون مرشحا آخر به وأزاحوا السلم الذى يرتقيه للصعود فوق العامود فسقط وقد سمعت طقطقة عظامه ، وما بين ملتاع حزين ،وهم أهله وناسه ، ولكن زينب برقوقة أم فتحى ، الصبى الذى انتهك شوقى ابن بدير مؤخرته، لما أتاها خبر سقوطه ، وأن عظام حوضه قد تكسرت ، وأنه كان يعوى من الألم كذئب مريض ، رفعت عقيرتها ، تملأ الحارة ابتهاجا وفرحا ، ولم تمتنع عن إطلاق زغرودة تدوى ، وراحت تجرى كالذى أصابها مس تطير الخبر فى كل الحارات والأزقة وبين الجالسين على المصاطب وأمام فوهات الحارات وعلى رؤوس السكك ، وكأنها قد تخلصت من فأر أو ثعبان داخل سروالها ، وكانت تصيح : ربك بالمرصاد ، ربك المنتقم ،
وعلى غفلة منها ، بينما هى تهرول كالمهووسة ، تلقفتها يد فوقية أم شوقى ابن بدير ، وقد كانت متوارية خلف باب دار شقيقتها القائمة عند مدخل الحارة التى تسكنها زينب ، واندفعت اليها تجرها من شعر رأسها الأكرت القصير ، وقد اندلقتا فوق أرض الحارة ، ينحسر ثوباهما عن أفخاذ بيضاء ملفوفة ومنحسة ضامرة ، وتمزقت قمصان فوق الصدرين وقد صارا عاريين ، وبان ما بان ، ما جعل عيونا تلاحق المشهد غير خجلة من تلصصها ، والتمام النسوة يتراجع عن فض هذا الاشتباك ، وعهد أمره لرجال يتابعونه ، وقد قبلوا به راغبين طائعين
. .
2/هيثم مقتله امرأة

لم يكن فى وسع هيثم ابن رأفت سوى أن يدور دوراته المعهودة فى شوارع البلد ، وبخاصة هذا الذى يحزمها من المنتصف ، فيقسمها ، صرة ملمومة يدور حولها الشارع ، وهى وسط البلد وحارات الجعافرة ، والجامع ، وأمين ، والسعادوة ، وأطراف تدور باستدارته وتسيجها الغيطان من كل ناحية ، يتقدم رتلا من سيارات نصف النقل ( التويوتا ) والجرارات الزراعية التى تقطر مقطورات يملأ صناديقها صبية يرفعون صور المرشح صغير السن وحيد أبويه ، والبعض يدق دفوفا وصاجات بين الأصابع ، وكثيرون يرددون الهتافات خلف الواقف يتوسطهم يزعق بصوته المبحوح ، بينما كان هيثم يترجل فى المقدمة ملوحا بسيف خشبى طلاه بالبرونز فصار يلمع تحت أضواء أعمدة الضوء الشحيحة ، وهو يمنى النفس بجولة ترضى هذا الشاب الثرى الذى أتاه خبر بذخه عن يقين .
كان عليه الاستعانة بشقيقه الأصغر الذى يتوافق معه فى كل صغيرة وكبيرة دون اهتمام منهما لاستنكارات متكررة من أشقائهما الآخرين لأفعالهما ، وما أن هم بارتقاء كتف شقيقه ليكون فى متناول الأبصار ، وهو يحدو الصبية والسائرين بموكب آخر من مواكب الدعاية ، حتى داهمت الموكب امرأة ، ثلاثينية ، ربعة ، بيضاء ، شعر رأسها الناعم معقوص بمنديل وردى خلف رقبتها الملفوفة اللامعة ، فى عينيها غضب يلتهب ويتوقد باقترابها منه ، وهى تخترق كومات الصبية والرجال والجمع المرافق للموكب كانت تنخر بمنخاريها كذبيحة ، ، وما أن التقطت طوق قميصه ، حتى ألقت به أرضا بين رجليها المدبدبتين ، وألقت بجسدها المدكوك باللحم ، وكانت تخمش وجهه بأسنانها .
ولما كانت عجيزتها الضخمة الممتلئة الثقيلة قد ثقلت فوق جسده الهزيل ، ولما لم يستطع هو منها حراكا أو الافلات من قبضتها رهبة وحذرا من إيذائها ، فقد دفعها الأمر لتناول حذاءها ( اللميع ) وانهالت به على رأسه ، وهو أسفلها لا ينتوى حراكا خشية من يراقبون الأمر ، وكى لا يفتضح أمرهما ، ولم يستطع شقيقه المضى فى تجاهل الأمر ، فراح يمتطيها كما يمتطى الرجل بغلته ، ويقبض بساعديه على رقبتها ، مطوقا ، ومحتضنا ثدييها من الخلف ، وكانت تلك العجيزة المدملجة هى سيدة الموقف فى تلك اللحظة وسط دهشة من يراقبون بعيون شبقة


.
3/ عبوده يطارده شبح

كان الزقاق الرطب دائما ، والضيق لصغر البيوت الراقدة واطئة على جانبيه ، والذى تنام فى نهايته دار عبودة ابن جبر القريشى مظلما تماما ، والليل قد انتصفت قامته ، ولم يدخلها عبودة بعد من رحلته المدفوع اليها دفعا من زوجته بصحبة شكرى نبوت وآخرين .
ولما كان شكرى نبوت قد وقع فى حرج بالغ أمام صهره المرشح فى بدء تلك الليلة ، بسبب ما أعلنه عبودة من جهل بالصفة الانتخابية لصهره ، ـأهو عن العمال أم عن الفئات ، فقام باسترداد ما أنقده عبوده من عشرة جنيهات مقابل تجنيده مع عشرات من أمثاله يتبعون صهره المرشح فى جولاته بالأصوات الهاتفة ، وكان عبودة يمنى نفسه بطريق عودته إلى داره بليلة تنعم بها زوجته عليه بعد طول هجر وصد ، ولما تحل ذكرى العشرة جنيهات التى فقدها ، وقد كانت بين يديه ، يشعر بغصة وحسرة تملأ كيانه ، وكان إحساسه بالشبع وامتلاء معدته بعد العشاء الذى لم ير له مثيلا قبل ، يزول على الفور ، وهيأ حاله المرتخية لملاقاة زوجته ولسعات لسانها ، فسار وحيدا يقطع الحارات وظلال البيوت النائمة صامتا واجما محتميا بصمته.
فى ظلام الزقاق الضيق شعر وكأن روحه تنخلع منه ، حين دفعه شبح لم يميز له ملمحا ، وكان مندفعا خارجا من داره ، لما دق على بابها دقات رهيفة ، كان الباب الخشبى القديم حينها مواربا ، تقف زوجته فى عتمة محتجزة خلفه ، فانتفض منه البدن ، وغرزت على التو وساوس كثيرة أسنانها فى رأسه وصدره ، لم يفق منها إلا وتلك الرؤوس المطلة من بين أفاريز النوافذ الضيقة حوله ، نسوة متثائيات ، ورجال يهرشن الرؤوس المخدرة من نوم مبكر ، بينما راح عبودة يدق بقبضتين واهنتين مرتعشتين فوق صدره تارة ، وفوق الباب الذى فتح عن آخره تارة أخرى ، وارتفع صراخ منه يفتك بسكون مألوف فى تلك الساعة من ليل البلد ، وقد التم على الفور جمهرة من صبية وشبان ونسوة تحيطه ، لم يفكر لحظتها من أين أتوا ، وكانت أفوه مندسة تبصق فى الفراغ ، وهمهمات بحروف تتجمع فيها أمنيات أن تتطهر الحارة والزقاق من عبودة وزوجته ، وكانت الهمهمات تبدوا واضحة الحروف فى مسمعه
.


4/ الحاج رضا وسيف المقاطعة

راح سوس الشقة والخلاف ينخر فى عظام العائلة الكبيرة ، والتى بدت متماسكة طوال تاريخها المنتسب لياقوت العزازى ، العبد القادم من بلاد الجنوب الأسمر على يد أحد الأغوات ، لم يفتتت تجانسها المشهود طوال حقب كثيرة سوى تلك النزعات المتهورة والانحرافات التى ظهرت على الجيل الأوسط منها ، والذى يعتبر الحاج رضا أحد البارزين منه ، هذا على غير عادات أبيه الذى رحل عن الدنيا منذ سنوات قليلة ، وكان محط أنظار القرية كلها ، والتفاف أسرته حوله برغم المآخذ الكبيرة على تصرفات كانت مخجلة للبعض من شبابها الذى طرق أبواب المدارس والجامعات ، وكانوا يتبرمون منه علانية .
لما طار اليهم خبر الجلسة الغاضبة أمام دار راشد ابن محمد أبو دراع اليهم ، أخذتهم الغيرة العائلية ، وحنق واشمئزاز من تصرف ابن كبيرهم الحاضر ما يزال داخلهم ، فأصروا على حضوره جلسة عائلية لاستيضاح الأمر منه ، وما تلفظ به من كلمات كانت مثار الاستهزاء والسخرية منه ومن كل أفراد العائلة ، حين تفوه راشد ابن محمد أبو دراع بملء فمه له: طالع لأبوك ، دايما مادد إيدك .
لكن الحاج رضا أحذته حمية هو الآخر ، رافضا الانصياع لمرتدى البنطلونات ، وساخرا من غيرتهم المزعومة ، وأن أكبر ما بينهم مايزال يأخذ مصروف جيبه من أمه ، وكيف لصغار العائلة أن يعقدوا له محاكمة ، ليلوموه على كلام أو تصرفات ، وأن آباءهم لا يستطيعون الشرب من القلة بدون إذن نسائهم .وواصل إصراره على تأكيد ما دار فى تلك الليلة ، وأنه يناصر الحاج فايز بكل ما يملك من قوة وعزيمة ، وأنه عنده أبقى من أكبر عمامة فى عائلته ، وأن راشد أكثر أبناء البلد شهامة ووعيا ، ولم يؤازره فى تلك الساعة غير نفر قليل من أبناء العائلة ، ما بين متهرب من الخدمة العسكرية ، أو عاطل يلوذ به فى مواسم كهذه ، أو ممن ينتمون لأفرع ضعيفة وفقيرة من العائلة .
كان الغضب قد ملأ النفوس الهائجة من العائلة فى صباح الغد ، وصارت بيوتها المتناثرة فى كل حارات البلد مغلقة على جلسات حنق وغضب على الحاج رضا ومنه ، وحضر بعضها ابنه البكر العائد قريبا من بعثة دعوة دينية ببلد أفريقى ، وهو أحد المستنكرين فعال أبيه ، وتحرش به أحد الصبية موجها كلامه إليه : هوا أبوك كان راح يحج إمتى ؟ مش خسارة نقول له ياحاج ؟ .
وكان ثمة إصرار قاس على مقاطعته فى كل صغيرة وكبيرة من أمور حياته ، السارة والضارة ، وكان أن تبنى غالبية أبناء تلك العائلة مساندة المرشح الذى ينافس الحاج فايز ، واعتبروه الرد الأنسب ، وكانت تلك هى القشة التى قصمت ظهر العائلة
.

5/على ابن خالتى حسينةيسترد دينه؟"

لم يكن على ابن خالتى حسينة ، وهو مااشتهر بتلك الكنية فى البلد لولادته وحيدا لأمه بعد خمس بنات وبعد موت أبيه أن يقدر للأمر قدرا أبعد من أن فرصة لاحت أمامه الآن لاسترداد الألفين من الجنيهات التى غابت عنه عامين كاملين ، فقد الأمل فى استردادهما من سعد المكباتى.
ولما توجه مع صاحب اللحية الطويلة الخشنة والعمامة المدلاة الطرفين على قفاه ، ليركب بجواره بسيارته الزرقاء الجديدة اللامعة يتقدمون رتلا من سيارات النصف نقل والجرارات الزراعية الملأى بالصبية يهتفون باسمه مناصرا للحق وشرع الله ، كان يسرق لحظة خاطفة من ضغط على ابن خالتك أمينة عليه ليخرج ساعده مشمرا عنه كم جلبابه الواسع محييا لمن يروحون ويجيئون فى طريقهم ، لايستوقفهم أمر مكرور ملول ، صارت تلك المظاهر شيئا ثقيلا على نفوسهم ، فكان من الأوفق لهم عدم اللامبالاة فى ملاقاتها ، لم يكن على ليعد للأمر أكثر من استرداد الألفى جنيه التى اقترضها من زوجة أبيه ، وسلمها راضيا مرضيا عنه للمكباتى منذ أعوام ثلاثة ليحقق رغبته بالسفر ، ولم يكن لتساوره شكوك لحظة واحدة بعد رحلة مضنية مطالبا إياه باعادتها ، وقد كان واقعا بين فكى رحى يهرسان أيامه ، فلا هو بالمسافر ليسكت إلحاح زوجته أن يسافر كأخيه من أبيه ، وليشترى ميراث شقيقاته فى الغيط والدار ،ولا هو بقادر على إرجاء تهديد زوجة أبيه بمقاضاته بالشيك الموقع أدناه بخط يده أكثر من ذلك ، ولم يكن يحدس أن لعنة ما ستصيبه ثمنا لعودة فلوسه إليه
عند فجر هذا النهار الذى ولد ساخنا ، كانت الحارة المكنوسة من أتربتها قبيل غروب الأمس والشوارع المزروعة حولها قد امتلأت بجنود مدججين ، ورتل متراص بتساو من عربات مصفحة وناقلات جند بصناديقها الزرقاء العالية المغلقة من الجهات الثلاث عند مدخل الشارع الرئيسى الذى يحزم القرية ، وعيون مخذولةيملؤها فضول ورعب مباغت ، تتلصص من خلف نوافذ مغلقة ، كان على ابن خالتك حسينة بملابس نومه وقد بللها عرقه وبوله الذى تسرب رغما عنه لفزع أصابه على التو ، معصوب العينين ، والخوف الذى يحتويه ، وصراخ زوجته ، وقد تبعتها لكمة فى فكها لم تدر من أين أتت ، فخرست على إثرها تلملم أطفالها وهم يدعكون حبات عيونهم بأصابعهم
كان قد وجه إليه تهمة . حاول الضحك منها ، لكن آثار الخوف المصحوبة بوجع فى الكتفين من ضربات من اصطحبوه حيث مركز الشرطة ، فسئل عن إيصال الأمانة الذى وقعه سعد المكباتى دينا له عليه نظير انتمائه لتنظيم تورط سعد فى الانضمام إليه ، ولما سئل عن بقية من يعرفهم من المنضمين معه ، لم تشفع له تبريرات كان يسردها بتلعثم ، ولم يكن باستطاعته الاستحواذ على جرأة كانت أداته فى الضغط على المكباتى لإقراره بذاك الدين ، خذلته قدراته فى التحايل على الواقع ومجريات الحياة ، فظل صامتا يطوى انكساره بداخله ، وكان مأخوذا بكليته للأمر .
وبعد أسبوعين كاملين قضتهما شقيقاته الخمس مقيمات بداره ترقبا لعودته ، وكأن حجرا ثقيلا يجثم على صدورهان، عاد مشعث الشعر مغبر الهيئة غائر العينين وكأن حجرا ثقيلا يعلق بقدميه ولسانه ، على عتبة داره يقضى ساعاته شاردا وأثقالا يتزايد رسوخها على صدره. لم يعد بمقدوره إزاحتها كسابق أيامه ، صارت رأسه كخرابة مهجورة. أو كعش زنابر مهيجة فى عز قيلولة صيفية ، أما بقية ساعات ليله فالأشواك تنبت له فى كل رأسه المزحومة ، أو تدمى جسده الذى هزل
. بيه له بمقاضاته بالشيك أكثر من ذلك ،
ولم يكن يتصور أن لعنة ما ستصيبه جراء عودة الأفى جنيه إليه



6/ما حك جلد الأمير غير ظفر الحاجة

وبعد أن أتم الأمير سحب آخر أنفاس دخان المعسل من قصبة الجوزة النحاسية ، شعر بميل لحجر معسل آخر . فأعقبه بتكاسل ، وكان قد بدأ فى استعادة قليل من تذكر لأحداث الليلة ، فنفض بصابيص النار الذاوية بحجر الجوزة فوق المعسل المحترق وقد استحال كتلة سوداء متفحمة ، أزاح بيده المعروقة طاجن الفخار الذى يلم بصابيص نيران القوالح ، وحاول أن يمدد أعضاءه ، ففرد ساقين متخاذلتين ، وأغلق عينين مقروحتين ، وكان يضطجع على جهته اليمنى مطبقا ذاراعه تحت رأسه فوق حصيرة جافة على أرض حجرته ، لكن الخواء الذى عشش ساكنا داره وقد كثفته الظلمة المهيمنة بعد انقطاع الكهرباء منذ عشاء هذه الليلة ، وغياب أنفاس زوجته وطفليه ، أدخل هلعا إلى نفسه . على إثره حاول استنهاض عافيته ، فأصابه هلع أن شعر بحكة فى صدره وظهره تؤلمه ، ولما لفحته حرقة شديدة جراء حك جلد ظهره بالحائط ليزيل آثار الرمز الانتخابى للحاج فايز المنقوش عليه ، شعر بميل جارف أن يصرخ بعلو الصوت الذى كان مخنوقا ، وهو يلف ويدور داخل حجرته كمن أصابه مس .
غالب وجعه الذى تحصل عليه من لفه ودورانه تلك الليلة بشوارع وحوارى البلد عريانا نصفه الأعلى ، وعض على حرقته ، وهم ، يرتدى جلبابه ، مسلما نفسه لظلمة الحوارى والأزقة وعتمة روحه ، وكانت البيوت والقرية كلها تغط فى نوم عميق ، ولا تدرى اقتراب فجر آخر ليوم جديد آخر .
التقاه كمال شقيق زوجته عندباب داره حين هم من نومه مفزوعا على دقات يد الأمير المرتبكة عليه ، زام فى وجهه غاضبا ، وقد طلعت اللعنات والشتائم مندفعة بينهما ، لتوقظ النيام من أهل الدار وقد عادوا أدراجهم غير آبهين بما يدور بينهما ، ولم تنس زوجة الأمير أن تبصق أمامها فوق عتبة الدار وأما م وجهه وهى تستدير داخلة ، تحاول أن تجر شقيقها من ساعده لتدخله ، وتغلق الباب عليهما ، بينما طفلاها يتململان تحت غطاء رث فقير .


7/راشد، ومن يكبح جماح هذا الشطط

الملفت للأمر فى هذه الحالة ، ولكنه لا يدعو لعجب وتعجب العارفين بأمر وأحوال راشد ابن محمد أبودراع وتقلباته ، هو فهمى ابن وجيه، فبرغم صلة القربى بينهما ، بانحدارهما لفرع رقيق الحال من عائلة كبيرة العدد ، متنوعة ،أصاب الكثير منها أخيرا رغد عيش ، إلا أن كلا منهما لم يكن ليهنأ بمجلس واحد يجمعهما ، وهذه الحالة الحاصلة الآن ، استثنائية ، ولكنها لن تمر هادئة ككل التمنيات المخبوءة بالنفوس .
وضع فهمى شروطا قاسية أمام أنصار الوزير المرشح ، فى أن يساندوا بقرية الوزير مرشحا يناصره فهمى وراشد برغم استياء الكثيرين منه فى القرية ،ومن كل المحيطين به ، وراح فهمى يشدد من شروطه وكأنه القابض على كل الأمور فى القرية ، فأتت كلماته عنيفة لحد الوقاحة ، ما جعل أنصار الوزير المتفاوضين يعلنون استياءهم من مقترح فهمى بإرسال بعض من أنصار الحاج فايز إلى قريتهم لمتابعة درجة تأييد الوزير وأتباعه للحاج فايز فى قريتهم الكبيرة العدد ناسا وأصواتا انتخابية ، ولما اعترض أحدهم بأن ذلك خروجا على أساليب الحزب الحاكم فى البلد والمترشح عنه الوزير ، وأمل أن يكون الأمر فى إطارمن السرية والكتمان ، جذب راشد من بين شفتين غليظتين نفسا من سيجارة مائلة عند زاوية من فمه ، ولما دمعت إحدى عينيه من دخان تسرب اليها ، أغمضها وهو ينفض رماد هابأصابع متوترة ، وكان ملفوفا داخل عباءة بنية اللون ، غامقة ، برغم العرق القليل الذى يلمع فوق الوجوه والأبدان بفعل حرارة أيام الصيف ولياليه ، وطفت على ملامح وجهه علامات بشر للأصوات الطالعة المختلطة المتوترة والمشحونة بتلك الفوضى التى يطرب لها وهو يراقب ما يدور بين فهمى وأنصار الوزير بشغف ، تلقوها هم بكثير من حذر وتوجس .
و الملفت للنظر من الأمور فى هذه الليلة أيضا، ولم يقف أمامه غير العارفين براشد وتقلباته ، هو إعلانه تنظيم مؤتمر حاشد للوزير فى القرية نهاية هذا الأسبوع ، وقبل الإنتخابات بثلاثة أيام ، معلنا بضخامة صوت أنه أوفر المرشحين حظا فى الحصول على مقعد البرلمان هذه السنة ، وبالرغم من علامات الضجر البادية على وجوههم ، فقد أدركوا للحظة أن هذا المؤتمر الحاشد لن يقوى على اكتماله راشد ابن محمد أبو دراع ، ولما يشأ أحد أنصار الوزير المجتمعين به أن يذكره بليلة الأمس التى كان يتصدر موكب المؤيدين لأستاذ الجامعة المترشح عن حزب معارض شديد البأس فى مناهضة سياسات الحزب الحاكم، حزب الوزير ، وخايلت الجميع ممن حوله صورته ليلة الأمس محمولا على الأعناق بالساحة المواجهة لترب القرية، يهتف لمرشح الحزب المعارض، ومعلنا بملء فمه تزكيته له وتفضيله على كل ما عداه من مرشحين ، وقال كلاما كثير ا لعب بخيال المرشح المعارض ، ونال عجبه وإعجابه ، ولكن إعجابه زاحمته صورة يحفظها جيدا لشاكر وتقلباته وأهواءه .
وأسرً راشد لفهمى إبن وجيه المحاصر فى موقع مدرس اللغة العربية منذ خمسة عشر عاما لم يتزحزح للأمام قيد أنملة لسبب وحيد ، وهو كثرة تجاوزاته الخلقية مع زملائه وتلاميذه ، مما عرضه لكثير من العقوبات الوظيفية عطلت ترقيه ، أسرً له بأن فرصة نجاح الوزير هى الأفضل لأنه مدعوم من أهل الحكم وذوى النفوذ ، وفى نجاحه فرصتهما الأخيرة ، بإزاحة عقبة العقوبات من ملفات فهمى الوظيفية ، كى يسهل ترقيه ، ومساندة راشد فى الانتخابات الفرعية لنقابة المعلمين ، التى يتجاوزها طموحه إلى النقابة العامة ، وأنه سيكون خير داعم له فى تحقيق طموحه الذى يشاغله صورة هلامية عنه منذ طفولته البائسة ، وأن يكون له شأن وسط أهله ، وأسر له أيضا بأن دعم طموحهما لا يتأتى سوى عن طريق المباعدة وبذر الشائعات وإثارة الفرقة بين أنصار الوزير السابقين فى البلد من الدورة الماضية قبل سنوات خمس ، وممن كان يرى فيهم عقبات أحالت دون تحقق طموحه .، وأن يستحوذا وأتباعهما على نصرة الوزير المقرب كثيرا من رؤوس نافذة فى الحزب الحاكم.
كيف له ذلك ، وهو الذى لا يقدر على اصطفاء خلان له ؟.فاستدفأ بالكثرة التى تتبعه لحاجة فى نفس كل واحد منها ، ولكنه كان كطاحونة تسمع منها ضجيجا عاليا ولا ترى من قادوسها طحنا ، فالتفافهم حوله برغم الأهواء المتناثرة كان وسيلة لمجابهة فوضوية هذا المشهد المعتاد كل عدة سنوات فى القرية ، والبعض منهم كان يجمعهم هوى الحضور فى الصورة فقط ، وآخرون لإعلان المكبوت من ثارات نفسية مع آخرين .
وكان قربان المودة مع الوزير وأنصاره ، هو هذا المؤتمر الذى اقترحه راشد ، وسيعمل على إتمامه بكافة الوسائل ، واحتار أنصار الوزير فى امر كتموه عنه ، كيف له أن يدبر أموالا لإقامة سرادق يستوعب هذا المؤتمر ، وبكل ما يلزمه من مقاعد ومكبرات صوت وكاميرات تصوير فيديو وفوتو غرافيا ، وجريا على عادة المرشحين الموسرين ، فلابد من وجود كاميرات تصوير للفيديو ، وهو الذى تسبقه حكايات عن عدم رفضه مايقدم له من هدايا مادية أو عينية ، وليس بخاف عليهم ، كما هو ليس بخاف على أهل القرية كلها حكاية كيلو اللحم الذى كشف امر حصوله عليه من مقاول الرصف المرشح ، حين سمعهماهيثم ابن رأفت يتهامسان بجوار سرادق العزاء الذى أتاه المقاول للمجاملة والدعاية لنفسه ، فتطوع على الفور وقد فاجأهما أمره أن يوصله إلى دار راشد الذى وقع فى يده ساعتها ، ولم يجد بدا من السماح له بذلك ، وما أن قبض هيثم على لفافة اللحم ، حتى جاهر بالأمر ، عالى الصوت ، ولف ودار بالخبر ، ولم يستطع راشد مواجهته طويلا ، حتى استقر الأمر بينهما إلى مشاركةى فى الأمور المشابهة. يقاسمها مع راشد رأسا برأس
وصار أمر تجهيز هذا السرادق وتكلفته طى الكتمان بين راشد وفهمى ابن وجيه، وقد أخبره راشد أن لابد من تحمل القرية كلها نفقات هذا السرادق ، فتجمع حوله من يتوافقون فى هواهم مع الأمر ، وراحوا يطوفون بالقرية ليل نهار يجمعون المساهمات ، بالحيلة مرات ، ومرات بالترغيب ، ولم يجدوا له عسرا فى الأمر ، فغالبية مازالت تعلق آمالا فى رجل الحكومة والوزير الحالى ، أملا فى إنجاز المعهد الدينى والمدرسة الإعدادية لأبنائهم بديلا عن معاناتهم فى السفر يوميا إلى المنصورة أو القرية المجاورة ، وما هو ناتج عنه من مشاكل ومشاحنات بين أولادهم وأولاد هذه القرية ، وتحرش مستمر ببناتهم ، هذا غير مصروفات يلتهمها الأولاد و لا يمكن التهرب من أثقالها ،.
قبيل صلاة العصر لليوم الذى يسبق الإنتخابات بيومين، كان السيد ابن عبد الجواد وأخوته الصغار قد شدوا الأحبال بالعروق الخشبية الطويلة ، وقد ربطوا بأطرافها أقمشة السرادق الذى انتصب لمرة واحدة وارتفعت جوانبه التى سدت من جهات ثلاث بأقمشة مزركشة كأقمشة السقف تماما ، وكسيت فى معظمها بصور الوزير المرشح ، وتدلت عقود لمبات النيون ، ورصت بباحته المستطيلة الواسعة أنواع ثلاثة من كراسى ، الثلاث صفوف الأولى جلدية خضراء حرسها عند رأس الصف الأول فهمى ابن وجيه ، وأشقاء راشد المهتاجون لأدنى محادثة ، والمتحفزون فى عصبية لا تدرى لماذا هم على هذه الشاكلة هذا اليوم بالتحديد ، تلتها صفوف أكثر عددا بكراسى خشبية ذات مقاعد جلدية ، بينما استكمل فضاء السرادق فى المؤخرة بصفوف من كنبات خشبية جمعت من الدور والمضايف والوحدة الصحية المجاورة ،وتصدرت السرادق منصة عالية فى المواجهة ، مرتفعة قليلا ، يعلوها يافطات تأييد ومبايعة للوزير المرشح وصوره ، وعبارات توحى بالصلة الوثيقة بينه وبين الرئيس ،.وعبارة من الرئيس ، قالها فى مناسبة لا يذكرها أحد ، لكنهم يصدقون أنه قالها ، وفى هذا الرجل بالتحديد ، فقبل توليه الوزارة كان الطبيب الخاص لزوجته ، وما يزال مستشارها فى هذا الشأن ،.
قبيل حضوره إالى السرادق كانت القرية تعج بالغرباء ممن لاتختفى ملامحهم ، والتى يدرك الصغير والكبير على الفور أنهم مخبرون ، ولأنهم كانوا كثيرى الحركة هنا وهناك ، ويتبادلون أطراف الكلام مع عساكر يحيطون السرادق ، ويصطفون على جانبى مدخله ، والبعض منهم كان يتضاحك مع ضابط شاب يحمل فى قبضته جهازا لاسلكيا ، يصدر أصواتا متقطعة بين الحين والآخر ، مما جعل الكل يخمن بحضور شخصيات ذات نفوذ ، إن لم يكن محافظ الإقليم وبعض من وزراء غير مترشحين ، ودار همس قوى بأن شخصية هامة ، وهامة جدا ستحضر هذا المؤتمر لتزكية الوزير والضغط المتواصل على المنتخبين الفاقدين الثقة فيه ليعطوه أصواتهم .
وبينما اكتمل اصطفاف العربات النقل الكبيرة المصفحة الزرقاء الناقلة للجنود المدججين بخوذاتهم وعصيهم الغليظة ، وصدحت مكبرات الصوت داخل السرادق وخارجه بأعلى الأسطح المحيطة ، كانت المقاعد الخشبية قد اكتمل الجلوس عليها ، واحتشد المئات من فضوليين وقليلى الحيلة ومن ليس لديهم شاغل يشغلهم فوق الكنبات بمؤخرة السرادق ، وكانت عينا راشد المترجل بين الصفوف بالسرادق شاهرا عنفوانا هشا وخيلاء ساذجا وكبرياء طفوليا بليدا ، زاغت عيناه فوقعت على وجوه تجلس بين الصفوف الأمامية ، تابعهم بقلق ، وراح صدره يعلو ويهبط ، وأنفاسه تضطرم كضجيج ماء يسقط من بوابة قنطرة ، ورحت برأسه تلعب علامات الغضب الذى يمور كلما لمح منهم تحفزا هيىء له ، فلم يستطع وقف تربصه المختزن تجاههم وصلفه الذى لم يقو على اخفائه فى تلك الساعة التى يأمل إنجازها بسلام ، ليقدم نفسه للقادم ومعه مناصريه من رجال الحكم والإدارة كصاحب دور لا يقارن به دور فى القرية ، وانه بكسبه له كسب لتأييد الغالبية ، لحظتها خرج العفريت الذى بداخله ، وهبطت كل رغبات التسلط عليه طائعة ومستجيبة ، قبض على مكبرالصوت ، وراح يعدد من مآثر له كانت تستحضر على التو ضحكات عالية وساخرة ، وأفضالا على الصغير والكبير بالقرية ، وأنها ستستمر إن هم أعطوا الوزير أصواتهم ، ولأنه سيكون الوسيط ولا غيره بينهم وبينه فى إنجاز كافة
المشاريع المبتغاة فى البلد، وأنه لا مكان للمغرضين والفاسدين بيننا ، وارتفع صوته ساعتها ، وحمى وطيس زهوه حين امتلأ السرادق عن آخره يالمتطلعين والفضوليين والمترقبين أن توزع عليهم عطايا المرشح الوزير كما اشاع وعلى عجل شعبان ابن بدرية ، وقد حسب راشد هذا الحشد من نتاج جهد وألفة بينه وبين الناس .
طارت فكرة مباغتة للتو الى رأسه ،لم يدعها تختمر فى الرأس ، فأمسك بالمكبر الصوتى من جديد ، وأشار بيده المعروقة التى ترتعش أطراف اصابعها دوما ، وأعلن : أن على الحاضرين جميعا ، ونيابة عن أهل البلد جميعهم أن يرددوا خلفه قسم الوفاء للسيد الوزير والتأييد بأصواتهم يوم الانتخاب، لكن السرادق المشغول بأشياء اخرى لم يكن ليستوعبها أبدا لولا هذا الصفير الطالع من جانبى السرادق فى المؤخرة ، حسبه استجابة لمطلبه ، فارتفعت عقيرته بالهتاف وبالقسم الذى طرأت كلماته على التو فى رأسه ، فلم يجد صدىلذلك .سوى قلة من صبية يتجولون فىشوارع البلد خلفه تمضية للساعات الفارغة فقط.
ساعتها انبرى من بين الصفوف الأمامية واحد كانت عينا راشد لا تتوقف عن ملاحقة تحركاته فى مجلسه ، اقترب من صدر المنصة العاليةومحاولاالاقتراب من مكبر الصوت الآخر الملقى فوقها ، تتردد كلمات مترجرجة فى حلقة ، لكنه أطلقه بصوت خفر ، أن علينا أن لا ننقادأو نصغى لهؤلاء الخفافيش المرصودون للظلام ، وممن لا نرى فيهم غير دعوات للهياج فقط ،
ولما كان القمقم قد خرج من صدر راشد ، فانطلق يرغى ويزبد ، تتطاير الكلمات من فمه المبلل الشفتين دوما ، وأشار بأصابع ترتعش فى وجه الواقف أسفل المنصة، مستنهضا سندا من الحضور المشغول عنهما بأشياء أخرى .، فتطوع حسن الموافى تاجر المواشى بجذبه من طوق قميصه لإنزاله من فوق المنصة . لم يكن من امر يحكم الموقف سوى فوضى عارمة ، وصراخ نسوة فوق الأسطح المحيطة تذكر أصواتهن خلف ميت اوغريق اوحريق اشتعل فى احدى الدور بينماالسرادق يختلط فيه السباب باللكمات والآهات بالدم الذى ينفر من رؤوس عاريةوغبار وفوضى ، لم تستطع العربة الزرقاء ذات الصندوق العالى المحاط بجنود مدججين ومن جاءوا لحراسة المحافظ وعلية البلاد لمناصرة الوزير المرشح ، وحماية مناصريه من اصحاب الشأن ،وقد انفرط منها جنود آخرون يملأون السرادق منتشرين فى كل جنباته، ولما لم يكن بمقدور أحد فض الفوضى ،تطوع جندى مدرب بقطع حبل الكهرباء الواصل من الماكينة التى تطقطق غير بعيد الى السرادق، ومارس الآخرون مهام أخرى يتقنونها ، فكان الصوت الطاغى ساعتها هو للقيود الحديديةالمصطكة بالمعاصم





مواسم الضنى

القسم اللأول

روايةقصيرة


أتظل أشجار الأسى شامخة؟
وإلى أين يمضى بنا هذا الجنون ؟
نحن نركب قطارنا ونمضى دون سؤال
والحياة صارت ياأمى زوبعة فاسدة

هيا بنا نقف على النوافذ ، وننظر إلى الخارج ذلك أفضل من أن نتعلم أن نقرأ على الشفاه أمورا نفضل أن لا نعرفها ، وليس لدينا أشياء هامة نقولها . بل لا .. لا عندنا أشياء وأشياء نقولها ، لكن ما من أحد يريد أن يأبه لنا

إتيل عدنان
من رواية :الست مارى روز


إهداء
إلى . سيدة الحب والروح المسافرة فى الوريد العاشق
من بها قد أمتلك قدرة القديسين على الاستبصار
إلى السعيدة فى مقامها البعيد فى الجغرافيا، والمقيمةفى الروح الشفيفة بفرحها الطفولى
إليها وهى تشاركنى كتابة لحظات فرح كانت عسيرة ، وعسيرة جدا
ابراهيم




أ
سماء ملبدة بغيوم داكنة


1/ شوقى

شوقى بن بدير ، الخارج توا من سجن المنصورة وقد قضى به ثلاثة أشهر ، عقابا له على انتهاكه مؤخرة فتحى ابن زينب برُقوقة وإدمائها . سقط عصر هذا النهار من منتصف عامود الكهرباء ، بعد أن خانته ساقاه ، وقد كان يحاول تسلقه للصق الصورة الكبيرة الزاهية للمرشح الدائم الترشح لانتخابات محلية وبرلمانية وخلافه ،، والذىاعتاد التحسر بعد كل محاولة على ضياع أموال كثيرة يبذرها على غير أهل لها ، آملا تحقق حلمه بدخول عتبة مجلس الشعب ولو مرة واحدة، وقد تقلص حلمه لحد أن صار يرجو الله أن يعوضه عما فقد من أموال وبيع أطيان ، وان يقضى الله عنه ديونه التى يحملها فى رقبته جراء ذلك .
لما صرخ الولد شوقى من عنف الألم الذى يشق حوضه وكامل عظام ظهره ، وحين فزع إليه مرافقوه من فوق السلالم الخشبية التى يجوبون بها الشوارع والبلاد ، ومن فوق أعمدة الكهرباء المجاورة ، صرخ بعلو صوته المشروخ والخشن ، مستغيثا لاعنا حظه العثر وأيامه السوداء :
-- الله يخرب بيوتكم ، باين علينا هنطلع م المولد من غير حمص .
ولما رفعوه وهو يتأوه ويعوى ككلب عجوز ضرب برأس فأس فوق سلسلة ظهره ، وقع فى أيديهم ، وحملقوا فى بعضهم مذعورين ، وارتعشت شفاههم بكلمات ، اندفعوا بعدها كل فى جهة مغايرة ، يختفى ، بينما غالب شوقى بكاء سيالا لم يكن ليعرف من طريق إلى روحه قبلا ، حتى يوم أن شقت لحم وجهه رقبة زجاجة الكاز المشرذمة ، لما صوبها إليه الأمير ابن أبو يوسفـ تسديدا لدين ما يزال حيا ، كان شوقى قد صوب إلى رأسه حجرا شق فروتها فانفجرت فيها نافورة الدم حارة .
واكتفى بعض من مارة بإبلاغ الأمر لصاحب الصورة الزاهية الراقدة بانكسار بجوار رأس شوقى التى راحت فى غيبوبة محت ضربات الألم التى فى الظهر .


2/ هيثم

الطريق الداخل الى البلد عند مزلقان السكة الحديد ، سده هيثم ابن رأفت عامل التريكو بالقرية المجاورة ، والمسجل فى دوائر الشرطة بتهم عديدة ، والمطارد منها ومن أولاد الليل والعقلاء وراقصات الأفراح وبعض المطلقات والمضارين من سرقة منازلهم أو مخازن غلالهم وزرائبهم بذراعين مفرودين أمام المرشح الشاب ، الذى يفاخر أتباعه من خلال مكبرات الصوت التى يجوبون بها السكك والبلاد ، بأنه أصغر مرشح فى بر مصر عمرا، والإبن الأوحد لأب ثرى يتاجرفى مواد البناء بالقرية المجاورة ، والتى يقول أتباعه من خلال مكبرات الصوت أن القريتين كانتا قرية واحدة منذ الأزل ، حتى قسمتها الوسية قسمين ، يمر بينهما شريطا السكة الحديد .وأعاد لها الرجل وحدتها وألفتها .
فتح هيثم ذراعيه عن آخرهما ، مبحلقا فى الضوء الباهر لسيارة سوداء لامعة تتقدم رتلا من سيارات مماثلة ونصف نقل وجرارات زراعية تجر مقطورات عالية ملأى بالصبية الهاتفين باسم المرشح القادم خلف مكبر الصوت ارتعشت أمام عينيه المتورمتين ، وألقى بثقله على مقدمتها ملوحا بقبضة مستوقفة فى وجوه من بداخلها، ولما نزل من بها وقد فو جئوا بالأمر ، مندفعين نحوه ،خوف مكروه يكون أصابه من اصطدامه،أوأن تكون إصابة لحقت به ، فى وقت هم فى غنى عن أمر كهذا، انتصب هيثم متنمرا ، يطلق نظرات شرسة من عينيه ، أحاط به المندفعون منها ، فلف ودار حول نفسه مسعترضا قامته الشابة وهو يدس أصابع يده فى جيب قميصه المشجر ، والتقط مفتاحا حديديا صدئا ، وشوح به فى وجوههم المندهشة ، وبثقة راح يديره أمام أعينهم المتحلقة حوله :
_ البلد دى ما يفتحهاش غير المفتاح ده .. شايفين ؟ المفتاح ده.
علت ابتسامات على الوجوه ، واندفعت ضحكات ضاجة مرتاحة ، وتقدم إليه واحد من المتحلقين، ودس فى جيب بنطاله لفافة صغيرة استراحت لها علامات قاسية على وجه هيثم ، وتهلل بالبشر وبالخير البادىء بقطرة ، فأعاد المفتاح الصدىء إلى جيب قميصه ، وأعاد استعراض فتوته الشابة ، ملوحا بذراعين عاريين فى الهواء ، وملتقطا يد المرشح الشاب يرفعها عاليا زاعقا :
-- تنتخبوا مين ؟ وحبيبكم مين ؟
تردد النداء خلفه مجيبا باسم المرشح الذى يهبط أرض البلد للمرة الأولى، ولحقه رجال ترجلوا من سيارتهم وصبية اندلقوا من فوق المقطورات ، تتبعهم سيارات وجرارات ومكبر صوت يلم صبية مترقبين ورجال يتربصون لموعد كهذا كانوا يقفون عند فوهات الشوارع والحارات .

3/ عبوده

كان عبوده ابن الشحات القريشى هو الوحيد الذى لم يتفوه بكلمة واحدة بينما الكل حوله يثرثر وينثر الضحكات والحكايات والوعود والأمنيات ، وحده ساقطة رأسه فى حجره ، ضائعا فى داخله الذى لم يشهد خارجه مقاما كهذا ، لفافة طعام يحاول فضها ولم يفلح ، كانت الرائحة الطالعة منها تلعب فى حلقه وداخل أمعائه كما تلعب الريح فى صحراء واسعة ، لم يجرب يوما طعما كالذى يقدم عليه الآن ، فراح ينهش ما بها بنهم لم يحل بين نظراته التى تروح وتجىء فى تضاريس تلك اللفافة الممتلئة والعيون المشغولة عنه بالتحديق فى ما بين محيطها ، وكان مستغرقا بكامله ، لم يدع فتاتا يسقط منه، وبحرص كحرص القطط كا ن يلتقط المتساقط تحت ذقنه ب ، ولأنه كان قد احتواها بين ذراعيه وقد شمر عنهما أكمام ثوبه الذى تفوح منه رائحة صابون طرية .
كان الممشى الطويل المشجر والملاصق للفيللا الأنيقة والمسيجة بالحديد المقوس والمربع والمستطيل والزاحف عليه من الداخل أوراق اللبلاب وست الحسن حتى تكاد تعزل الرؤية عنه من الخارج ،و فى نهايته وقف صاحبها رجل الأعمال الذى ينشغل الكل بترديد اسمه هذه الأيام فى كل القرى المحيطة بقريته ، وباستطالة الممشى ، كانت النضد قد مدت ، ورصت على أسطحها اللفافات ، وحولها رجال من أعمار مختلفة وهيئات متباينة وصبية مختلفى السحنات والملامح برغم البشر الذى يطفح على كل الوجوه ، أتوا ، أو جىء بهم من قرى كثيرة لتجديد التأييد للرجل مرة أخرى فى ترشحه للإنتخابات ، أو لأشياء أخرى ، كل حسب هواه الذى يختزنه .
ولما كان شكرى أبو نبوت ، صهر الرجل ، والموكل إليه تأليف المؤيدين والمناصرين والأتباع . قد أفهم عبوده ابن الشحات القريشى ، بان لا يخجل من طلب مزيد من طعام إن شعر بحاجة متبقية فيه ، فقد غالب عبوده خجله للمرة الأولى ، وطوى رقبته خلف ظهر من يجاوره، فهم شكرى الأمر ، وحين صارت اللفافة بين قبضتى عبوده فور طلبها الهامس ، هب منتفضا يأخذ شكرى بين ذراعيه ممتنا .
كان عبوده يشعر بأن خجله وانكساره بسبب ما تلوكه الألسن ، وما يصل إلى مسمعه أحيانا من نثار أحاديث عن علاقة زوجته برجال يحسدونه عليها لنحافته وضآلة جسده وهى العفية الطافحة بالرغبات التى تتورد لها كل ملامحها المشاغبة المعانى ، وعن شبان يصادقونه رغبة فيها ، هى أمور يجاهد نفسه مغالبتها فى هذه الأيام التى تشح فيها يوميات العمل فى الغيطان ، وهى مناسبات لا تتأتى لمثله سوى كل قبضة من أعوام ، وعليه انتهازها من فرصة كما شددت هى عليه قبل خروجه من داره عصر هذا اليوم :
__ تجرى وتبهدل روحك فى الانتخابات والبلا وى الزرقا من غير فايدة ،واللا تتكسف من أيتها حد ، ما شوفش وشك فى الدار .
تجاسر عبوده بعد رحلة خاطفة نفض فيها ما هاجمته من وساوس ، وشد من أعضائه مما ألزمه أن تصير رأس شكرى الذى جلبه إلى هذا الحشد فى مواجهته ، مسح زوايا فمه وهو يهرش شعر رأسه بيده الأخرى ، فابتسم شكرى بخبث ، ودس له فى كفه المفتوحة القبضة:
- دول لزوم اللف والجرى ياعبوده ، وما لناش بركة إلا انت .
ولما اطمأن عبوده أن دفعة أولى مما طلب متجاسرا قد رقدت فى جيب جلبابه ، امتلأت عروقه ثقة ، وأحس بقوة تتمدد فى أعضائه فتنتشى لها روحه المكسورة ، ورفع رأسه وما بها من هموم تلازمه منذ سمع بما كان يدور خلف ظهره من أقاويل عن زوجته ، صحبه انتشاؤه للتدافع مهللا ، باشا ، بل ومرتفع الضحكات وسط طابور طويل ، كان منذ قليل موزعا بين النضد الملأى بلفافات الطعام ، وعند الباب الحديدى للفيلا التى تفوح من أرجائها رائحة بشر وطه و وصخب وهمس وأبخرة تأتى من طابقها العلوى وعبق كثيف لدخان السجائر التى تناثرت أعقابها على أرضية الممشى الطويل ، وكان صاحبها . فى جلبابه الأبيض الذى يلف كرشا يتوسطها ، يبدو كبيرا على غير حقيقته لقصر الرجل وتربع جسده ، بينما طوق الجلباب المفتوح حتى منتصف البطن أتاح لطابور المؤيدين وهم يصافحونه أن يروا أثر النعيم باديا على صدريته الحريرية ذات الخطوط القاتمة اللون واللامعة فى مجملها ، كان عبوده مشغولا بالثوب الأبيض المنشًى ذوالياقة المتصلبة على رقبة الرجل ، وتسمًرت عينه على فتحة الجلباب والصدرية ، وما أن اقتر ب دوره حتى هيأ حاله لتقبيله إن تمكن من ذلك ، وإلا فتقبيل يده أمر متاح ساعتها ، وسط تلعثمه وارتباكه وهو ينقض على اليد يقبلها ، ، رفع رأسه بصوت مرتخ :
__ والله ياعم الحاج يسرى ، ما فى حد ناجح من المرشحين الفئات غيرك ، إن شاء الله ، كل الفئات رايحين فى داهية والله.
اسقط فى يد الحاج يسرى مرشح العمال ، وفرك كفيه ، كاتما تأففه ، بينما راحت نظراته ، قاسية ، تتأجج بالعتب والغضب من شكرى أبونبوت الواقف خلفه غارقا فى ارتباكه هو الآخر

.
4/ رفعت

وهو يجفف بمنديل القماش الذى يملأ كفه العريضة عرقا يملأ وجهه المشعر ، المطبوع بحماس وهمة مفتعلة ، وإجهاد ، باغت الجمع بحلوله وسط دائرتهم المختلفة أعمارا وملامح وأمزجة وطباعا ، ما بين مزارع صاحب أرض أو بلا قيراط واحد وطالب الجامعة والعاطل عن عمل أو متعطل وصاحب دكان البقالة وسائق الجرار والمدرس الأزهرى وفراش المدرسة الثرثار والحلاق الأكثر ثرثرة والمطلوب القبض عليه لتهربه من الجيش أو لسداد دين حكومى والنجار وطالب الثانوى وصبية يلهون ويهرجون حول شعبان ابن يدرية بائع الخضروات بعربته الخشبية فى سوق الشيخ ضرغام بالمنصورة..
ولما لم يلتفت إليه أحد ، وبدا أن كل الحاضرين لا يعيرونه أدنى اهتمام ، برغم أنه أسنهم ، وأكثرهم اعتناءا بمظهره وهندامه المليح ، فهو ابن رجل كان له شأن فى البلد كبير قبل سنوات من غيبته الأخيرة ، برغم ما كانت تؤخذ عليه من مآخذ كثيرة فى حياته ، إلا أن الحديث فى حضرته كان دائما ما يتسم بالوقار ، وربما يعود ذلك لهيئته المهيبة التى يزكيها جسد فارع عريض يكسوه صيف شتاء الجلباب الصوفى الفضفاض والعمامة البيضاء ذات الشال الملفوف على طربوش أحمر زاه دائما ، وهى غير ما يعتمره الرجال فى البلد من شال أبيض حول طاقية صوفية ، ولأنه لم يأخذ من أبيه سوى مهابة جسدية ، فلم يعبأ به الكثيرون من أجيال توازيه عمرا أو تعقبه .
زاحمه غضب مفاجىء لما رأى عدم اكتراث من الجمع الصاخب المشغول بآخر التطورات ، والمأخوذ بالأخبار المتواردة عن المرشحين للإنتخابات فى البرلمان الجديد ، رفع ذراعيه لأعلى فبانت سواعده حتى بعد منتصفها عارية ، وصفق ممتعضا ليوقف اللغط وفوضى الأحاديث التى لاتمسك بطرف معلوم .
-- محدش سألنى أنا اتأخرت ليه ياكلاب ياولاد الكلاب ؟
ولما لم يهدأ الصخب الذى ازدادت حدته وسط المجتمعين عن عمد، وتطاير عبارات هنا وهناك تغمز من قناته ، حمى وطيس داخله ، وارتفعت موجة غضب برأسه لضياع سؤاله الذى أعاده مرة أخرى مرتفعا عن ذى قبل ، حادا ومشروخا ، ولما جوبه بما يشبه الإصرار على تجاهله ، انحنى يخلع من إحدى قدميه فردة بلغته الفاقوسى ، وراح يلوح يها أما م وجوههم الباردة ، وقد أحال تجاهلهم إلى استنكار ما لبث أن اندفع سيل من ضحك وقهقهة وتصفيق .
__ ياولاد ستين كلب يازبالة الخلق "
خيم على إثرها صمت مباغت ، وكان التوجس لحظتها يحتوى الجلوس ، بينما كان ممن لايقع بصره عليهم يتغامزون خلسة ، وهم يشيعون الكلام من خلف ظهره :
-- طول بالك يارفعت ، شوف المصيبة اللى احنا فيها الأول
قالها شاكر ابن عبده أبو دراع وسيجارته مصوبة الى وجه رفعت ،منتصبة من زاوية فمه الحامل شفتين غليظتين ، وكان يمسح بظهر كفه عينين متورمتين ، بينما عيون بليدة غير مكترثة من رقاب مشرئبة تحوى المشهد بأكمله ، وأزاح الجالس بجواره فى غلظة تمهر تصرفاته كلها ، وجذب الواقف المنتفض المخذول وسط الدائرة من كم جلبابه ، وأجلسه بجواره .
البلد كلها ماسكة فى سيرتنا ليل نهار ، إبن ابو نصير ورجالته بيقولوا للناس ، إن احنا واخدين فلوس م الحاج فايز.
ضحك رفعت الذى اندفع عاليا صاخبا أعقبه شخرات من حلقه مستهزئة ، بينما كانت يده تعبث بلا طائل عن سيجارة ادخرها فى جيب صدارييه .
-- قالوا ياللى ابوك مات م الجوع ، قال هوا كان شاف أكل وما أكلش ، ياناس وحدوا الله ، الحاج فايز بتاعكوا ده مش لاقى يهرش .
حكمت الفوضى المشهد فى مخزن الغلال الفارغ أسفل دار ابراهيم ابن شوقى الملاح ، اندلع صراخ وصياح احتجاج وسباب وهتافات وفوضى عارمة بين الجميع ، ما لبثوا التفرق كل فى وجهة يراها ، والحاج رفعت يحاول لملمة ماتبعثر جراء كلامه الساخر ، ويميل بقامته الفارعة على رأس شاكر ابن عبده أبو دراع المنتفضة بالزعيق الجاعر الخشن .
n يا أخى كنت غاسل هدومى ، واستنيت لما نشفوا ، وتقولوا مش واخدين فلوس م الحاج فايز؟ اللن يخرب بيوتكم على بيت الحاج فايز ، الحدوتة دى على مين ؟ هه ؟ ، إذا كان مرشح فقير زى ما بتقول ، ماتيجى نلم له الزكاة ، واللا تبرعات أحسن ؟.


5/ على ابن خالتك حسينة

مستغرقا فى نوم قيلولة نهار عطلة رسمية من المدرسة ، اليوم عيد جلاء القوات البريطانية عن أرض مصر ، خرجت من رأس الأستاذ على ابن خالتك حسينةكل أوجاع الزمن الذى فات ، وهم الذى محتم حضوره ، فبعد عودته المظفرة لعمله بالمدرسة الابتدائية بالبلد ، وبعد عام من التقاضى والمحاكم مع ادارة التربية والتعليم ، كان حكم القضاء الإدارى حاسما لصالح عودته ، لكنه ما أن حاول نقل استطالة جسده من موضعه الساخن فوق الفراش حتى داهمته النداءات الجاعرة المتكررة والمتنوعة ، والتى تقتحم سكون الحارات والأزقة والبيوت والشوارع باتساعها أو ضيقها ، كل حزمة من سنوات معدودة ، تخرج من مكبر صوت لاتشوبها خرفشات أو تقطعات معتادة ، والواضح من مخرج هذه الأصوات حداثتها وقوتها ، وتتعالى حول النداءات هتافات وصفير متوال ، دعك براحتيه حبتى عينيه المقروحتين لحرارة الحجرة وأرق مغالبة هذه القيلولة المتوترة ، هب منتفضا كالذى سقط فجأة على وجهه برص ناعم الملمس حال نومه بغرفة معتمة ، ولما التقطت أذنه من بين النداءات إسما يسمعه للمرة الأولى عبر الصياح والهتافات ،حاول لملمة ذاكرته عن هذا الإسم الذى لم يغب طويلا ، فخرجت أشواك التذكر من الرأس التى بدأ يتصاعد اليها الجحيم كما قال هو بعد ذلك .
جلس مربعا ساقيه فى منتصف سريره ، وقد فتح وليده الأصغر النافذة المستطيلة التى تقف بمحاذاة السرير غير بعيد ، فعاودت الأصوات الضاجة اقتحامها ، وتفجرت السكينة التى كان ينشدها قبل قليل ، صار الإسم الذى انتفض لسماعه وأصاخ سمعه للتأكد منه يخترق طبلة أذنه بحروفه الواضحة على أسنة النداءات المرفوعة من مكبر الصوت النقى ، ويعبر إليه فى مكمنه السريرى ، ولما لم تتسع الرأس فيه لعلامات الإستفهام الذى بدأت تحاصره من كل اتجاه ، لملم نفسه ، والتقط ثوبه المعلق فوق مشجب خشبى على الحائط بأعلى رأسه بجوار السرير،وهم بالخروج .
لحظتها واجهته دنيا كاملة مشغولة بالغبار والصفير والنداءات والهتافات والتصفيق والزغاريد المصاحبة لإنشاد خشن بإسم المرشح المقتحم البلد للمرة الأولى ، الراكب سيارة زرقاء لامعة ، مفتوح سقفها الواطىء ، والمنتصب با لنصف الأعلى رجل خمسينى ، ربعة ، كبير الرأس المنتفخ وجهها باللحم واللحية السوداء المتدلية على صدره ، وكان يلوح بيدين عفيتين يمنة ويسرة ، بينما صوره التى تشبههه لحد بعيد ، تحيط به من كل ناحية ، وخلفه موكب من سيارات متمايزة الصور والأشكال ، ارتقاها شبان وصبية يلوحون بذات الصور والشارات الخضراء الموشومة من منتصفها بصورة المصحف والسيف وعبارة دائرية تحوطهما.
لما تأكد له من استرجاع وقع الإسم المتردد مع الهتافات من مكبرات الصوت عبر الحناجر الشابة ، والصور التى تشغل واجهات السيارات ومؤخراتها ، والمنقوش تحتها هذا الإسم الذى يخامره حسه به الآن ، وقد راحت ذاكرته تقف فى صحوها التام ، راحت تتقلب فى رأسه أمور كثيرة :
-- أيعقل ؟" يااااه سعد جمعة المكباتى ؟ يااااه سعد المكباتى مرشح :" والله مصير الحى يتلاقى .
وقد لمعت على الفور فى رأسه فكرة بدأت باهتة لدقائق ما لبثت أن استوت وقامت من مرقد التخمين إلى مهجع التوقد ، لم يدع لها من أسئلة تروح وتجىء تشاغل المخيلة .
ها هو سعد المكباتى على أرضه وفوق ساحته ، وفرصة سانحة لن يدعها تموت بين يديه مرة أخرى ، فسعد المكباتى المدين له بألفي جنيه مصرى على أرضه ووسط أهله ، ويستطيع الإمساك بخناقه دون خوف من أتباع له كانوا يحيطونه أينما راح أو جاء ،.
كان قد أوهمه بعقد عمل له فى بلاد الخليج ، أى بلد ، لم يحدد له مكانا أو أرضا ،أوتأشيرة دخول صالحة للحصول على إقامة شرعية ، بموجبها يحق له البحث عن عمل لائق ، ولعامين كاملين والأمل بالسفر يراوح مكانا لم يستطع الخروج من كابوسه المفزع صحوا ونوما ، سعد المكباتى الذى سبق صيته فى القدرة على الحصول على عقود عمل وتأشيرات دخول كل الكلام والأمنيات ، وامتلأت القرى المحيطة بأخبار من سافر واستقر وطاب له الكسب والمقام هناك ، لكنه ظل يراوغ ويزيد من نمو الأحلام داخله ، ولما بان له من كذب كل الأحاديث رغب الأستاذ على فى استرداد الأفى جنيه التى يطارده شبح إيصال الأمانة الذى وقعه بخط يده دينا بهما عليه لزوجة أبيه يسددهما ألفين ونصف بعد عام من سفره ، داخ الدوخات السبع عليه ليسترد الجنيهات ، وحتى لايقع بقبضة زوجة أبيه المالكة لإيصال الأمانة ، مرات يخفيه أهله عنه ، ناكرين وجوده بالدار ، ومرات يكون بضيافة الشرطة لقضاء حاجة أو لاستجواب مباغت .
مشاعره الرافضة لما يصل إلى مسمعه الآن تحفزه على الخروج من داره ، والدهشة تمور برأسه وتلتم كصديد فى رأس دمل يؤلم الصدر ، هو فى حالة تشبه من هجرها زوجها ، لم ينصت لناصحيه مرة من أن الرجل نصاب ومحترف خداع ، وأنه لن يحصل غير الوهم من السير خلف تمنياته ، وبالرغم من أن شيئا داخله كان يدفعه لتصديق ما يقال فى حق سعد المكباتى .
الدنيا بأكملها تضغط على رأسه هذه اللحظة ، والموكب الضاج يقترب زحفه قادما من شارع البلد الرئيسى ، وصوت عزيمته يقوى وينمو داخل الرأس والروح ، لايرى الآن غير هذا المنتصب وسط عربته المكشوفة محاطا ببعض من تابعيه ، عمامة بيضاء مبرومة بعناية ويتدلى طرفها ناحية صد غه الأيمن ، ولحيته الكثيفة التى ينساب فيها الأبيض على قلته وسط كثافة الأسود ، ملوحا لنسوة فوق الأسطح وأمام الدور ، ومترجلا يصافح الرجال فى الطرقات والعائدين من غيطانهم بآخر النهار وأمام الجامع ودكاكين البقالة والحلاقة ، .
ولما قادته قدماه مستوقفا الموكب وبعصبية بدت واضحة على ملامح الوجه الحامل آثار نعاس ، وما أن لمحه سعد المكباتى الملوح باليدين المشمترى الأكمام حتى أنزلهما واجما ، وتكدرت هيئته ، لأنه على الفور تذكر صاحب الهيئة المقتحمة ، القافز بين العربات التى توقفت فجأة لصيحته المدوية ، وهو يقفز على مقدمة العربة التى يركبها واقفا سعد المكباتى ، واختطف ميكروفون مكبر الصوت من الصبى الجالس بجوار السائق ، لكن رباطة جأش أسعفته بأن يلتقط الميكرفون من يده محيلا بينه وبين الحديث جهرا وقد أراح كفه فوق فم على ابن رجب السلكاوى ، وقد صار الوجهان متقابلان .
_ خليها تعدى على خير والألف جنيه يبقوا تلاتة .
بينما يرتفع الإصرار داخل رأس على ، ويقوى عزمه على المضى فى ما انتواه .
_ وحياة دقنك الشريفة دى ليكونوا عشرة . مش تلاتة
_ طيب خليها تفوت وأنا تحت أمرك
شعر على ابن رجب بأن فى الأمر مراوغة وتحايل جديد ، لكنه ، ومن خلال عضلات وجه مشدودة متوفزة رد بثبات
_ يبقى أقبض دى الوقتى
_ ودى معقولة ياصاحبى " فى حالة زى دى أشيل فلوس معايا ؟
_ يبقى تكتب شيك . لأ . وصل أمانة بالمبلغ . بعشر تلاف جنيه
وقد كان
وبيد مرتعشة وعيون زائغة قلقة متوترة النظرات الكسيرة المخذولة راقبتها العيون المبحلقة من كل صوب والآذان المحاصرة المحشودة بالموقف وتداعياته ، وقع سعد المكباتى مرشح العمال لمجلس الشعب الجديدأسفل سطور بورقة ، وبخط يده كتبها ، وأقر فيها بدين يبلغ عشر ة آلاف جنيه لعلى ابن رجب السلكاوى الخفير
.

6/ الأمير ابن أبو يوسف

على أرض الحجرة الهابطة عن الحارة الضيقة درجات ، كان الأمير ابن أبو يوسف فى مقابل زوجته يجلسان حول عشاء ، بجوارهما ولديهما ، تقضم هى فى أسى يطفح فوق ملامحها ، ولم تزل دموعها تسيل على أنفها . بعد وجبة ليلية من سباب ولعنات لها ولأمها ، وشجار دائم يلتم على إثره فى كل مرة نسوة الحارة ، ولم تعد واحدة منهن تأبه للأمر لتكراره وكثرته ، بينما هو يلملم ما يقع بين يديه ويحشو فمه بتوال وبلا اكتراث بها أو بولديه .
ولما اقتحمت الحجرة قامات ثلاث ، رفع رأسه لتضيق أمام عينيه مجالات الرؤية ، فأحس بهلع خاطف ، استعاذ على إثره بالله من الشيطان الرجيم باسما ، ومن شر الحاضرين على القاعدين ، كان أحدهم يسد بكرشه مدخل الحجرة ، ساندا كتفيه على حافة درفة الباب المغلقة ، بينما قرفص ثانيهم تحت قدميه ينفث دخان سيجارته ، وبأعلى رأس الأمير وقف ثالثهم يثنى ساقه اليمنى لتصير ركبته بمحاذاة رأس الأمير المنشغل عنهم ، فيهزها بتلطف .
_ ياللا يا ابن شفيقة . جالك الفرج.
_ وانتوا وراكوا غير زبل الأرنب ؟ فرج إيه يابو فرج ؟
قالها الأمير وهو يزيح ما تبقى من فتات عشاء أمام ولديه ، فتقهقرت زوجته تسند ظهرهاللحائط وتدفن رأسها بين ركبتيها وهو يرمقها بغيظ ، وينهض نافضا جلبابه من نثار الفتافيت .
_ ياللا بينا من قدام بنت المرا الفقر دى ، وخلينا نشوف الفرج بتاعكم فى ليلتكم اللى زى الهباب .
لكنهم استبقوه بتلطف مبالغ فيه تصاحبه ابتسامات وعروض بسجائر ، فصرف زوجته لتعد شايا ، ليواجهه الأشيب صاحب الوجه الملىء بالبثور والشفة السفلى الغليظة الهابطة .
_ آدى الطبلة ، وآدى البازة بتاعتها . من الليلة مش عاوزك تهدى يابطل .
لم يقل للأمير أنها كانت طبلة أبيه التى كان يدقهالإيقاظ الناس للسحور بشهر رمضان أو لصلاة فجر كل ليلة نظير نصيب فى غلال أجرانهم ، أو فطائر وكعك العيد ، ولكن الجالس القرفصاء عند قدمى الذى يسد الباب بجسده المهول قال بتهكم .
_ خد بالك ياوله .. دى من ريحة المرحوم .
كانت نذر اشتعال الموقف بينهما قد لاحت على الفور ، ولن يحتمل ضيق الحجرة وقائع عراك محتمل ، لولا أن تداركت الأمر زوجة الأمير بأكواب الشاى التى صاحت من خلال صوتها المخنوق ، فزام الأمير فى وجهها ، ولعن من أنجباها لكونها لم تعمل له حسابا فى كوب رابعة وقد التفت إليهم مسرعا .
_ طبلة إيه ، ومزيكة إيه ، هيا الناس ناقصة هوسة وزيطة ، لو عاوزين أعمل عجين الفلاحة مفيش مانع ، بس.. إيدك ياحبيبى انت وهوه .
وحك سبابته بإبهامه أمام أعينهم ، فقال المعمم أكبرهم .
_ الله يخرب بيت أبوك مطرح ما راح ، واحنا لينا بركة إلا انته . بس ينجح الحاج فايز ، وهتشوف الهنا كله .
قفز الأمير من جلسته القلقة مباغتا الثلاثة ، مقسما بأيمان الطلاق الثلاثة المغلظة ، أن يرسم الرمز الانتخابى للحاج فايز على صدره وظهره ، وأن لايستر نصفه الأعلى طوال فترة الدعوة للانتخابات ، لكن الأمر الذى يجب مراعاته ، وكما حك جسده مرة أخرى بإبهامه وسبابته .
لم يباغت الثلاثة بكلام الأمير ، فهم يدركون سذاجته ، فلمعت الإشارات الطالعة من كلامه أمام أعينهم ، هبوا يصحبونه من تحت إبطيه خارجين نحو دار مشير الخطاط الذى ينمو رزقه فى مثل تلك المناسبات هو الآخر ، وتعرى الأمير أمامه ، وكانوا حوله قد ألقى بهم الضحك على وجوههم من مرآه وما تصنع بجسده العارى أصابع مشير التى تنقش بألوان زاهية الرمز الانتخابى للحاج فايز على صدره وظهره ، وفى وسط الدائرة التى تحلقت حوله ، قبض الأمير على الطبلة المصبوغةبآثار الزمن الغابر ، وبيده الأخرى البازة الرفيعة ، وقد راح يتراقص ويلف ويدور حول نفسه ، ويدق بطرفها الرفيع على حافة الطبلة ، وهم حوله يصفقون بالأكف التى التهبت مع الضحكات الساخرة وهى تتوالى وتتابع مع تتابع الملتفين حوله ، يذرعون الشوارع والحارات ، وقد صار الجمع حشدا كبيرا يهتف ويزغرد ويصفق ، بينما شفاه نسوية على الأطراف تمصمص تأسيا لما يجرى للأمير ومعه ، بينما كانت تذوب تلك المصمصات وسط الغبار الذى يعلو مع الهتاف باسم الحاج فايز .
ولما واجه الأمير آخر الليل هذا الخواء والفراغ الذى يصفر بداره التى خلت من زوجته وولديه ، جلس مخذولا منزويا فى ركن رطب من حجرته ، وأشعل نارا فى موقد الفخار المتوسط لها ، وسحب الجوزة النحاسية التى يغطيها الصدأ ، وراح يسحب أنفاسه فى استغراق بائس وتأمل عميق لما يدور بداخله المنكسر . حين كان يسترجع الأحداث التى صارت طوال ليلته ، وجيبه الخالى مما وعد به من الثلاثة التى صارت صورهم تتراءى له فى عتمة روحه القلقة بشعة وقاسية، والتى لم يستطع مقاومتها أو مطاردتها خارجها ، لكنه انتفض من عنفوان مشاعره الملتهبة ، وراح يتخلص من ملابسه بعصبية بدت فى قبضات أصابعه على لباسه الداخلى ونتفه التى تمزقت بينها ، واسند ظهره العارى لجدار الحجرة الملاصق للباب المغلق وراح يحكه به ، بينما أصابعه المتوترة تحك الصورة المنقوشة على صدره بأظافر حامية ، ولما أعيته السبل ، وأجهدته محاولاته الخائبة لنزع صورة الحاح فايز من فوق صدره وظهره ، سقط على الأرض مغشيا عليه ، وحيدا ، تتألم روحه ، بينما ريح تصفر فيها وفى الحجرة الخالية بأسى .

7/ راشد والوزير وفهمى

جاءهم بعد سنوات خمس ، ممنيا النفس بالحصول على التأييد له كما فى المرة السابقة ، لكن هذه المرة كان قد زال عنه سلطان سلطة الوظيفة الكبيرة التى كانت أكسبته مهابة وسلطانا وتألقا، وتضاءلت حاشيته التى كانت تعد له حتى خطواته التى يخطوها بين الناس وترتب له الوقت واللقاء ، فلم يحط به هذه المرة غير قلة منهم ونفر من أهل قريته المقربين ممن كانوا يحظون ببعض من نفحات سلطانه ونفوذ وظيفته .
جاء هذه المرة بلا ضجيج يسبقه أو لغط حديث يخلفه ، على قدميه قطع الشوارع والحارات ، مرافقوه يدقون على الأبواب المغلقة ، ويستأذنون أهلها فى الحديث ، فيطل البعض متأففا حانقا ، تحول سماحة النفس المعتادون عليها بينهم وبين مجاهرتهم بالإستياء من الرجل الذى مناهم كثيرا ، وراحت وعوده الممنية أدراج الرياح ، صار وقع ممانعتهم فى الجهر بالتأييد له هذه المرة قاسيا ، ومرا فى لحظات كثيرة ، ولذكاء وثبات عقل فيه كان يوافقهم الرأى الجارح ، ويصدقهم أقوالهم فى أنه قصر كثيرا فى حقوقهم ومطالبهم ، وأرجع الأمر فى كل أحاديثه إلى مسؤلياته الجسام فى الوزارة ماضيا ، وقد تحلل منها الآن ، ولم يخل الأمر من انكسار فى نظراته أمامهم انحنى البعض لها خجلا ، وطار صواب آخرين لها طربا .
لما تشيع نفر من مناصرى الوزير السابق فيما قبل لمواجهته ورفض تأييده هذه المرة ، وجدها راشد ابن محمد أبو دراع فرصة مواتية ينبغى اغتنامها ، فهو متربص بهؤلاء النفر منذ سنوات ، وبكل من يبادىء بالحركة وسط الناس ، فيعلو قدره بينهم ، لم يتورع يوما من النقمة على كل جميل ينبت فى حقول المودة بين أهل البلد ، متزينا بصلف يدارى به هزائم وخيبات داخلية لا يقر بها أبدا ، فبعد عسر طال مقامه فى حياته ، وحين كان مضرب الأمثال فى رثاثة الملبس بين أقرانه ، وبعد مكابدات عيش طالت منذ مولده حتى تخرجه من الجامعة ، وبعد سنوات عمل مدرسا لم تثبت له جدارة ، أو يبدى همة يوما ما ، أتاه عفو الأقدار ، وتهيأت له سفرة لم تكن فى دائرة مخيلته الى بلاد الحجاز لسنوات أربع لم يكن بمقدوره الاستمرار هناك لشراسة الطباع وسوء التدبير ، لكنه اغتنم منها ما اغتنم من جنيهات ، عض عليها بنواجذه ، وتبدلت قليلا هيئته ، ولم يتبدل داخله الحانق المتنكر لأيامه العسيرة التى انقضت ، واللاعن أيام اليسر التى أصابت غيره حين ألبستهم راحة وطمأنينة وتأنقا ، هو الآن لم يعد يهتم بمصير أحد غير مصيره ووجوده فقط ، وجوده الخاص فى الدنيا ، ، مايشغله فقط تسلطه ومحاولات تدميرالآخرين بافتراءات وأكاذيب ، لم يعد لديه مغامرة جميلة وحقيقية للحياة ، هى فى نظره نقيض لطغيان الآخرين عليه ، وكم هو ماهر بممارسة الطغيان فى شكله الإنسانى حتى على ذويه ، تشغله فكرة سوداء أن يجبر الآخرين أن يتحركوا على أربعة أقدام لو كانت أعمدتهم الفقرية البشرية تقدر على موافقة هذا الفعل .
وجدها راشد ابن محمد أبو دراع فرصة عليه اغتنامها ، ولكن ماذا هو فاعل ، وقد تقدم بشر كثر يدعمون مرشحا مرموقا وسط أهل القرى المحيطة ، ومنافسا لهذا المرشح المدعوم من ذوى السلطة والنفوذ ، وممثلا لحزب معارض ، وأعلن بينهم بصوت جاعر دائما ، : أنه من أجل صديقه __ قال عنه صديقه __ المرشح المعارض ، والقادم من القرية الملاصقة ، والمرتبطة فى كثير من الحالات بصلات مصاهرة ونسب مع كثير من أهل قريتنا ، تخلى عن فكرة ترشيح نفسه للبرلمان ، ولأنه أجدر منه ، وهنىء به المرشح المتشابكة يده بيده ، ولوحا للملتفين حولهما فى الساحة الوسيعة فى صدر المقابر وسط البلد ، بينما تعالت دهشة متسائلة من البعض الذى شاهد راشد ابن أبو دراع ليلة الأمس يجاهر بتأييد مرشح ثالث بصحبة قلة من أهل قريته ، وكان يطرق أبواب الدور نيابة عنهم ، وبذات الصوت الأجش الخشن كان يلوك كلمات التأييد وهو يطلبها من كل من يمر بطريقه ،.
ماذا هو فاعل الآن ، والسؤال بشكله ومدارج حضوره لم يكن يوما من مفردات حياته ، كل أفعاله تأتى موتورة ومتوترة وصادمة ، هى بنت لحظتها بالكاد ، يهوى الصخب ، ويعشق الهياج ، لأنه فاقد صبره على الدوام ، ويتحاشى أن يضيع على دروب التعقل فسجن نفسه داخل جدران منطقه الإنسانى لكل من يراه متحققا أو ناجزا عملا طيبا للآخرين .
*****
ولما لم يشتعل السؤال مرة واحدة بداخله طوال هذا العمر الممتد لأكثر من خمسين سنة ،، فلم يدرك فى كل أحواله أن أفعاله يشوبها الإضطراب والإرتباك والتناقض .
وجدها فرصة سانحة عليه اغتنامها فقط ، هاهم مناصرى الوزير السابقين يعلنون على الرجل حربا لا هوادة فيها ، لأنه خيب رجاء قرية بأكملها فى السنوات التى مضت بوعود لم يتحقق منها شىء ، فراح يعد للأمر عدة يتقنها ويعرف كافة تفاصيلها ، صاخبا ومنفلتا من عقال طال ، أحاط برغبته عاطلون وكسالى ومن فى قلوبهم هوى متشعب ، اصطفوا خلفه غير مبالين _ مثله _ بعادة أو تقاليد ، فمنهم من رأى فى الوجهة الجديدة تحقيقا لثأر قديم مع من يرفضون تأييد الرجل وإعانته فى الدعوة لنفسه مرشحا .
**********
لابد أن تواجه الوزير السابق فى بداية أمره للترشح صعوبات ، ولعل من أقواها ، عدم التكيف مع نزوات راشد وأتباعه ونزقه ، ولم يخل الأمر من صدامات حادة بين مساندى الوزير وراشد وحاشيته وصلت لحد التراشق بجارح العبارات من جهته _ كعهده _ وهو المستعصى على الآحتواء فى لحظات مواجهة مكشوفة ، فلابد من أن يصدر مواقف حادة لاقبل له به لو أوتى منفردا ، وكثيرا ماكانت قبضات أتباعه تلوح فى الفراغ دون تحقق فعل
ولما انبرى فهمى ابن وجيه من وسط الحشد المتصايح والمتدافع خلف راشد واقفا ، كان ؛ وهو المنذور لسلاطة اللسان كراشد ، وتماما كأبيه الذى قضى أخريات سنينه حبيس شلل نصفى وثرثرات موجعة لا تخلو من افتعال نقائص ساخرة وتلامز وتنابز بألقاب كل مار به ، وحكايات عن البشر والكائنات ، يتسلى بها المتنطعون فوق المصاطب الطينية المتناثرة بجوار بيوت البلد وفى دكاكين الحلاقة، وكأنه كان يغادر أشباح القسوة التى لاقاها بعد مرضه من زوجته التى يعايرها دوما بأمها التى تبيع الروث الجاف لأفران الخبيز وكوانين الطهى الطينية ،قذف فهمى فى محيط تجمعهم البالغ الصخب والعنف المفتعل قذيفة ألهبتهم ودفعتهم لعراك لايرجى منه مروءة أو خير ، فقد أعلن بلهجة لاتخلو من صفاقة أمام أتباع الوزير السابق ، أن لاأحد بالقرية سيعطى له صوتا إن لم تساندوا فى قريته المرشح الآخر الذى يتشيع له هو وراشد ابن محمد أبو دراع ، فأسقط فى أيديهم ، وأصبحت الأمور بمنأى عن أى تقارب بفعل هذا المطلب الصعب تحققه ، لارتباط الوزير بمرشح الحزب الآخر عن العمال ، وصار الود فى تلك اللحظة آيلا للإنهيار ، ولم يتبق غير أيام قلائل عن يوم التصويت بالانتخابات .
قالها بنفسه أبرز المرافقين للوزير السابق : لو لم يكن بنا حاجة لافتعال شقاق أو خلاف لأشعلناها نارا تحرق جلودكم جميعا ، ولجعلنا الدم يسيل حتى مفاصل الأقدام ، وهم واقفا بغضب يتبعه بقية المناصرين ، وغادروا القرية بسياراتهم التى كانت تنهب الأسفلت وكأنها تؤازر خيبتهم فى تلك القرية

.
8/ الشيخ أحمد عباس

لايوجد أى أمر يزعجك او تعمل له حسابا ياشيخ أحمد ، أنت ، وكما تقول دوما لبن تكون مناهضا لأحد من أجل عيون آخر ، فكلمتك يسمعها الجميع أرادوا أم لم يريدوا ، فى هذه الأيام أنت تقف على أرض مغايرة للكل ، من يتشيع فى مناصرة مرشح ، ومن يناصب غيره العداء ، فأنت موفور المهابة برغم تبسطك فى الحديث مع كل من هب ودب ، صغيرا أم كبيرا ، رجلا أم امرأة ، ملاحة ممازحاتك للكل وأنت تغدو وتروح للمسجد عند كل آذان تشرح الأرواح وتنفى عنها ضجرها ، يستملحون كلامك الذى تطلقه عادة بصوت هادر ومشاغب ، وإن كنت تهنأ نفسا ، ويطيب لك الجلوس عقب صلاة كل عشاء على مصطبة دكان حمدى مع من يطيب لهم الصلاة خلفك لرخامة صوتك ، كما يسعدهم ويشجيهم سماع خطب الجمع المتوالية منك ، وأنت تجاهر برأى لك لا يطيب لمن على رؤوسهم بطحة ، ، فهذه والله ليست بالمغرمة ، وإن كانت كذلك فى هذا الزمان ، فالأرواح جنود مجندة ، ماأتلف منها إأتلف ، وما اختلف منها اختلف ، فلماذا لا تسارع بإشهار رأيك وإطلاق العنان لكلماتك الناهية الزاجرة ، تضىء ظلمة النفوس ، وتنير العتمة التى فى الضمائر والقلوب ، تهدى الضال منهم وتهدىء روع الخائف المرتعش المشاعر ، وتعيد الصواب لكل من طاش صوابه وانفلت عقال فعله ، أنت الآن تهيىء نفسك لإطفاء نار فتنة ، ستلعن من يوقظها وقد كانت نائمة ، كما أمر بذلك من تعمل وتهدى بهديه ، وتدلل على قولك دوما من سيرته العطرة .
ذاك ما كان يمور برأس الشيخ احمد عباس ليلة الجمعة التى لن تأتى ليلة مثلها قبل يوم التصويت فى الانتخابات ، فقد رأى ما رأى ، وسمع ما سمع فى ماسبق من أيام الدعاية للمرشحين ، وسط الجماعات المتنافرة المتناحرة ، ما جعله يأسى ، وينفطر فؤاده من كل ما سمعه .
فغى الزمن الماضى قريبا كانت القرية تشبه العائلة الواحدة ، صارت اليوم فرقا وطوائف كما يسمع فى الراديو عن لبنان وأهله ، كانت خالية البال حد الجنون ، صارت مخذولة خاسرة وتشبه كلبا وضع ذيله بين رجليه ، صار الناس بها وكأنهم غرباء جدا عن بعضهم ، دوائر مغلقة وكثيرة ، كل دائرة تفعل فعل الدوران حول نفسها فقط ، أصبحت كأقفاص الببغاوات، تسمع هنا هيستيريا ضارية من جماعات تتشيع لمرشح ، تنافسها جماعات أخرى فى تشيعها لمرشح آخر ، والموجع فى الأمر كما يرى الشيخ أحمد أن كل المرشحين لا يرتبط بوشيجة وإن باهتة مع الناس فى القرية التى كانت كما حكى له الحاج عباس كثيرا على قلب رجل واحد ، سمع من أبيه ، ولم ير لأن كل أهل حارتهم الطويلة – كما كل حارات القرية - رجالا ونساءا وصغارا وبالغين وشبانا وفتيات كانوا يلتمون حول إفطار واحد صبيحة كل عيد ، مفروشة أرض الحارة بالحصر والطبالى الملأى بأطايب الطعام من كل دار ، وأن رجال الحارة كانوا يقيمون لشهر بطوله بأحضان نظير لهم فقد عزيزا حتى يتفرق حزنه بينهم ، وهكذا كانت النسوة .
وهاهو يرى الدم ينتفض من العروق خارجا الى العيون ، وكأن حربا قد تقبل قريته عليها ، لا ناقة لها فيها ولا جمل ، أوجع فؤاده ذلك الصراخ الأجوف والهياج الذى بلا معنى لمرشح لا يرى فيه عديم نفع أو منفعة ، ولم يقدم شيئا فى حياته يرضى عنه الله ورسوله ، واندماج لحد الهوس مع مرشح ثان منافس ، ومابين الاثنين من كراهية سالت مياهها وتسربت فى دماء الفريقين من أهل القرية الواحدة ، فصاروا على عتبات استمناء لكراهية متبادلة ، سمع ، وطارت إلى مسامعه كثيرا كلمات تفتك بما نعمت به القرية منذ الأزل من الطمأنينة وخلو البال ، إن لم يدل الشيخ أحمد بدلوه فى بئر تلك المتاهة ، يقنص شوائبها ، وينقى ماءها العكر . يدرك أن عقابه عند الله سيكون شديدا ، فمن رأى منكم منكرا ، والفرقاء الأخوة . كل يستنكر المنكر الذى يراه هو بعينه فى الآخر .
المتاهة تنصب خيمتها السوداء ، ولابد من طلقاته الجسورة فى الغد بخطبة الجمعة التى لن يأتى بعدها جمعة قبل التصويت فى الانتخابات ، لا تنقصه كياسة ليدرك أن بالأمر صعوبة وعصى على الهدوء ، ولكنه لن يشارك بعرس الدم كما يذكر له صديقه المثقف محمود تلك الكلمة ، ولن يصرح بأسماء تشارك فى هذا العرس قد تكون حاضرة المسجد والخطبة أو يصل لمسمعها كى لا يزيد النار اشتعالا ، هو يتقن التلميح ، ويجيد اللف والدوران حول المقصد والمبتغى برغم صرامة عباراته التى تصل حد الوقاحة فى أحايين كثيرة ، لأنه يدرك . إذا كان النفاق وقحا ، فلتكن الصراحة باسلة ، وهو باسل حتى فى مداعباته الفجة .
******
حسب ما قدر أمورا فى داخله قبيل صعوده المنبر ظهر نهار هذه الجمعة ، كان من المأمول أن تسير الأمور طيعة ووقعها لين ، لكن نظراته المراقبة الناقدة التى تروح يمينا وشمالا وهو فى وقفته القلقة دائما فوق المنبر ، وتمسح رؤوس المصلين على كثرتهم ، قلبت الأوضاع والأحوال رأسا على عقب ، حين التقطت نظراته تغامزا وسخرية متخابثة بين اثنين من الجلوس حين تقديمه نصائحه لأهل القرية بالنظر فى مصلحتهم ، ومراعاة أواصر الترابط والمودة بينهم ، وأن لاينجرفوا خلف زيف الوعود وكذب التمنيات التى يعلنها المرشحون ، فيخسر أحدهم الآخر من أجل هذا أو ذاك ، وأنه يحق لكل واحد منهم إعطاء صوته لمن يهواه دون إكراه ، وأن التفرق والمقاتلة بينهم ليسن من أجل مطلب حق وضرورى ، وأن كل مايدور بين الناس من أجل الانتخابات لايرضى عنه الله ولا رسوله ، فالذى ينفرط من أذاه كثير.
حديث خطبته كان يسير فى مجمله نحو العام من الأمور ، لم يتماس مع وقائع شاهدها ولمس ضررها بنفسه ، لم يعلن برأيه الذى يجاهر به دائما فى جلسته المتكررة بين كل صلاة أمام دكان حمدى ،ـ وعقب صلاة كل عشاء .
أثاره ما التقطته نظراته ، فوجد حاله يشوح بكلتا يديه ويصيح بثقة ، وكأنه قد هبط إلى أرض يهوى وميدان يعشق ، فركب جواد كلماته المؤنبة المقرعة ، وأبعدته كلماته الحادة عن حذره الذى أبقاه طويلا قائما بداخله فى الاقتراب من واقع الناس فى القرية الذى يستنكره ، وبرغم من هذا فقد ظل يلمح دون تصريح بأسماء يقصدها ولم يسمها ، ويقف بيقين على أفعالها ، وأعلن إدانته لكل الذى يحدث وما متوقع حدوثه ، واصفا القرية براقصة تهز خصرها لكل من ينقدها ، وهذه والله نقيصة ما بعدها من نقيصة وخجل وقلة قيمة بين عباد الله .
******
لما صار تململ المتغامزين بالصفوف الخلفية أكثر علانية ، كان الشيخ أحمد يراقبه مجاهدا شيطان غضب أن لاتنفلت منه عبارات تؤذيهما ، وكأن على رأسيهما جرحا تحسساه من كلماته التى صارت أكثر وجعا ، ما لبثا أن نفضا ثوبيهما فوق الرؤوس المجاورة ، وسحبا حذائيهما من النافذة التى تعلوها ، وخرجا لا يلويان على شىء ، بينما الرقاب المشرئبة تفضح عرى فعالهما .
ولما قضيت صلاة جمعة لن يعقبها جمعة أخرى قبل التصويت فى الانتخابات ، كانت قد قامت معركة حامية الوطيس بالساحة المستطيلة قدام الجامع ، وقد تناثر لهيبها فى كل عائلات القرية فيما بعد
.