ما أجمل الأنا لك يابغداد

ما أجمل الأنا لك يابغداد

الجمعة، 28 نوفمبر 2008

آمال.. سلامنا لك سحبا وغيمات خصب ، وسلامك لنا مطرا

زَغَبٌ شَمْعِيّ


آمال عواد رضوان



هِيَ ذي فَوانيسُ الحَياةِ

تُغازِلُ ذُبالاتِها الحالِمَة

تَخْتالُ عَلى صَفَحاتِ الزَّمانِ

بِمَدادِ دَمْعٍ سِرِّيٍّ

تَخُطُّ زَغَبًا شَمْعِيًّا

عَلى

أَجْنِحَةِ مُنىً حاسِرَة

*

عَبَّدَتْها قَواميسُ الفَرَحِ

هُوَ العُمْرُ لُحَيْظاتٌ في سِنِّ المَرْجانِ

*

عَلى

شَواطِئِ السَّرابِ الهارِبِ إلَيَّ

تَتَهَلَّلُ أَقْداحُ العَتْمَةِ بِقُبْلَةٍ

تَتَسايَلُ لَهيبَ لِقاءٍ

عَلى

شِفاهِ غِيابِكَ الفَحْمِيِّ

*

عَذارى الأشْجانِ

تولِمُ مَحافِلَ الحُزْنِ

تَقْضِمُ تُفّاحَةَ الفُؤادِ

يَنْدَسُّ نَبيذُ حُسْنِها في دَمِ المَوْجِ

يَثْمَلُ بَحْرُ القَلْبِ رَهْبَةً

وَعَلى

أَمْواجٍ سادِرَةٍ

تُراقِصُ مُسُوحَ الخَيالِ

تَسْتَمْطِرُ عَفْوَكَ الصَّخْرِيِّ

*

أيا حارِسَ لَيْلِيَ الغافي

عَقِدٌ لِسانُ القَلْبِ

تَحْتَبِسُ في فَضائِهِ سُحُبُ العاقِداتِ

مَسْحورَةً فارِهَةًً

تُقيمُ عُقودَ حُزْنِكَ

*

عَلى

أَعْمِدَةِ دَمْعٍ يَشْهَقُ

وَأَنْتَ المُسْرَجُ بِالجِراحِ تَتَشاهَقُ

لِتَعْتَلِيَ عَرْشَ

فَ ر ا ق

*

*تَماثيلُ المِلْحِ تَخِرُّ

في مَتاهاتِ الأَحْلامِ

يَئِنُّ خَريرُ عَتَباتِ الوَفاءِ

أَيُّهذا السّاهي

عَلى

صَفْحَةِ الصَّمْتِ

تَنْحَتُ وُجوهًا في مَرايا المَصيرِ

هِيَ ذي رُموشُ العَطَشِ

تَسْتَسْقي مِنْكَ آمالاً

تُلْقي سُحُبُ دَمْعِكَ مَراسيها

تُنْهِدُ فَراغَ أَباريقِكَ بِأَطْيافِها

وَهُوَ ذا سِراجُ سُكونِكَ

يَكْبو غُبارُهُ في رَذاذِ نَوافيري

*

*في اُرْتِعاشَةِ السُّحُبِ

تَتَهَدَّجُ عَرائِسُ سَمائِكَ غُوايَةً

تُعَتِّقُ بُرْكانَ اللِّقاءِ بِجِرارِ الوَجَعِ

وَعَلى

مَساكِبِ الوَجْدِ

تَتَفايَضُ شَلاّلاتُ طُيوبِكَ جَفافًا لاسِعًا

يَحْتَرِقُ..

وَتَخْتَرِقُ سُدودَ النِّسْيانِ

*

بِعَبَثٍ فارِهٍ

تَتَمَرَّدُ أَلْوانُ الكُحْلِ في عَيْنِ السُّهادِ

تَغْدو لَياليكَ طاحونَةَ ذِكْرَياتٍ

تَطْحَنُ مِلْحَ النَّوْمِ

فَيَذْروهُ دَمْعُ العَتْمِ

*

بِمَطاراتِ عُزوفيى

َبَّرْتُكَ خِلْسَةً في قافِلَةِ الأَغْرابِمَلأْتُ بِحَصادِ يَأْسِكَ

حَقائِبَ قَلْبي المُثْقَلَةَ بِكَ

*

أشْواكُ رَحيلِكَ تَخِزُ أَعْصابَ الزَّنابِقِ

سَتائِرُ ماضٍ تَتَمَرَّغُ لَوْعَةً في جَنَباتِِ اللَّيْلِ

تَتَذاءَبُ عُيونُ خَيالي

مَوْجَةُ ماءٍ تُشْعِلُها

مَوْجَةُ نارٍ تُطْفِئُها

وَفي خِباءِ الأبْجَدِيَّةِ

تَسْتَأْنِسُ بِحِضْنِ ضَوْئِكَ

*

شَجِيَّةٌ تَنْسابُ ظِلالُ لِبْلابِكَ

تُعانِقُ مَواعيدَ تَخْشى الزَّوال

تَهيمُ

عَلى

حَنينٍ شَقِيٍّ

تُقَشِّرُ لِحاءَ الافْتِقادِ

أَيْنَني مِنْ نَسْغِ صَوْتِكِ الحاني يُخَضِّبُني

يورِقُني أَحْداقًا

يونِعُني عُنّابَ آذار؟

في بَلاهَةِ ريحِكَ السّادِيَّةِ

*

يَتَلَعْثَمُ الجَوابُ

تَتَجَلْبَبُ بِفَراغي

أَتَأَبَّطُ خُفَّيْ كِبْرِيائي

أُخادِعُ الدَّرْبَ كَيْ لا أَلقاكَ

وَأُمَنّي النَّفْسَ لَوْ تَلْقاني






السبت، 11 أكتوبر 2008

بين صنعاء المقالح وطنجة محمد شكرى اتسعت الخارطة للمدن والوجوه والكتابة



عن طنجة
المدينة الكونية
و
صديقى محمد شكرى


ابراهيم جادالله


صباح التاسع والعشرين من أكتوبر الرصاصي المطير عام 1988 م، وأنا ألملم تعبي المنهك من الرحلة الطويلة الشاقة، والأحلام الرمادية المنثورة في الضياع أمام " كونتر" الاستقبال، بنزل متواضع أرتاده دوماً حينما أصل لهذه المدينة. ومن تلك الردهة، ردهة الاستقبال الخافتة الإنارة والعتيقة الطراز بذلك المبنى القديم، وبالتحديد من زاوية شبه معتمة، استخدمتُ الهاتف العمومي بنزل "طنجة ماركوبولو" المطل بشرفاته الفسيحة الشرحة هذا الصباح، ويبدو أنها تلك اللحظة في هذا الكيان من المعمورة تودّع المسافرين وتستقبل القادمين في ميناء المدينة الكونية المتقاعدة من حطام زمن "الفلتات" التاريخية التي حباها القادر بأن تكون يوما ما ناراً على علم. لقد كانت كما قيل بأنها فلتة زمانها منذ أزمنة بعيدة حينما أصابتها الشهرة العالمية أكثر من ذي قبل، بل ومنذ بداية القرن العشرين أخذت لها شهرة أخرى ألا وهي إقامة الأدباء والموسيقين العالميين عندما أصبحت مدينة كونية وموقعاً استراتيجياً، كما حبتها الطبيعة أن تكون أقرب نقطة عبور للقارة الأوربية حيث يفصلها عن القارة الأفريقية مضيق جبل طارق الشامخ بسموه كلما التقطه البصر.
ها هي المدينة الممتدة من خلال حديقة النزل على مرمى حجر من ناظري تـُـفـْـشي لليوم عن مأربها ومبتغاها. لقد كان سمعي مركّزاً لحظتها في التقاط رنات جرس الهاتف المنزلي حتى انقطع نياطه، غير أنني في الحقيقة لم أحظ برد من الرقم09944442 الذي طلبته. وحينما لاحظ صديقي عبدالله مدير النزل والذي تربطني به معرفة سابقة أنني في ربكة من أمري بعد تلك المكالمة التي لم تتم، سألني إن كان في وسعه تقديم عون! نعم أجبته، وأنا أقولها بأسى أن الرقم الذي أطلبه لا يجيب، وحيث أن لدي حدساً مرهفاً، وإصراراً مكيناً، بأنني سأجد الجواب منه، لأنه من أبناء هذه المدينة، فلا تفوته شاردة إلا ويلتقطها ولا واردة إلا ويتلقفها، وتلك أسوقها من خلال تجاربي معه. كان جواب الصديق عبدالله بأنه بالطبع يعرف المعنيّ أين يقطن، لكنه لا يعرف رقم هاتفه المحمول، وهو مشغول طوال هذا اليوم بفوج من السواح الغربيين سيصلون النزل في الحال، غير أنه يعرف أقصر الطرق للوصول إليه. حيث نصحني بالذهاب الآن وفي الحال إلى فندق ومطعم يرتاده من أريد لقياه، وذلك المكان كما يؤكده صديقي عبدالله من أمكنته المفضلة، وهو في قلب المدينة، والسؤال عن بغيتي هناك، وربما سأجد الحلّ لمعضلتي، كما أكدها عبدالله بابتسامته اللطيفة. قلت له لا بأس، لكنني يجب أن أجلب من الغرفة ما جئت من أجله. لم يعلق على الأمر بشي غير أنه طلب مني مرافقته إلى البوابة الحديدية الخارجية من النزل، وهناك طلب من سائق الأجرة أن يأخذني لنزل ومطعم "رِدز"، المكان المنشود.
كانت عقارب الساعة في معصمي تشير حينها إلى التاسعة والنصف صباحاً، وكنت في أوج توقدي ونشاطي للقاء غير مرتقب مع أهم المفاتيح في هذه المدينة بعد غيبة عام كامل، وكان لا بد أن يتم هذا اللقاء في أول مهمة لي في طنجة. وأمام المكان المقصود ترجلت من عربة الأجرة وأنا أحمل همومي في حقيبة الظهر بعد عناء الوصول من مدينة الرباط بقطار ليل البارحة الطويل. وحينما وصلت المدينة بعد غيبات من استخدامي القطارات بمصر وقد حلت الباصات الايرانية محلها بالنسلة لى، وجدت محطة القطارات الرئيسة خارج المدينة والتي كانت في سابق من الزمن قريبة من الميناء، وفي مواجهة النزل الذي أنوي القيام به عندما أصل لمدينة طنجة. ولشدة ازدحامها هذا الصباح بطلعاتها ونزلتها في هذه السويعات الباكرة، كان عليّ لقائى الذى من أجله جئت إلى هنا، على خير ما يرام، حيث كان هدفي من هذه الزيارة، هذه المرة إيصال ما معي من وصية أوصاني بها صديق عزيز. من هنا حملتها معي من مدينة القاهرة وبقيتْ في حقيبتي بفترة طويلة وها هي تصل اليوم لمن طلبها مني في هذه المدينة. لقد كنت لحظتها - وأنا الراكب الوحيد في قلب سيارة الأجرة الصغيرة الخضراء والموشحة بخطين أصفرين من نزل ماركوبولو، والذي أصبح أكثر نزلائه من سائقي الشاحنات العابرة للمغرب من أوروبا عبر المدينة، وكأننا نشبه علب الهدايا- كنتُ في الكرسي الخلفي مكدساً في حدود حيز ضيق، ومُـتعِـب، وغير مريح، وهو يطلع بي مطالع المدينة ومنازلها ومنعرجاتها دون مبالاة بعقبات الطريق، وكأننا في سباق مرثوني مع موج، بحرُهُ من البشر الهائج في هذه الساعات المطيرة، حيث يكثر في مداخل الشوارع ومخارجها كثافة البشر وتكدس البضائع وضجيج العربات، بل كما يراودني الانطباع أن سكانها أكثر هيجاناً من بحرها. ويبدو أنها ساعات الذروة، حيث الحركة والازدحام على أشده في صباح طنجة المدينة.
وأمام بوابة نزل ومطعم "ردز" في قلب المدينة كان يقف فتى يرتدي ملابس كالتي يرتديها ندل المطاعم المطلة على البحر، يعقد مريولة خضراء طويلة على خصره، ويبتسم، حيث يرشدني إلى مدخل المكان، وحينما أشار إلى الطاولة التي عليّ أن انزوي بها -ريثما يحضر لي قائمة الطعام- أخبرته بأنني ما جئت من أجل الأكل، لكن لا ضير من الفطائر مع الأتاي، الشاي المغربي، ريثما يحضر من أنتظره. وبعد أن حدّق في سحنتي وتأمل مظهري قال لي بأنني أحمل وجهاً مألوفاً، وأنه ربما قد قابلني في السابق، لكنه لا يتذكر متى وأين تم ذلك اللقاء. على أية حال ربما كان يجاملني في الحديث، لكنه سألني عن الشخص الذي أنتظره في هذه اللحظات الصباحية؟ وقد أجبته هكذا وببراءة ريفيّ عندما نطقتها" باه شكري" ممتدة من فمي كلحن في الحياة. غير أن النادل اختفى وأخذ سمعي يلتقط جملته "أنه بدري. وشكري لا يصحو في هذا الوقت" وبعد برهة سمعت صوتاً يأتي من ورائي، و ترحيباً حاراً يصل إلى مسامعي من صاحب المكان، مشيراً للنادل سي محمد بأنني السندباد عليُّ الزمان، اجلب له ما يشاء. كان صاحب النزل صديقاً شهماً وإنساناً ودوداً بمعنى الصفات الحميدة، عرفته وجربت التعامل معه مرات حينما ترددت على مدينة طنجة، وزادت رحابة تلك المعرفة والصداقة له أكثر حينما أخبرته عن سبب هذه الزيارة، وحفنة التراب التي أحملها معي معلقة في رقبتي وصية، وتشوقي للقاء محمد شكري بهذه السرعة. غير أنه أخذ يضغط على أزرار هاتفه النقال وهو يبتسم ويهز برأسه إلى أن وصل إلى بغيته، طالباً مني أن أتصل من هاتف النزل بالرقم 061878870 ، حيث كان على الخط صوته الشاحب بالشيخوخة ذو الحس الطفولي ينهمر فرحاً، وأنا أعرفه بآدميتي، منتصراً لهذه الرحلة وأنا أؤكـّد له وصول الـ" فيمس كراوس" سالمة وغانمة، أحملها بيدي، حيث كانت في السابق غالباً ما تنطفيءُ في أفواه وبراثن الأصدقاء منذ أول ليلة أصل لها في هذا القطر العزيز.
- أنت يا مسخوط - قالها بحس قوي- متى وصلت! أين أنت؟ حالاً سأكون معك بعد أن أخبرته بوجودي في فندق ومطعم ردز، مكان جلساته المفضل في السنوات الأخيرة في طنجة، لقد قلت له أن لا يستعجل المجيء، فأنا ما زلت في أول نهاري ويمكنني أن أقرأ في كتاب أحمله معي، غير أنه قال لي "نصف ساعة وأكون معك".
كان وجهه متهللاً بالفرح حينما دلف علينا قاعة الشراب، وحينما عانقته ومددتُ له بهديته التي عادة ما كانت تصادر من قبل رسام الليل وشاعر النهارات في مدينة الرباط إن كان في المدينة قبل مغادرتي متجهاً إلى طنجة الخيانة. ثم ما إن ناولته مقالة كتبتها عن حكاياتي ، وحفنة تراب من قبر المطربة المرحومة أسمهان، والذي أوصاني به من القاهرة، حتى أخذ يحدق في المقالة طويلاً ويقرأ بعضاً من فقراتها بصوت عالٍ يسمعه كلّ من كان بالمكان. ثم عانقني من جديد وهو يقول: " يا مسخوط كنت أمزح بخصوص التراب!". وأبلغته أنني أوصلت سلامه الحار للأديب فاروق عبد القادر حينما التقيت به مساء يوم أحد في مقهى الحميدية بوسط القاهرة. كان محمد شكري لحظتها يحمل فرحاً تلمحه في محياه من اللحظة الأولى لكن في واقع الأمر ما هو إلا فرح الشيخوخة والعائدة من أمكنة قديمة ومع ذلك كانت الحالات التي هو عليها تحمل في بسطتها الاقتراب منه دون عُـقـَد، بل ويقاسمك فرحها البسيط عن أحواله مع الحياة ووهج صخبه نحو الحياة، و الاستمرار في هذه المدينة برغم سخطه على ما آل عليه حالها، وحال البشر بها. وكان بذلك يريد أن يمرر به لحظة صفاء مع صديق قادم من بعيد، يحمل همومه ومعاناته بعد ما أخبرته عن الحلم القصير الذي عشته عندما انقلبت الأحلام إلى رماد وها أنا أعود من حيث أدراجي مفعماً بالخيبات الكبار. هكذا كان شعوري به وهو يطلب كأساً من "بيرنو" ويضع على الكرسي المجاور مجموعة نسخ من الإصدار السابع من الخبز الحافي وقـّعها في الحال كإهداء للأصدقاء عرفهم من كتاباتهم ، ويطلب مني إيصالها لهم أثناء عودتي للوطن، وحينما تطفلت على تلك الأسماء، دُهشت لمتابعته كُـتـّاباً وكاتبات جدد ينتمون لجنس فن كتابة القصة القصيرة في وطني، والتي لسوء الحظ لم أعرفها حين ذاك
لقد كان حينها ينتقل بالحديث مع حركة يده، و يخبرني عن إرشادات الأطباء في تقنين حالات التدخين حينما استل من جيب معطفه علبتي سجائر لماركتين واحدة محلية والأخرى أجنبية كي يقلل من التدخين حسب وجهة نظره. كان محمد شكري في أوج تجلياته تلك اللحظة. خاصة وأن كثيرين من الاصدقاء يعرفون قصة حفنة التراب التى طلبها شكري والتي عليّ إيصالها له من قبر المطربة أسمهان. كان عليه أن يخبرني بذهابه إلى أسبانيا حيث سيجري مقابلة تلفزيونية لإحدى محطات تلفزة مدريد، وسوف يبقى ثلاثة ليالٍ هناك، وقد وعدني بأنه سوف يذكر قصتي والخوف من أن تكون محملة بالميكروبات وأنا أعبر بتراب المرحومة ثلاث مطارات عربية لكن محمد شكري لم يكن يعلم بأنه لا يهمني هذا الأمر بقدر ما يهمني مصداقية الوصية التي أوصاني بها من الـقاهرة، وهكذا فعلت حينما نفذتُ وعدى بالذهاب إلى مقابر البساتين وجلبِ حفنة من التراب من تحت تربة مقابر آل الأطرش، وبالذات من قبر المطربة أسمهان، والتي يرقد بجوارها أخوها الفنان فريد الأطرش. كما ذهبت إلى الناقد فاروق عبد القادر حال جلوسه في مقهاه المفضل "سوق الحميدية" كل يوم أحد من كل اسبوع في وسط القاهرة.
كنت أحرص في الحقيقة على إيجاد وقت أقتنص فيه أنفاسي ، وكأنها دعوة من محمد شكري يوقتها لي بالتريث والمكوث في هذه المحطة وباغتنام فرصة الاسترخاء من عناء السفر والترحالات هنا في طنجة أوفي مكان آخر من هذه البلاد، لكنه بعد برهة نصحني بالذهاب والانزواء في سهول ومروج "شوف الشاون" لعلي أشفي ما بي من غليل. ثم زودني برقم هاتف لمنزل، يقول أن كل أصدقائه يكترون منه غرف منام حينما يذهبون للشمال، وهو بالفعل مكان للراحة والاستجمام. ونصحني بالابتعاد عن فنانة تشكيلية من بلجيكا تقطن تلك الدار، و تدعى " فيكي" شبه معتوهة كما رأيتها بعد ذلك، ولا أعرف لليوم حظوظي والغرائبيات التي تحدث لي مع الفنانات التشكيليات في هذا الكون. لم أدرك في تلك الليلة من عام 1988م - حينما التقيته في نفس هذا المكان قادماً من مدينة سبتة بغية تجديد إقامتي في المغرب وماراً مروراً سريعاً علي محمد شكري- القراءة التي قرأني بها، إلا بعد صدور كتابى "المسرح العربى والتحدى الحضارى" وهو يُعَرِّفني بثلة من الأصدقاء كانوا يشاركوننا الطاولة بأنني سوف أكتب رواية الرحلة عن الناس والتقاطعات الثقافية والأمكنة. لقد جمعتني تلك الأمسية بروائي من شمال المغرب ، كان إنساناً رائعاً وكنت قد قرأت له رواية لا أذكرها الآن وتحدثنا عن مدينة طنجة ومدينة تطوان ، وعن الأشياء الجميلة في هذا الكون، تلك الأشياء التي تجلى فيها " باه شكري" حتى الهزيع الأخير من الليل رغم وصايا الأطباء بالخلود للراحة مبكراً والذهاب للسرير. وأذكر ليلتها أنه كلما أحس بوجع أو حتى من استشعر ذلك لمن كان معه في الجلسة فإنه يستخرج من حقيبته اليدوية دواء لذلك الوجع. إنه صيدلية متنقلة، خاصة أدوية عاهات الحوامض والأمغاص المعوية.
تعود علاقة لقائي بمحمد شكري بصدفة ظبطية وقدرية في عام سبعة وثمانين وتسعمائة وألف، حينما كنت أزور المغرب ذلك الصيف، قادماً من مدينة تونس بغية هدف بعينه لتلك الرحلة بعيداً عن لقاءات الأدباء، ومنتديات الثقافة. وكان السؤال المحيّر الذي يزعجني ويراودني هو ذلك الاستفزاز الواضح والصريح عن كيانات المدن ومواقعها الطبيعية على هذا الأديم.
نعم ، ثمة سؤال كنت أطرحه على نفسي في تلك الفترة حول تمحور الأمكنة وتشابه بيئاتها الأساسية في تكوين كيانها وقيامها بقوة في فترات من عمر حضارة الإنسان على هذه الأرض، في كل شئ، رغم بعدها عن بعضها البعض جغرافياً ومكانياً وزمانياً. ، وكان علي أن أعد مشروعا عن حالة كهذه الحالات، ألا وهي حالة الأمكنة في محيط حضاري طبيعي يدعى بتشابه تضاريس المكان، مؤثراً ومتأثراً في حضارات البحر الأبيض المتوسط، يؤجل الشك في ذاتي عن دقة الصحّ وسر حصيلة نسبية آينشتاين حول سبرمة تلك الأمكنة وخلودها في الوجود، لاعتقادي بأنها زائلة بحكم ظروف الطبيعة، وهي ليست أعمق خلوداً إلا إذا تلبستها المثيولوجيا وأسطرتها. وكانت أجوبة تلك الغوامض بالنسبة لي تتمحور في ثلاث مدن تقع على ذلك الحوض، وعليّ بزيارتها كي يَـثـْبـُتَ إيماني بتلك النظرية. هكذا جزمتُ بهذا التشابه في فتواي فيما بينها، وأعني بها تلك المدن الثلاث: مدينة الإسكندرية، ومدينة اللاذقية، ومدينة طنجة. وكل ذلك يصب في معنى التوأمة الجينية بالطبيعة تحديداً، وتشمل سمة علم الحضارات الإنسانية الخاصة بها، وحددت هدفي في نسغ المقومات المشتركة من معرفة شاملة في جغرافيا بشرية منتجة لكيان حضاري مازالت شواهدها حاضرة عبر الزمن، وهي ذات قاسم مشترك في نمط حياتها وإنتاجها الحضاري وكان ذلك حصراً على مدن بحرية، سادتـْها الحضارات المتعاقبة وتمسّ بحثي، الذى لازلن لحد الان آسفا على عدم استكماله ، ولا أدرؤى لماذا؟
كنتُ في ذلك الصيف أزور مدينة طنجة بحجة ذلك البحث واكتشاف غوابرنا الحضارية في تلك الثغور والتي ودعتْ واستقبلت الفاتحين والغزاة والعابرين والعائدين. وبعد يومين من وصلي لها شدني ليلها أكثر من نهارها، وكنت لا أنام فيها الليل، أتسكع في أزقتها وشوارعها وحوانيتها، أسبر وأقرأ الصور وأسترق السمع وتتحول ذاكرتي لمستودع ضخم وكبير لكل شيء أراه وأشاهده أو أسمعه في ليلها. لقد كانت تغمرني استرخاءات أشعة الشمس التي تتسرب من نافذة الغرفة في الدار التي اكتريتها بالنوم صباحاً وحتى الظهيرة. كنت أقطن في حي القصبة، استضافنى صديق بدارة صغيرة، هندستها المعمارية الداخلية على الطراز الأندلسي الفريد، مريحة وخلابة، وتطل على مضيق جبل طارق، الذي أراه شامخاً أمام بصري. وتذكرني تلك الدارة بذكريات عطرة قضيتها في أول زيارة قمت بها لمدينة طنجة. ولعل من أهم تلك الذكريات المنيرة في ذاكرتي أنه كلما نظرت من شرفات تلك الدار، الملتصقة بالشاطيء من الضفة الأخرى من معبر ذلك المضيق، يأتيني صدى صوت، في إصرار واستمرار للبقاء في هذه الحياة. وفي كل لحظة صفاء يأتي ذلك الصدى المائي من لجة البحر، وأنتشلها في أنفاسي، إنها الأندلس وعبق العطاء في عبارة قالها طارق بن زياد حينما وطأت قدمه اليابسة، لتكون بعد ذلك منبت نور لحضارة عربية خاطبة ومتزاوجة مع بقية الحضارات التي عاصرت دولة بني أمية في أسبانيا. وأما ما يميز تلك الدارة -غير موقعها بأعلى التلة- فهي أنها مفتوحة من داخلها على كل مرافقها، وتكثر بها النوافد على كل الجهات وتطلّ من أطراف التلة على المدينة، وليست ببعيدة عن السوق الداخلي، حيث تقترب مني وبصدق شخصيات الخبز الحافي، ومجنون الورد، والشطًار، والسوق الداخلي، والخيمة، في كل لحظة عشتها بتلك الدارة، خاصة وأنني اطلعت على ما يكتبه محمد شكري وغيرهم عن هذه المدينة في الدوريات وملاحق الثقافة والكتب وما يطاله يدي وبصري من منتج ثقافي عنها.
في ليلة من ليالي ذلك الصيف كنت أتريض على كورنيش المدينة قادماً من حي القصبة، وبالقرب من محطة القطارات وأنا في اتجاهي بمحاذاة الميناء، الطريق المؤدي إلى المدينة من جهة الشمال، استعد لليلة لقائي بفتاة كانت قد جرّت قدمي منذ هذا الصباح إلى أشياء خلابة في طنجة المدينة، وبغية الوصول إلى " نيغريسكو" وهي حانة ليلية ومطعم فاخر، كما وصفته لي سائحة سويدية صباح هذا اليوم، والتي أصبحت صديقة عندما التقيت بها صدفة، وهي في غاية السعادة مفسرة لي سر ذلك الحبور الذي قرأته في وجهها ذلك الصباح، باكتشافاتها الصغيرة في مدينة طنجة. وعندما تعرفنا على بعضنا البعض في حانوت صرف العملة الأجنبية بادرتني بالقول أنه لا يهمها كم صرفت من مالٍ في ذلك المكان، وأنها سوف تذهب هذا المساء وهي تدعوني على قهوة في أحد مقاهي شارع محمد الخامس بعمق المدينة كي نبرمج المساء والسهرة. وكوني مغرماً بليل طنجة فقد وافقتها على ذلك. لقد كانت "آنّا برسلـسْ" أول إنسان عرّفني بمحمد شكري، برغم عدم شهرته في المشرق العربي في ذلك الوقت، ما عدا المطلعين بشغف على النتاجاات الأدبية المختلفة وغير السائدة في تلك المرحلة. كانت آنا برسلس تعرف بأنه كاتب موهوب دون أن تخبرني بداية بذلك في المقهى، وحتى عن لقائهم ليلة البارحة، إلا بعد أن بردت أقداح القهـوة. لقد التقتْ به ليلة الأمس في حانة "نيغريسكو" ذلك هو الانطباع الأول الذي ورد إلى ذهني حينما عرفَ شكري بأني عربي من المشرق وتصطحبني فتاة شقراء من السويد في هذه البلاد. شيء مفاجئ بالنسبة لمحمد شكري أن يرى من الوهلة الأولى فلاحا مصريا مثلى مع شقراء الشعر ناصعة البياض، ذات عينين زرقاوين، يتحدثان عن أشياء مختلفة ما عهدها محمد شكري من أفواه" السواح" الشرقيين. لكنني وضحت له الأمر بأن "آنا برسلس" ليس كما يظنها، فهي نحاتة وخزفية تهتم بالإسلاميات، وأنا لست بترو دولار. وحينما انفعلت قليلاً، قلت له أن من عرّفني بك هو مجنون الورد. لقد جرّنا ذلك الحديث إلى عينات السياح القادمين من تخوم مدن الملح، وغياهب كثبان رمال الربع الخالي، وتلوّث ناس حقول النفط، وانقلاب ليالي طنجة، وعمارات الكيف التي توالدت كغابة أسمنت، حزمت عنق وأطراف المدينة الكزموبولتان، وغيرها من الأمور المقدسة، والتي لا يبخل بها محمد شكري بذكرها عن مدينته كما يقولها دوما: بأنه هو طنجة، وطنجة هي شكري، ويرددها كثيرا في سهراته، وبهزليته الفذة وتسكعه في كل شي. مع محمد شكري يطيب الحديث عن كل شي في هذا الوجود. وهكذا تبادلنا الأنخاب بعد أن وقع لي كتابه الخبز الحافي الطبعة التي طبعها على نفقته كما قال.
لقد عرفت أشياء كثيرة عن مدينة طنجة وعن روادها وزوارها من الأدباء والموسيقيين والكتاب، سواءً كانوا عرباً أو غربيين، وتجاربهم، خلال زياراتي المتعددة، وإقامتهم في هذه المدينة، وذلك من خلالي لقاءاتي وسؤالي محمد شكري عن تلك العلاقات وعمقها ومدى ارتباطه بهم. وكنت أسهم أحياناً بتذكيره بأمور تحدّثَ عنها من خلال مقابلاته الصحفية، أو ماذكره الآخرين عنه. وكذلك كنت أذكره بوقائع شارك فيها مع أصدقاء مشتركين بعلاقات صداقة ومودة مع شكري. وكان بودي لو كانت لديّ كاميرا تلفزيونية توثق ما يقوله وما يفعله، وكذلك المواقف التي عاشها معهم وكيف يجسدها لي في حكاية عن هؤلاء البشر. إنه سردي بارع في تسلسله للوقائع، وبارع في حبك حكاياته، وأعتقد غير مخطيء بأن محمد شكري يتفوق بسرده أحيانا عن كتب كتبها، وهذه ملاحظاتي الدقيقة والشخصية عنه. لكنّ أهم الأمور التي شعرتها وأحسست بها من خلال تجربتي معه حديثه عن عشقه للمكان ما كنت أعرفها في السابق بعمق، إلا من خلال ما يتجسد في عمل إبداعي سواءً كتابة قرأتـُهُا، أو موسيقى سمعتـُها، أورسم حضرت عرضه في جاليري، أوتمثيل شاهدته على مسرح دون معايشتها لواقعها التي جعلت حالتها تتميز عن حالات الإعتيادي والنمطي في حياتنا، رغم أن هذه الأمور الميتافيزيقية تـَكُونُ لغات الخطاب بها المشاعر والوجدان وخوضها كواقع وتجربة ثرية لا مفر منه مع إثباتات واقعية وحقيقية يشعر بها ويقرؤها ويصدقها من تتعايش معه. لقد عشق طنجة محمد شكري، وجسد ذلك العشق في مشروعه الكتابي ونمطية حياته بها برغم أنه كان يلاقي فيها مـُضَيـِّـقاتٍ من الناس الذين يعرفونه والذين لا يعرفونه في السنوات الأخيرة من حياته.
في نهاية منتصف الليلة الطويلة تلك قضيناها متنقلين نتسكع في ليل طنجة من حانة إلى حانة، ومن مطرح إلى آخر، وهويلح ويذكر لنا محاسن ومساويء تلك الأمكنة وعلب الليل ومن يرتادها من الأدباء، وغيرهم من المشهورين الذين يزورون المدينة، وكذلك الذين اتخذوها وطناً حتى أوصَـلـَـنا إلى مكان إقامته، وهو يدعونا في شقته على شراب من الـ"بيرنو" الفاخر حصل عليه هدية من ناشر فرنسي يزور المدينة، قال لنا بأنه سوف يصطحبنا غداً في الصباح إلى مدينة العرائش لزيارة قبر صديق لم يحدده لنا وربما نعرج على أصيلة والتى لم تكن مشهورة في تلك الفترة، لكن لا بد لمحمد شكري من مقابلة صديق يود أن يعرفنا به وهو صاحب فرقة الجناوة الموسيقية والذي كان يعيش في أصيلة، وذلك ما تم. لقد كان محمد شكري من اللحظة الأولى كريماً وودوداً حينما عرفته تلك الليلة، وهذا ما أخبرتني بها مشاعر مرافقتي، واتفقتْ معي آنا برسلس، خاصة وأنه يستميت في جدله وإصراره كي يدفع الفواتير عنا في بعض العلب الليلية. لقد كان مشهداً مدهشاً فاجاءنا به محمد شكري متصابياً، ونحن نودعه في الصباح الباكر بشقته، رافضاً الرضوخ لطلبنا بعدم النزول إلى الطابق الأرضي بحجة أنه ربما مغلق بالقفل تلك اللحظات، حيث عادة ما يقوم بها حارس العمارة. لقد كان قوياً مُعافىً يتقافز أمامنا أربعة أدوارعلى سلالم العمارة بحركات عبثية وبهلوانية يخفق لها فؤاد "آنا" الثملان.
وعندما رحلت عن طنجة ذلك الصيف كنت أحمل منها ذكريات جميلة وانطباعاً خاصاً بزيارتها مرة أخرى، متى ما أتاحت لي ظروف الحياة ذلك. ولكنني في واقع الأمر لم أتوصل لهدفي الذي من أجله جئت
لقد غيبت بنا الأقدار كل على حال سبيله، من أحداث ومن محن وأفراح وأسفار عاشها ومارسها أثناء عدم لقيانا. وكنت حينما أزور المغرب في المرات الأخرى يكون محمد شكري في خارج مدينته. فلم ألتقِ به في كثير من زياراتي لطنجة. لقد كان قدر الضبط القدري أن لا تتم تلك اللقاءات. وهذا شيء صحي، أحياناً لا بد منه، وعلى المرء أن يقتنع به . كنت ألتقي في المدينة بناس متعددة المواهب في مجال الموسيقى والغناء. وبصدفة متأخرة في زيارة من زياراتي التقيت بالروائي الأمريكي "بول باولز" صديقه القديم، والذي أصبح غريمه. حيث يقطن حينها في الدور الرابع بشقته في عمارة" إتيسا" بالحي الحديث دون هاتف أوجهاز تلفزيون.
في مساء صيف عام1989 التقيت محمد شكري وكانت تلك المرة في مقهى وحانة نزل الجنينة المجاور لنزل ماركوبولو بمدينة طنجة وبمعية من الأصدقاء والأدباء العرب الذي يزورون المغرب ذلك العام، حيث موسم أصيلة الثقافي في أوجه. ، غير أنه لم يكن في مزاجه وروقانه كما عهدته دوماً، بشوشاً وهزلياً إلى أبعد الحدود وما فوق السماوات. كان يتحدث إلينا كأنه نادم على أشياء كتبها لأن الناس لا تفهم ولا تفرق ما هو الأدب وقلة الأدب. وكان في حكاياته مرارة حبكة التجارب التي عاشها مع الكتاب والأدباء العرب ومرارة تلك التجارب من خلال لقاءاته بتلك العينات من الكتاب وما كتب عنه وعن تجربته عبر الملاحق الثقافية. بعد ليلة من تلك الجلسة اصطحبني في جولة مسائية سماها هو" طنجة أمكنتها ووجوهها في ذاكرتي". ومن مكان في عمق بطن السوق الداخلي قال لي من هنا بدأت أحس بخطواتي في هذه الحياة. إنه مشرب "الرقاصة". الحانة الفقيرة الحقيرة! كما يصفها، وهي البوابة الواسعة التي أدخلتني عالم طنجة. وكنت مندهشا برفقته وثرثرته الثملة عن الأمكنة في مدينته. وأثناء سيرنا في مصارين وأزقة تلك السوق كان يستوقفنا عن الحديث والسير مصافحة وعناق البشر وترديداتهم تحيات محبة وسلامتهم، بل وأنه كم من المرات كان يمد يده ويستخرج نقودا يوزعها هنا وهناك على عينات من الفقراء تتراوح أعمارهم من الرابعة عشر وحتى التسعين، يتسكعون بتلك السوق. كان السي محمد كما أسمعهم ينادونه في السوق يشق مصارين ومنعرجات السوق الداخلي بسرعة وكأنه حصان من حماس، وكان سيلاً أو شلالاً من الكلام والشتائم عند كل زاوية ومنعطف مررنا بها. وكان حديثه عن طنجة في كل شيء، في الخمسينيات والستينيات، يشد انتباهي، ويخرجني لحالة الواقع وما آل عليه حال الزمن وكيف وصلت عليه الحالة في المدينة. وحينما وصل بنا السير إلى منعطف يربط حي القصبة بوسط المدينة سألني عن نوع من أنواع المحار إن كنت تذوقته وتشتهر به المدينة يقدم مع "الروج" على الزاوية التي سنتوجه إليها، لكنه غيّر رأيه حينما قال لي إنها صاخبة هذه الحانة ومليئة بالحثالات والعاهرات والسكارى، ثم أردف وهو يلوح بيده، دعنا نذهب لمكان آخر، قالها بعصبية ثم أكملنا المسير وهو يتمتم، سنرى. لقد أخبرني حينما أجبرنا المطر الشديد بعد أن انزوينا بشرفة غرفتي في نزل "ماركوبولو" بأنه حينما كان في السابعة عشر من عمره تلقى طعنة من مدية في خاصرته اليمنى في تلك الزاوية التي يبتاع فيها ذلك النوع من المحار، كان ليلتها عندما أخبرني بتلك الحادثة يرشد بحارة من الفلبين في جولة مسائية للمدينة، لكنه قال لي وهو يرتشف كأساً من "شيفاز ريكال" ها أنت تراني أمامك لم أقبر بعد. كان الجرح سطحياً حتى أنه لم يستدعِ ذهابي للمستشفى، بل وأكملت مهمتي مع أولئك البحارة حتى الفجر. ثم قام بإزاحة ملابسه، حيث يكاد يُرَى شيءٌ من أثر ذلك. هكذا أكدته لنا من كانت ترافقنا، التي لصقت بنا في علبة ليل قبل ولوجنا للنزل. وخير ما فعلته بنت أحد شخصيات كتابه الأخير وجوه " فاطي" الرقطاء - كما يسمي أمها هو، وأسميها أنا هذه " الفتاة الزغبية"- في صبيحة يوم كنت أودعها على رصيف محطة القطارات في مدينة طنجة.

السبت، 4 أكتوبر 2008

ترنيمات الشجن على هامش روايتنا الجديدة

اووووووووف يا وطن


افراح الكبيسي



على هامش روايتنا الجديدة ( اشتعالات الضوء)- الجزء الثانى من ( الثلاثية البغدادية ) شدت أفراح بشجنها معنا
شده..


والشده بعد الشده شده

وصل بيه الصبر حده

هذا سيفك البقلبي تحده

كسّر البيبان.. مد ايده على جاري..

واخذ ولده

سدّه..

هذا غول البلع خوتي.. وولد عمي.. وولد خالي..

حلكه سده

وهاي الصاعقه الشككت بطن الوطن..

كضها.. وخيطْ جلده

بلكي من جلده تركعه..

تمسح دموع الارامل.. واليتيم تردله مهده

عده..

حصدوا ابناء الوطن مثل السنابل..

ولزموا للوطن عده

والوطن عدته طويله.. بطول دجله والفرات

بطول نخلات كاعي التمرهن نزف مجده

ردّه..

الامان الي انفقد ببيوت الفقيره

بداعة الله والوطن للناس رده

التغرب وكصكصت رجليه كل الحدود..

لامه رده

ضحكة الاطفال..

هلهولة مرة جاري..

لمة اهلي..

كعدات الحدايق..

فرة السوق..

اللـــــه يا هل الوطن.. هم فد يوم كل هذا ترده

مدّه..

لملم جراحك.. اطرد كل ملثم

افرد جناح الخريطه

والامل مثل بساط مده

وحده..

يا وطن شكد انته غالي

بس غلاك انتحر وحده

الجمعة، 22 أغسطس 2008

الحوار المطول مع مجلة أوتار العربية من تونس


حوار خاص بأوتار مع الكاتب الروائي إبراهيم جاد الله

***


أجرت الحوار الشاعرة صباح حسني




عندما يجري الحديث عن الرواية العربية الحديثة، التي تعالج هموم الناس، وتغوص في مشاكلهم، وتبحث عن الحلول، لا بد نستحضر اسم كاتب له بصمته في عالم القص والرواية، قدّ الكثير من الأعمال الأدبية، وكان في أعماله مشغولاً بهموم الناس، أولئك المسحوقين والمهمّشين والراسين في قاع مجتمعاتهم، إنه الكاتب الأديب إبراهيم جاد الله، ابن مصر العربية العظيمة، وابن مدينة المنصورة، الكاتب الروائي القاص، والمحاضر الأكاديمي، والناقد المسرحي، والباحث والدارس، والصحفي الملتزم، والرجل الذي وهب قلمه ليكون بجدارة الممثل لضمير مجتمعه.
يشرفنا في مجلة أوتار أن نجري معه هذا الحديث لثقتنا بأننا مع الأديب إبراهيم جاد الله نقدّم للذوّاقة والأدباء خميرة خبرة طويلة، منارة يمكن الاهتداء بها في وقت نحن فيه أشد ما نحتاج إلى فكر منير، وقلم نظيف، وتوجّه رشيد.


س ـ بداية نرحب بك ضيفاً عزيزاً على صفحات مجلّة أوتار
لقد طغت على المشهد الثقافي العربي بشكل خاص في الآونة الأخيرة مقولة فيها بعض اللبس أو الإشكال، مفادها أن الشعر تخلى عن موقعه التاريخي كديوان للعرب، وأن الرواية تحتلّ موقعه، فإلى أي مدى يرى الأستاذ إبراهيم جاد الله مصداقية هذا القول.. ولماذا.؟


ابراهيم :- لا تقولى بزمن الشعر ولا بزمن الرواية ، فهو إما زمانهما معا أو فناءهما معا ، نحن مقبلون على عبثية غياب سابق ولا حق
والمسرح يتهيأ لعدم أكبر
بعض الروائيين كانوا يترفعون عن قراءة الشعر. أسوة بمفكرين عرب، لا يرون في الشعر أو في المتخيل الأدبي بصورة عامة، الا ضربا من أوهام وانفصامات و... الخ ضد صعود "الأمة" وبلوغها الحتمي ركب الحضارة، وكأن الوهم والخيال والانفصام والحلم والاستيهام، ليست حقلا خصبا لاشتغال الفكر، في هذا النوع من العقلانية المبسطة،
بمعنى آخر مارس أهل دنيا السرد انتقاما مشروعا ولا واعيا ربما من التهميش الذي ساد الوعي العربي في دفعه الشعر، أي المقفى والموزون الى مرتبة المقدس وحط من قدر النثر العربي الخلاق بتجلياته المختلفة.
وهذا ما فعله على نحو آخر شعراء قصيدة النثر ، وفى رأيى المتواضع أن هذاليس زمن الرواية ولا زمن الشعر في العمق، انه زمن آخر. الروايات الأكثر تسويقا ليست الروايات العظيمة وان كانت ربما أكثر قراء من الشعر. وروائيان من أعظم كتاب هذا العصر (اسماعيل قدرى وميلان كونديرا) لم يكن لهما هذا الانتشار لولا بؤرة صراع مناخات سياسية وايديولوجية تقاطعت في مرحلة معينة، ونجيب محفوظ وعبدالرحمن منيف، ليسا أكثر قراءة بكثير من نزار قباني وأدونيس ومحمود درويش.
ليس هذا زمن الرواية ولا الشعر، لكن يبقى للرواية والشعر - كالفنون جميعا- حيزها الروحي المزدهر ابداعيا على ضيق رقعته القرائية.
قطرة الروح الأخيرة في رماد نبعها الجاف.
ليس هذا زمن الرواية ولا زمن الشعر لكنهما في النهاية يذهبان صوب أفق واحد، صوب الحكاية الأزلية التي تسرد من غير ملل، الحكاية الصارمة والعبثية للغياب السابق واللاحق وما بينهما من أرض وبشر وعدم كبير يهيئ المسرح لعدم أكبر.


س ـ وأنت من أهم كتّاب الرواية العربية الحديثة، هل لك أن تحدثنا عن أهم الركائز التي تستند إليها تقنية الرواية.؟


ابراهيم : - ليس من قبيل التواضع الساذج رفض أفعل التفضيل الوارد بسؤالك ، ولكنه إقرار بواقع صحيح ، لاعتبارين أولهما أن تجربتى برغم ممارسة الفعل فيها مستمرة منذ ما يقرب من ثلاثين عاما إلا أنها لم تختمر رؤاها بعد ،ولم تتشكل ملامحها أيضا بحكم أن ما طرح لى للتلقى قليل ، وثانيا ، أنى كثيرا ما نظًرتُ لأعمالى وكنت مشغولا بهذا التنظير لها من خلال قناعة خاصة ومشروع أعمل عليه وعلى تجسيده أكثر مما انشغلت بالإنجاز داخل التجربة ذاتها ،وهو ما أود اللحاق به من جديد ،و ما يتجسد الآن من خلال العمل اليومى فى الثلاثية البغدادية التى هى كتابة مشتركة ربما للمرة الأولى فى الرواية العربية بين كاتب وكاتبة ، والمميز فى التجربة أيضا أن الكاتبين لم يكونا على اتصال مادى وواقعىحالة إنجاز العمل اليومى فى الرواية ، ولكن باستخدام تقنيات التكنولوجيا والإنترنت ومن خلال رسائل ألكترونية متبادلة تم تشكيل العمل الروائى الأول ، والذى أسميناه ( إيميلات تالى الليل ) وهو عن احتلال الأمريكان للعراق ومقاومة هذا الإحتلال ، وفى الحقيقة فالفضل يرجع فى هذا الأمر لصديقتى وزميلتى المناضلة العراقية والكاتبة كلشان البياتى
ان منطلقات الرواية عندى تحتاج الى مركز، الى بعد مكاني، الى هوية قومية، فمثلا يستهوينى فى رواية روبنسون كروزو، حين يبدأ الراوي فيها بعودته الى الجزيرة التي تحطمت سفينته عليها ويعيد بناء حياته من جديد على الجزيرة، ويبدأ في تثبيت أقدامه
ربما لا تعني العبارة الشيء الكثير، ومع ذلك هناك ضرورة الخروج اولا من دائرة الصمت، فالرواية تعني أن يصل صوت الفرد الى الآخرين. وبهذا يتحرر الصوت الفردي من فرديته، كما يوفر الاتصال بالغير.
وكما استثمرنا وسائل الاتصال العصرية ،علينا استثمار اهم تطور في تاريخ الرواية، وهو التحول الذي نشأ من الاهتمام بالراوي الذي كان يقوم بالدور الرئيسي في الرواية، كما كان الحال في رواية القرن التاسع عشر الى الاهتمام بصوت الشخصية كما حدث لاحقا في رواية القرن العشرين. ادوار سعيد يؤكد على اهمية الرواية، ويقدم لنا تعريفا جديدا لمفهوم الرواية شكلا ومضمونا. تقول (باربرا هاردي)، ان القص او السرد لا يخضع كثيرا الى قيود التقنية، والسبب ان حياتنا قصة نرويها لبعضنا.
أنا أريد إدخال الرواية في منظومة الثقافة التي لا حدود لأبعادها، ولكي تكتسب الرواية صبغة كونية، لا بد لها من ان تشمل أبعادا معرفية، وكان ادوار سعيد ينادي: يا علوم العالم ومعارفه اتحدي. وقد سألت بدورى ادوار سعيد: من هو الراوي، وكيف يروي؟ فأجاب: الراوي ليس الشخصية وليس الشخص الذي يقف وراء القناع، والعارف بأسرار الشخصيات في الرواية، وليس الفرد الحاضر ولا الفرد الغائب، وليس هو راعي الثقافة المهيمنة التي تدخل الرواية ضمن ادوات مشروعها التنويري الاستعماري، ان سلطة الرواية هي لصاحب الشأن، بمعنى ان الكتابة هي Project لا مهنة Career، بمعنى ان المشروع يكون طوع صاحبه، اما المهنة فإنها تمتهن صاحبها، وعندما استُفسر عن سبب عدم روايته أي شيء عن حياة الشرق، رد بإيجاز بأنه خاف أن يكون مستشرقا إضافيا... ونرى ان ادوار سعيد اصبح روائيا مرموقا لشؤون العالم عامة وشؤون فلسطين خاصة، لقد استطاع ان يصل الى بقاع العالم وفي يده خارطة فلسطين، وفي عقله قضية شعبها، وفي قلبه آلام التشرد والضياع، لقد أصبحت فلسطين على يديه رواية هامة في العالم.


س ـ ندرك أن للرواية دور هام في التأريخ، وقد تكون في مرحلتها الزمنية أصدق من تدوين التاريخ للحقبة نفسها هل تؤيد هذا القول.؟ ولماذا.؟


ابراهيم : - أؤيد بإيمان شديد ، وهو ما أقوم به على مستوى الكتابة الروائية فى مفهومها المطلق ، وعلى مستوى تقنية جديدة أحاول تجريبها كأداة وكبوصلة مستقبلية ، وهى محاولة للتجريب ، وضعت لها أصولا نظرية ، وحاولت القيام بتطبيقها ، وقد أنجزت منها بالفعل نصا روائيا طويلا يطبع الآن بسوريا
أولا من حيث التقنية المستخدمة وهى كتابة الرواية كورشة لعمل غير فردى تحطيما لسلطة الكاتب الفرد ، ينفذ عناصرها أكثر من كاتب . فقد انتهيت وزميلتى العراقية كلشان البياتى من كتابة نص روائى مشترك ، وأظنها تجربة غير مسبوقة فى الكتابة الروائية العربية بين كاتب وكاتبة على وجه التحديد ،ونحن بصدد كتابة النص الثانى من الثلاثية البغدادية أنا وزميلتى الكاتبة العراقية المقيمة فى المهجر زينب سلمان
وذلك لعدة أسباب جد هامة ومتفردة
والرواية مثل التاريخ تعنى بالسلوك الإنساني ومن قضايا التاريخ والرواية معا السؤالان اللذان أثيرا حول الحتمية والمصادفة , أو ما يعبر عنه العلماء والمختصون" Wickedness هيجل " وأنف كليوباترا . وسواء أكان التاريخ يقوم على الحتمية أو على المصادفة , فإنه بمفهومه المجرد"لا يفعل شيئا ,إنه لا يملك الثروة الهائلة ولا يخوض المعارك . إنه الإنسان , الإنسان الحي هو الذي يفعل كل شيء , فهو الذي يملك ويقاتل " كما ذهب إلى ذلك مفكر آخــر ولكن , هل الإنسان هو الذي يصنع التاريخ فعلا ؟ إن هذا ما تراه النظرية المادية . أما النظريات الأخرى فهي تحمل مفهومها الخاص للتاريخ وللحياة وللفن ومنه الفن الروائي .فكيف ينظر النقد في المغرب مثلا , إلى الرواية وإلى علاقتها بالتاريخ ؟ النقد بوصفه جزءا من الفكر العربي ؟
إن الرواية جزء من التاريخ ؛ ولكن هذا الجزء يستطيع في بعض الحالات استيعاب رؤية تاريخية واسعة وعميقة , لماله من قدرة على التكثيف والاختزال ولسلطته الفنية القاهرة التي تجعله أحيانا ندا للتاريخ ومنافسا له . ثم أليست الرواية هي ذلك الفن الذي تتجمع فيه عدة علوم وفنون , بحيث يتحول إلى بؤرة تشع منها معارف وممارسات نفسية واجتماعية وتاريخية وحضارية, فضلا عن المعاناة الذاتية التي يصدر عنها الروائي والتي تلون تجربته وتطبع أعماله الإبداعية . ولهذا نقول ونؤكد إن علاقة الرواية بالتاريخ علاقة مركبة ومربكة ومحيرة لأنها علاقة الفن بالحياة و بالوجود وبالخلق

س ـ في ظل المرحلة التي نعيشها هل تعتقد أن الشخصية العربية تعيش حالة من الاغتراب وعدم القدرة على مواجهة الواقع بكل معطياته وإفرازاته، وإذا كان الجواب نعم كيف لك أن توضح لنا ذلك.؟


ابراهيم : - نعم أقر بما تطرحين ، وأرى أن من ساعد فى تنامى حالة الإغتراب تلك هى العولمة التى قامت على تهديد وطمس هويات الشعوب الثقافية، وعملت على تدمير معطياتها القيمية وتعطيل حركة تطورها ونمائها عن طريق إيجاد حالات من الصراع الداخلية في عمق هذه الثقافات وتعطيلها. لقد أيقظت هذه العولمة الثقافية في داخل الثقافة العربية إشكالية الثنائيات التي تأخذ آلية فكرية تهدف إلى إضعاف الثقافة وإنهاكها في دائرة مفرغة من الصراعات الداخلية. فالثقافة العربية مثلاً تعاني من داء الثنائيات والصراعات الداخلية تحت غطاء هذه الثنائيات التي تتمثل في مقولات: الحداثة والتقليد، الأصالة والمعاصرة، التجديد والتقليد. وفي ظل هذه النزعات الفكرية الثنائية، تشهد هذه الثقافة ازدواجية نتيجة احتكاكها مع الثقافة الغربية بتقنياتها وعلومها وقيمها الحضارية، والنتيجة استمرار إعادة متواصلة ومتعاظمة للازدواجية نفسها، ازدواجية التقليدي والعصري، وازدواجية الأصالة والمعاصرة، في الثقافة والفكر والسلوك . لقد أصبح واضحاً أن الاختراق الثقافي للعولمة يعمل على تهديد منظومة القيم الأصيلة ويشكل نوعاً من الازدواجية الثقافية التي تجتمع فيها تناقضات الأصالة والمعاصرة مما يؤدي إلى تهميش أو تغيير ملامح الثقافة الوطنية.‏ لقد أصبحت مظاهر الاغتراب والفردية والمادية والاستهلاك الترفي هي سمات سائدة في مجتمعاتنا العربية حيث "تحولت الثقافة العربية إلى ثقافة من نوع جديد، حتى أصبح كل شيء الآن يمكن أن يباع ويشترى "حتى روح الإنسان نفسه تخضع لقانون العرض والطلب . إن العولمة في نهاية تؤدي إلى عملية غسيل حقيقية للأدمغة؟ كما أشار "مارتن وولف" لأن الإنسان في دوامة هذه المعطيات العولمية يقع أسير أفكار قاهرة ويصبح طريد عالم غريب يشعره بالغربة والانسلاخ، أو العداء والعدوانية على كل هذا الصخب العالمي الوافد .‏
وباختصار الهوية العربية تعاني حصاراً وجودياً يتصف بطابع العمق والشمول، وهو حصار تفرضه معطيات الحداثة الجديدة لعولمة تبتلع الناس والأشياء. إنها عولمة مجحفة جارفة تقود المجتمعات الإنسانية إلى عالم يزدهر فيه كل شيء على حساب المعاني والقيم الإنسانية النبيلة إنه العالم الذي يربح فيه الإنسان كل شيء ولكنه يخسر نفسه. وفي مواجهة هذا الامتداد الأسطوري لمعطيات هذه العولمة المادية والأسطورية، التي تسحق الإنسان بالأشياء يتوجب على هذه المجتمعات أن تدق ناقوس الخطر وأن تعمل على بناء استراتيجيات إنسانية يمكنها أن تحافظ على بقية باقية من تكوينات الإنسان الأخلاقية ومعانيه السامية، إنها في النهاية معركة الإنسان من أجل المحافظة على الحدود الدنيا لمعانيه الإنسانية التي تتجسد في هويته وخصوصيته وثقافته.‏


س ـ هل يمكن لكاتب الرواية أن يكون محايداً في معالجة موضوعات تمسّ هموم الناس الوطنية والاجتماعية.؟


ان غياب العلاقة الجدلية بين الكتابة الابداعية بشكل عام وليست الروائية فقط والواقع الاجتماعي قد ادى الى اغتراب الادب في الثقافة العربية عن واقعه الاجتماعي وعمل على عزل الاديب والفنان و تعطيل قدراته في التواصل مع الوعي الجمعي لشعبه والارتقاء بالمستوى الثقافي والذائقة الجمالية. وتبدو هذه الحقيقة اكثر وضوحا في الادب العربي منذ نهاية الستينات من القرن الماضي، حيث غابت العلاقة الجدلية بين التغيرات والتحولات في بنية النص الادبي وبين التغيرات والتحولات في البنية الاجتماعية والثقافية. وظهرت اشكال ادبية وانماط كتابية في الشعر والسرد العربي بتاثير مباشر وكلي من الاداب الاجنبية بشكل عام والادب الفرنسي بشكل خاص. وانحسر عدد القراء والمتابعين للنتاج الشعري والقصصي من غير المتخصصين الى حد كبير. واصبحت الكتابة الابداعية نوعا من الترف الفكري والجمالي بعد ان كانت احدى اهم محركات الوعي الثقافي والوطني للجماهير العربية منذ الحرب العالمية الاولى وحتى نهاية الخمسينات.ومنتصف الستينات فى الغالب وقبل هزيمة العرب فى حرب 1967
ان من اهم اسباب هذه الظاهرة هو غياب الوعي الثقافي والاجتماعي عند الاديب والمبدع العربي والافتقار الى الحس النقدي في التعامل مع الثقافة الاجنبية وانماطها الابداعية المختلفة..



س ـ وهل يعني ذلك أن يكون كاتب الرواية ملتزماً بقضايا الأمّة ومعبّراً عنها واعذرني فأنا هنا أخص الكاتب الملتزم بهذا السؤال.؟


أنا لا أماري في أنني، كمثقف، كنت ولا أزال ملتزما. ولكنني أفلحت، ولحسن الحظ، في أن أتحرر من نظرية الالتزام السائدة بمفهومها السارترى منذ كتابه ( ما الأدب ) في كل ما يتعلق
بممارستي الكتابية كناقد أدبي أحيانا، أي كناقد للعمل الابداعي من حيث هو عمل ابداعي حصرا، تكمن غائيته فيه لا في هدف ايديولوجي مخالف. ففي كل محاولاتى فى ماأكتبه في النقد الأدبي انتصرت للأدب الحقيقي، وأدرت ظهري بإصرار لكل الأدب "المفبرك" برسم غاية سياسية او ايديولوجية تخالفه
وبديهي انه ليس من السهل دوما الفصل بين المثقف والاديب. فالأديب قد يكون أيضا ملتزما، مثله مثل المثقف تماما، والتزامه لا يخل بشرط الابداع ان كان ينبع من صميمه وان كان التعبير عنه يأخذ شكلا صميميا. ولكن ليس كل أديب مجبرا على ان يكون له التزام المثقف. فللأديب أن يكتب عقله، ولكن له ايضا ان يكتب جنونه. وأدب الجنون قد لا يقل ابداعا عن أدب العقل، هذا ان لم يتفوق عليه، فان الأديب كان بطبعه مجنونا، وما كان "مسؤولا" كما افترض داعية الالتزام الكبير- في حينه - رئيف خوري. أو فلنقل ان الكتابة قد تكون فعلا بديلا عن الجنون. وللجنون فنون كما يقال. فللعاقل فنه، ولكن للمجنون ايضا فنه، وفن المجنون قد يكون أكثر عقلانية من فن العاقل، لانه ينوب له بذاته مناب العقل


س ـ هناك تقسيمات بين الحقب الزمنية، فهل ينطبق هذا على الرواية.؟ بمعنى هل من اختلاف أو تفاوت أو تمايز بين رواية الخمسينات والستينات من القرن الفائت، وبين رواية اليوم.؟ وما هي أهم التباينات.؟


ابراهيم : - فى البدء يستدعى الامر استدعاء الريادة أيضا للتأصيل فى مجال الرؤية فموضوع الريادة يثير ثلاث ملاحظات سريعة أولها: إن الريادة، مهما تكن الشروط التي تولد فيها، عمل جماعي، حتى لو بدا غير ذلك، وثانيها إن هذه الريادة لا تظهر معالمها واضحة في لحظتها المباشرة، فعليها ان تنتظر زمنا كي تأخذ شكلا واضحا. وتقول الملاحظة الثالثة: ليست جميع الأزمنة تسمح بظهور مساهمات ريادية، فالعقم، كما الخصب، بحاجة الى شروط موائمة له.
وبما ان الحديث يدور حول الرواية العربية، تمكن العودة الى بداياتها، للبرهنة ان كانت فردية أم جماعية: فكل حديث عن هذه الرواية يبدأ عادة بكتاب «الساق على الساق» لأحمد فارس الشدياق، ثم يمر على اسم فرنسيس مراش «غابة الحق»، عيسى بن هشام هذه المساهمات وغيرها، اضافة الى الترجمة والمجلات والصحف، أفضت لاحقاً الى رواية «زينب»، في بداية العقد الثاني من القرن الماضي، التي اعتبرت «الرواية الرسمية» العربية الأولى.
إذا تأمل القارئ أحوال ومسار محمد حسين هيكل، صاحب رواية زينب، يجد انه كان تنويرياً، مارس الصحافة وشيئاً قريباً من النقد الأدبي والنقد الاجتماعي وإعادة كتابة التاريخ الاسلامي... ولم يكن في ممارساته المتعددة الا مرآة لجيل كامل من المثقفين، قاسمه اهتماماته وكتب مثله رواية او أكثر، حال طه حسين والمازني وعباس العقاد، صاحب رواية يتيمة، ومثقفين آخرين سوريين ولبنانيين وفلسطينيين... ومع ان الريادة تعود، شكلانياً، الى هيكل، فإن تأمل السياق يكشف عن ريادة جماعية، نُسبت الى فرد واحد.
وإذا كانت الريادة هي التأسيس فقد أعاد نجيب محفوظ إعادة انتاج الريادة والتأسيس معاً، حين حوّل الكتابة الروائية من وضع الهواية الى وضع المهنة الثابتة. بل ان محفوظ، وبعد ان أنهى ثلاثيته أنجز، من جديد، تأسيساً جديداً، حين كتب «أولاد حارتنا» و«اللص والكلاب»... ولعل التأسيس وإعادة التأسيس هما اللذان جعلا «النموذج المحفوظي» يتكاثر في نماذج كثيرة، آيتها أعمال صنع الله ابراهيم وجمال الغيطاني وبهاء طاهر ومحمد البساطي، وصولا الى أسماء لاحقة مثل محمود الورداني وسعد القرش...
ملاحظتان لا بد منهما الآن. تقول الملاحظة الأولى: إن إعادة إنتاج الريادة الروائية لا تمنع من توليد ريادة جديدة. فقد ورث جمال الغيطاني موضوع الموت والسلطة من رواية محفوظ، لكنه استولد، على مستوى الشكل، رواية جديدة حين كتب «الزيني بركات» و«التجليات» مستهلماً الموروث الثقافي العربي، ومترجماً هذا الموروث الى قيم جمالية جديدة، برهنت ان «التحديث الروائي» لا يتمتع بصفة كونية. أما الملاحظة الثانية فتقول: لقد أنتج أكثر من بلد عربي ريادة روائية خاصة به، كأن يؤسس توفيق يوسف عواد عام 1939 للرواية اللبنانية في روايته «الرغيف»، وان يوطّد سهيل ادريس، في «الحي اللاتيني»، هذه الريادة ويدفعها الى الأمام. وهناك السوري حنا مينة الذي أعطى الرواية السورية أساساً ثابتاً، على الرغم من الجهود الروائية السورية التي سبقته.
يمكن القول أيضا ان الجزائري الطاهر وطار كان رائدا روائيا في بلده، حين بدأ كتابة الرواية باللغة العربية، مختارا مكانا خاصا به، بعيدا عن هؤلاء الذين كتبوا رواية باللغة الفرنسية، مثل محمد ديب وكاتب ياسين. والأساسي في هذا كله انه لا وجود لريادة كتابية بصيغة المفرد، ولا وجود للريادة، فردية كانت أم جماعية، إلا في شروط موائمة.
وعلى الرغم من أزمة الرواية العربية، التي انفجرت في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، واستمرت بأشكال مختلفة الى اليوم، ربما، فقد تلامحت ريادات روائية جديدة، بعضها واضح، أو قريب من الوضوح، وبعض آخر لا يزال يتقدم متعثراً. وأظن ان اللبناني ربيع جابر ريادي في مجاله، حين آثر ان يكتب نصين في نص واحد، أحدهما تاريخي مباشر، وثانيهما تعليق عليه وتأويل له، وهو ما برهن عنه في عمله النوعي: «يوسف الانجليزي» وعمله المتناتج «بيروت عاصمة العالم». وأظن أيضا ان في عملَيْ علوية صبح «مريم الحكايا» و«دنيا» ملامح ريادية، على مستوى المنظور واستراتيجية السرد أيضا. كما يستطيع قارئ اعادة انتاج خلاق للريادة القديمة، كان ذلك في عمل مكاوي سعيد «تغريدة البجعة»، أم في أعمال أخرى تنزع الى «الواقعية الفوتوغرافية حال «فاصل للدهشة» لمحمد الفخراني. إن ما يجعل الريادة الروائية العربية تبدو اليوم «غائبة» او «غائمة» او «متعثرة» يعود الى أمرين: توسع الكتابة الروائية توسعاً غير مسبوق، فلم يعد الأمر مرتبطا باسم او بثلاثة أسماء، حال هيكل والمازني وطه حسين، بل غدا موزعاً على عشرات من الأسماء. يتمثل الأمر الثاني في سديمية الوضع العربي اليوم، ذلك الوضع المتداعي الخرب الآيل الى السقوط والموات. ولعل تعقّد هذا الوضع، كما الخراب المتعدد المستويات الذي يحاصره، هو الذي فرض، في السنوات الأخيرة، جملة كبيرة من الاقتراحات الروائية، بعضها خصب، والبعض الآخر يولد مرهقاً ويموت قبل أن يورق ويزهر.
وفي الحالات جميعاً فلا وجود لريادة بصيغة المفرد، ولا وجود لـ«بداية مطلقة» للإبداع الروائي، ذلك ان البدايات جميعها تولد مجزوءة مضطربة غائمة

.
س ـ بصراحة أستاذ إبراهيم هل تعتقد أن الرواية العربية الحالية استطاعت ولوج ضمير الناس وحازت على رضاهم وتفاعلوا بها ومعها.؟ وإلى أي حد.؟


ابراهيم : - يبدو لي أن أهم شيء صنعه كتاب الرواية العربية العظام أنهم أضاؤا مناطق مظلمة في الوعي العربي, والقارئ إذا بذل جهدًا وقرأ فهذا أفضل من التصور, فهنا كتّاب كتبوا على نهج الطيب صالح نفسه مثل (البشير خير) الذي كتب عن الجنوب التونسي وعبد الكريم غلاب من المغرب, وطاهر وطار من الجزائر, وغالب هلسا من الأردن وسورية ومصر, وبرواياتهم صارت الأماكن المظلمة في المخيلة العربية بدأت تضاء, وهذا مهم جدًا حتى ترتبط هذه الأضواء في ذهن القارئ العربي, وبدأنانحس فعلاً أننا أمة واحدة وليس مجرد كلام


س ـ هل يعتقد الأديب إبراهيم جاد الله أن هناك أزمات في مشهدنا الثقافي، أزمة قراء أو أزمة كتاب وأيها الذي يشكل عبئاً مسبباً أكثر.؟


ابراهيم :-أولا تسابق الأسئلة، وتعدُّد الصيغ يصيبني – كغيري – بالإحباط كلما فكرت في دور المثقف في صياغة إدراك أمَّته ووعيها وتفعيلهما، وفي مسؤوليته الباهظة عن احتلال هذا العقل في غياب فاعلية الثقافة والمثقف. فالمثقف مسؤول، ولا شك، عن مصيبة احتلال العقل العربي وتغييبه، وعن انتشار الخطاب المدجَّن، في الساحتين الإعلامية والسياسية على السواء، وعن تبرير الخنوع والذل بالعجز عن التصدي للزيف والغيبيات.
لا شك أن الفجوة تزداد اتساعًا ما بين المثقف التنويري وبين القاعدة العريضة من الجماهير، التي هي مَن يملك مفاتيح تغيير الواقع الذي تعيشه – وذلك لعدة أسباب: إن هذه الجماهير مغيَّبة تمامًا بفعل السلطة التي حاصرتْها في دائرة البحث عن قوت اليوم، ومعزولة تمامًا عن التفكير في أية حلول مستقبلية لأزمتها؛ كما أن هذه الجماهير فقدت ثقتها تمامًا في كافة المشاريع السياسية، وفي المثقفين التابعين لها. ولا أبالغ إذا ما قلت إن الجماهير العربية فقدت الثقة في مجرد التفكير في التعبير عن الذات!
ويقف المثقف المحبَط ما بين حَجَرَي الرحى: ضغوط السلطة وتكميم الأفواه وقمع الحريات وغياب الديموقراطية والليبرالية الفكرية، من ناحية – لذلك لا يملك هذا المثقف المحاصر الوصول إلى جماهيريته المفترضة، ولا يستطيع التأثير فيها. كما أن الأنظمة والحكومات في مجتمعاتنا العربية، من ناحية ثانية، تتبارى وتتنافس على فكرة تهميش دور المثقف وإبعاده عن دائرة التأثير. لذلك يبدو المثقف مثل طائر صغير مربوط بخيط ينتهي في يد الحكام؛ وهم وحدهم الذين يمتلكون تحديد طول الخيط، ويملكون استرجاعه في أيِّ وقت أيضًا، وحبس هذا الطائر في السجون والأقفاص متى شاءوا.
لكن يظل على المثقف دور لا يجوز له التنحِّي عنه؛ وتبقى دائمًا محاولاته للقول النقدي، وإعمال العقل، والتمرد على السائد والمألوف، من أجل إحداث التغيير أو تحقيق الطموحات التي يحلم بها هذا الجمهور اللاواعي بما يدور حوله
ثانيا – وهذا هو الأهم فى نظرى فإن النخب العربية لم تفعل شيئا لتكريس الفرد العربي، بل إنها لا تعترف بوجوده، حيث يكون له كامل الحق والحرية باختيار أو ابتكار نمط حديث أو جديد أو مغاير لحياته أو تفكيره، عمّا أقرته له هذه النخب رغما عن إرادته. بل إنها تجاهد وتقاتل بكل السبل للحيلولة دون تمكّن الشخص العربي من أن يكون فردا له كيانه الحر المستقل بعلاقته بجماعته وقومه، وتحرّم عليه أدنى اختلاف معها عبر اتهامه بالخروج عن الجماعة وعن إرادة الأمة أو مصالحها أو طبائعها أو تاريخها أو دينها… الخ. فالبدعة مازالت حراما، ليس في إطار الدين فحسب بل حتى في أبسط الأمور وأكثرها شخصية، كالملبس أو المأكل أو الذوق وغير ذلك. والقراءة تحتل على هذا الصعيد مركز الصدارة كونها من أهم مصادر البدعة، فهي إذ تقدم للقارئ اطلاعا واسعا على تجارب الآخرين وأفكارهم، وكذلك على صعلكتهم، فإنها تحرضه على الأخذ بغير المعتاد والسائد.
استنادا إلى كل هذا، لا أرى في المدى المنظور إمكانية حل لأزمة النشر والقراءة. والأرقام الدالة عليها لا يمكنها أن تنخفض كثيرا حتى مع توفر دعم حكومي للمطبوعة أو انخفاض في ثمنها، أو حتى اتساع هامش حرية التعبير والنشر. فإمكانية الحل مرتبطة بتغير الثقافة السياسية السائدة النابذة للفرد في مجتمعاتنا وبلداننا، إلى ثقافة تقوم على الإقرار بأن مجتمعاتنا مكونة من أفراد أحرار، لكلّ منهم الحق بتكوين هويته الفردية المستقلة. ومثل هذا التطور يحتاج كيما يتحقق إلى عوامل وفعاليات وأزمنة كثيرة. والأهم من ذلك فإن التصدي للقيام بهذا الحل، أو سواه، لا يمكن أن يكون إلا في كل بلد عربي على حدة، لأن أي إجراء في هذا المسار يحتاج إلى مؤسسات حكومية ومدنية محددة، ولسياسات إعلامية وتربوية وتعليمية… الخ، إضافة إلى نخبة حداثية جريئة وجدية.


س ـ يقال أن كاتب الرواية في موضوع كتابة الرواية ينفصل عن ذاتيته، ويبدو عندما يشكل بطل روايته يضع فيها شيئاً من خصوصيته، ويعيش حالة من النرجسية والأنانية. فهل توافق على ذلك.؟ وإذا كان الجواب نعم كيف تفسر ذلك.؟


لا ينفصل الكاتب والمبدع عن مجتمعه الذى أراه انعكاسا لصورته، فالهم عام من حصار للأمة سياسيا وثقافيا إلى حصار ذاتي داخل العقول وخارجها، وحصار من المجتمع والسلطة، وحصار من العولمة، لذا فنحن في حاجة لمشروع فكري حضاري يعيد للمبدع العربي هيبته، ويعيد له دوره كمشارك أساسي في العملية السياسية والثقافية، فالعولمة تحاول السيطرة على الثقافة العربية، لكننا نجاهد، ولا نزال نقول كلمتنا رغم صوتنا المنخفض وسط أصوات طلقات الرصاص، لكن رصاص أقلامنا مازال يقول كلمته أيضا، فهناك اتجاهان يسلكهما المبدعون العرب، الأول هو الاتجاه القنفذي مثل القنفذ الذي يتكور على نفسه لحماية نفسه، وهناك اتجاه رافع رأسه ليبحث في ماضيه الثري، ليجد حلولا لمشاكله المعاصرة عن طريق المقاومة بالدين والهوية التي يجب أن يرتكز عليها كل مثقف عربي، فهناك بدع دخلت لتذل أمتنا، لذا فذات الكاتب هى ذات مجتمعه ، وإن انفصل عن ذاته فقد انفصل عن واقعه ، وصار صوته جعجعة لا ترى لها طحن
ا

س ـ ما هو تقويمك الشخصي لمستوى الرواية الحديثة في عالمنا العربي.؟ وهل للرقيب أي كان شكله ونوعه من تأثير على المستوى الفني العام للرواية العربية.؟


ابراهيم : - أنت تحشين الجرح ملحا ياصديقتى ، فالمعاناة متمثلة أمامى هذه الأيام ، بعد خسارتى فرصة نشر روايتى الأخيرة بمصر لخوف الناشر من تعرضها بشكل مباشر لرأس النظام فى مصر بالعتاب الهادىء أحيانا ، وبالإنتقاد الصريح أحيانا أخرى ، وبالغضب عليه كثيرا ، أو لكونى كاتب غير صالح جماهيريا وكتاباتى لا تتوافق وأليات السوق مما يعرض الناشر هذا لخسارة محتملة من الناحيتين ، فقد لجأت لناشر عربى صديق فى دولة عربية شقيقة ، وما بيننا من اتصالات متلاحقة ، تفيد ردوده أن الرقابة فى قطره ستعطى قرارها ، وبعد شهور وافقت لحاجة فى نفسها عزفت على وترها أنا ، وبعد شهور تفيد الاتصالات أن الناشر ينتظر الموافقة على الطباعة
قثمة موافقتان ، واحدة على النشر بعد تصويبات طباعية وشكلية قدمتها ، وقد تمت ، وثانية على الطباعة وما زلنا ننتظرها
ماذا تعنى تلك الحالة؟ سأصمت مؤقتا كى لا تصيب عيارات مسدسى النافذة رؤوسهم جميعا وتذهب روايتى إلى مراحيض مكتب الناشر ، فما أتحمله من عنت هو من أجل سواد عيون القارى ء فقط ، ولكن كل هذا لم يضعنى فى سوق مساومة لامع نفسى ولا مع واقع صادم ولا مع آليات السوق ولا مع شروط واقع النشر المازوم كى أتخلى عن فعاليات روائية حاولت الإتيان بها كجهد فردى ، لأنى أطالع إنجازا روائيا عربيا مبهرا ومتجاوزا، حتى فى أقطار لم يكن لها من هذا الفن الساحر من نصيب كالسعودية مثلا والأصوات النسوية المغامرة فيها والتى أعقبت تأسيسات القصيبى وعبده خال والمشرى وغيرهم

س ـ لك تجارب كثيرة وطويلة في مجالات فنية وأدبية متعددة في النقد والإخراج المسرحي والفنون المسرحية إضافة إلى الكتابة في مجال الرواية والقصة والدراسات والبحوث.. أين يجد الأديب إبراهيم نفسه.؟ ولماذا.؟


ابراهيم : - أجد نفسى فى حب الحياة برغم عتمة الراهن منها ، أجد نفسى فى التوحد بفعل الكتابة التى هى شهادتى عن نفسى وعن الحياة وعن الآخرين ، وهذا ما قلته بأحد فصول كتابى مر الذى مر ( سنوات الاشتعال والإنطفاء ) أن الكتابة شهادة ، وهى أيضا فعل تطهر وتوق للفردوس المفقود
فالكتابة شهادة، وعندما لا تكون كذلك، فإنها تصبح أي شيء، إلا كتابة.
لا تكون الكتابة شهادة إن لم تكن صادرة عن شاهد بالحق.
الكتابة التي لا تكون شهادة هي كتابة ظالمة، وناقصة، ومتواطئة.
الكتابة هي أن يكتب الكاتب ما يراه، وأن يشعر بما يرى، وأن يعجنه بدمه ويجففه بعرقه، وأن يكون ما يكتبه صرخة مدوية، تصل إلى الآخرين، ويوصلها الآخرون إلى الآخرين.
وكثير من أنواع الكتابات هي سحابات صيف عابرة، لا ماء فيها ولا روح، جسد ميت، التراب أولى به.
لأن فعل الكتابة اليوم أصبح ترفا، ولم يعد مسؤولية.
والمسؤولية من السؤال: من أنا؟ ولماذا أحمل القلم؟ ولمن أكتب؟ ولماذا؟
لا أحد يطرح هذه الأسئلة اليوم إلا قليلون.
لهذا تكثر الكتابات ويقل المعنى، لهذا سقطت قيمة القلم.
القلم حياة، والقلم موت أيضا، والقلم جسر بين الحياة والموت، يمر منه سالما من كان شاهدا بالصدق، لا متسليا، ولا طالب منزلة، أو باحثا عن الأضواء.
أقسم الله سبحانه بالقلم في سورة تحمل إسم هذه الأداة العجيبة:''ن. والقلم وما يسطرون''.
وقال محمد جواد مغنية في تفسير الآية، والقسم الإلهي بالقلم:
''أقسم به سبحانه لعلو شأنه حيث لا إنسانية ولا حياة إلا به''.
وفي الكتابة الحديثة يكثر الكلام ويغيب القول، لأن الكلام هو أي شيئ، ولأن القول هو الذي يملك المعنى.
والسبب أن الإنسان فقد الارتباط بالقيمة العليا التي جاءت به وستأخذه غدا.
قيمة المعنى الذي يمنحه لحياته.
قيمة الموت، وسؤال ما بعد الموت.
الكتابة الفارغة من المعنى، هي أيضا تغييب للآخرين، وعدم منح الاحترام الواجب للناس، لأنها استهتار بهم، وسخرية منهم، واستغفال لهم.
ولهذا فسدت الكتابة اليوم، لأن الكثيرين لا يعرفون ما يريدون منها، فلا يفهمهم الناس، لأنهم هم أنفسهم لا يفهمون أنفسهم.
يقول بعض الحداثيين: أنا أكتب للمستقبل، وللأجيال المقبلة التي ستفهمني.
رجل كهذا ينبغي أن يكون أحمق.
لأن المستقبل ليس عاقرا، والأجيال المقبلة ستكون لها مشكلاتها، ولغتها، وكتابها، وفنانوها.
إذا لم يفهمك الذي معك، لن يفهمك القادم.
هذا هروب من مواجهة المشكلة، والهروب من مواجهة المشكلة مشكلة ثانية.
الكتابة الحقيقية تضم الحاضر والغائب، تشهد على الحاضر، وتتجذر في الماضي، وتتشوف للمستقبل.
أنا هنا أجد نفسى ، وهنا فقط


س ــ من الملاحظ أن المسرح الكوميدي "السطحي" إذا جاز التعبير يشد أكثرية الناس لمشاهدته، ما هو السبب برأيك.؟ وهل أنت مع ذلك أم تفضّل الدراما أو الكوميديا الهادفة الملتزمة.؟


فى واحدة من نظريات فائض القيمة القائمة على تحليل قوى العمل والثروة فى المجتمعات الرأسمالية نجد تفسيرا ساخرا وحقيقيا لقيمة الثروة ألا وهو القدرة على الحصول على أوقات فراغ ممتعة.
إن المليونير أو الميسور الحال يعمل ويكد من أجل الحصول على أوقات الفراغ الرائعة التى يخلو فيها لمتعته وراحته وكلما طالت أوقات الفراغ الرائعة كلما كان المرء ثريا.
هذا التفسير الغريب للثروة ينطبق بصورة مذهلة على المصريين بشكل تاريخى، فهم يقدرون على المتعة رغم كل الظروف الضاغطة.
فإذا كانت المتعة واللعب هى فائض القيمة الحقيقى الذى تكرسه الثقافة الرأسمالية الاستهلاكية، فنحن أغنى شعب فى العالم، وحيث اللهو واللعب والضحك الممتع كان يقبع جمهور الطبقة المتوسطة، المتوسط فى كل شىء فى أحلامه ودخله وبيته وتعاسته كان ينفجر عندما يتحرك الضيف أحمد هو وسمير غانم وجورج سيدهم فى فرقة ثلاثى أضواء المسرح البسيطة التى قامت على فكرة الاسكتش البسيط فى تصميمه، وأغانيه السهلة الإيقاع، والتى كانت تستخدم الإيقاعات فقط فى بعض الأحيان، بعد أن كان إسماعيل ياسين وثريا حلمى يقدمان المونولوج الثرى موسيقيا والقادر على استخدام كل آلات الأوركسترا الموسيقى فى فترة الخمسينيات.
وقدم الثلاثى مجموعة من المسرحيات الممتعة. الحقيقية، ويحمل تراث الأبيض والأسود للمتفرجين فى التليفزيون المصرى تلك المسرحيات الممتعة التى تمثل نموذجا للعب بلا حدود، والتى تعبر عن مضحكين ولاعبين بلا قضية.
ومع السبعينيات وحتى الآن انفصل القطاع الخاص فى المسرح الكوميدى التجارى عن المتوسط المتفرج الباحث عن اللهو البرئ ليصبح المسرح السياحى،هو البطل فى الساحة، وهذا الأمر يستلزم وجود رقصات حسية ونساء جميلات من أجل القادر على دفع ثمن اللهو بالإضافة للضحك طبعا.
ومع سقوط المسرح التجارى فى مصر فى فخ البحث عن جمهور السائحين العرب وأصحاب الحرف اليدوية الذين امتلكوا مالا منذ السبعينيات خسر المسرح الكوميدى فى مصر جمهوره من الطبقة المتوسطة تماما تارة بالجرى وراء الخروج عن القول اللائق على خشبة المسرح وتارة بالارتفاع المذهل فى أسعار التذاكر.
وظهر المسرح التجارى فى صورة المتعالى ونجح فى تكريس حجب عادة الذهاب للمسرح، والتى كانت عادة مصرية أصيلة للطبقة المتوسطة وغيرها منذ أوائل القرن العشرين وكانت سبعينيات القرن وأوائل الثمانينيات هى فترة تحاريق المسرح المصرى الذى مازال يعانى منها حتى الآن.
وأدى ذلك لظهور الجمهور العشوائى الممزوج بجمهور السائحين العرب واشتركا معا فى فرض ذائقة جديدة فى المشاهد المسرحية دفعت سمير غانم للاستعانة بشعبان عبد الرحيم فى مسرحيته الأخيرة دورى مى فاصوليا. فشعبان كان تميمة المرحلة التسعينية لهؤلاء القادرين على شراء أوقات فراغ ممتعة من المصريين والعرب.
واتفق الجميع على السخرية من المسرح والفن الجاد محمد هنيدى بسؤاله عن العولمة وتفسيره لها باعتبارها العولمة فى غياب المضمون ومحمد سعد وقدرته على استقطاب عدد لا محدود من صغار السن الباحثين عن أوقات فراغ يملؤها ذلك الضائع العاطل الجاهل الذى لا تعرف إن كان «مسطولا» أم «أبله» السيد اللمبى المبجل. وظللنا وحتى الآن نصفق للجهل ولخشونة التصور الدرامى للعالم، وكأننا فى حفل كبير يقدس الجهل ويقدم له القرابين فيقدم هذا الجمهور من أفراد المقاهى المتعطلين ومن شباب يبحث عن إزجاء أوقات الفراغ لهذا المقدس الجهل الحسى البائس ملايين الجنيهات المنتزعة من أفواه هؤلاء البسطاء الأثرياء بأوقات فراغهم الطويلة وجيوبهم الخاوية.
وحين يصبح الفراغ واللعب هما الثروة ويصبح العمل هو الهامش فليصرخ كل غليظ كأنه الطرب وليهرج كل من يستطيع أن يهرج وليفخر النجوم الجدد بجهلهم البديع الذى جلب لهم الثروة، وجلب الإقصاء التام لهؤلاء الفنانين الجادين الذين أنفقوا العمر فى التعليم وجاهدوا من أجل الجمال والحق والخير والحرية
وأن تكون مضحكا بلا قضية فلا يهم، أما أن تكون مغامرا بلا قضية، فهذا هو الخطر الذى يحول المسرح إلى كباريه ورقص واستعراض دائم لجميلات فاتنات وتركيز على كوميديا العاهات البشرية كالبدينة والعجوز الأحمق فى مشاهد الكباريه.. كباريه التيك تاااك توك، كما جاء مثلا فى مسرحية «مراتى زعيمة عصابة». لهذا الأيله سمير غانم الذى فقد فدرته على الإضحاك المظيف الذى بدأ به مشواره مع الثلاثى
والمغامرة الخطرة هى إن واحدا مثله وغيره ممن بملأون ساحة المسرح الكوميدى لا يستهدف الجمهور العشوائى، فالصالة ممتلئة بالسياح العرب، ولتعرفوا أنهم يسافرون فى كل أنحاء الدنيا ويشاهدون بروداوى ويضحكون ويسخرون على تمتعهم من تلك الصيغة المقنعة للمهرج فى الكباريه، وهم يعرفون أنهم يكذبون على أنفسهم، حينما يذهبون لمسرح الريحانى، ويعرفون أنكم تكذبون على أنفسكم وعليهم لأنكم لم تكتبوا على المسرح كباريه الريحانى.. رحم الله نجيب بك الريحانى، بل رحم الله كباريهات عماد الدين قبل الثورة، وهى التى شهدت أعمال راسبين وموليير وروائع المسرح العالمى.
ونعود لنظرية اللعب وفائض القيمة مرة أخرى.. لنرجو من صناع البهجة أن ينظروا بعين المسئولية لجيل جديد ولأسر مصرية محترمة قادرة على دفع ثمن تذاكر معقولة ترحمكم من الكباريه المقنع وتملأ المقاعد الخاوية الغالية الثمن، والتى يستطيع السائح العربى أن يدفع بعضها ليرتفع الإيراد وليخسر المصريون أصحاب الثروة الكبيرة من أوقات الفراغ مضحكهم الرائع الغائب
فمن للجيل الجديد الموجود فى المقهى، إن لم يكن له من يمتعه ويضحكه ويقدر على سداد ثمن تذكرته؟
ولماذا يهرب المضحكون من جمهورهم المصرى الذى منحهم كل شىء، بالطبع الضحك أصبح سلعة غالية، وبالطبع علينا أن نذكرهم بأن جمهورهم المصرى قادر على دعم مسرحهم الجاد الضاحك الممتع إن هم أخلصوا التوجه له.
مازلنا حالة نادرة تقدس الحكايات المكرورة ونستسلم للكسل الفنى الجاهز، رغم عظمة الموهبة ورسوخ الرصيد الجماهيرى لنجوم كبار نجلهم مثل سمير غانم.
إن المصرى صانع البهجة كان فى مصر الفرعونية يستخدم المهرجين ليشاركوا فى وداع الميت، وبعد أن تتم مراسم الجنازة يشرع المهرجون فى إضحاك أهل الميت ومشيعيه كتقليد اجتماعى متعارف عليه..
المصريون ما أحوجهم للضحك الآن.
المصريون أصحاب أكبر ثروة من أوقات الفراغ فلنجعلهم فى حالة عمل دائم أو على أقل التقديرات، فلنسأل أنفسنا السؤال الجاد والساخر معا، كيف يمكننا أن نتمتع بكل ما لدينا من فائض القيمة الذى هو أعلى ما يملك الإنسان الوقت ؟


س ـ هل تؤيد فصل المهام في العمل المسرحي حسب الاختصاص، أن ينفصل المخرج عن المنتج مثلاً أو الكاتب عن كاتب السيناريو وما إلى ذلك.؟ وحبذا لو تشرح لنا رأيك في هذا الأمر
.


ابراهيم :- يمكن القول ان المسرح فن شامل و جامع للفنون الأخرى ، كالتشكيل والموسيقى و الازياء ، والفنون ابتكارات انسانية سعت لتفسير الفلسفة و المجهول ، تفسيراُ منطقياً ، والمسرح من اهم تلك الفنون التي تعتمد على عدد من الفعاليات ليكتمل خطابه من نص و اداء و اخراج وسينوغرافيا وهي التي نحاول ان نعرف بها ، فهي تحمل معنى المسرحية و مكملة لفكرتها ومعبرة عن احداثها ورؤيتها ، بعد ان كان يقتصر على ( ديكور وازياء وماكياج و اضاءة ) ، فالسينوغرافيا احتلت دور متميز في العمق التفسيري للافعال ، فالانسان يمارس سيونوغرافيا خاصة في حياته اليومية بوسائل بسيطة تتفاوت من فرد لاخر ، كالديكورات والاكسسوارات المنزلية واختيار الملابس والوانها ، فهو ات من تصور ذهني وتدخل الوعي المباشر ، وهو بذلك ينحو الى رغبة او حاجة الى تجميل محيطه ليعبر بذلك عن اشباع حاجة وجدانية.
السينوغرافيا مثلا على مستوى التخصص المسرحي ، تعد اهم العناصر الفاعلة في العرض المسرحي ، وهو كمفهوم حديث الاكتشاف على صعيد المسرح عريق الوجود كمصطلح فمفردة ( saenograhile ) تعني فن الزخرفة و التزيين وتكنيك الرسم في عصر النهضة ، والسينوغرافيا بمفهومها الحديث هي اكتشاف وليس اختراع ، وذلك لامتداد رحلة تصميم المناظر واعداد الخلفيات ، والتطور المتسارع ادخل تأثيرات حركية ، وبقي هذا المصطلح صار ملتبساً ، بسبب اتساع استخدام اداواتها التعبيرية وتداخل الحدود العملية والنظرية ، لكن رغم كل ذلك يعاني مسرحنا من بقاء السينوغرافيا كمصطلح ولم تدخل فى حيز التفاعل الفعلى مع بقية عناصر التشكيل المسرحى

س ـ لك قول أصبح يدلّل على شخصيتك: (نصمت لا نعطي برهاناً على البطولة، فلقد ولى زمن البطولات، ولتكن ثورة خرساء..) هل تعتقد حقّاً أن زمن البطولات ولى.؟ وهل من جدوى لثورة خرساء.؟ كيف تعلل لنا ذلك.؟


ابراهيم : - أنا صرت أتمثل قول الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم : ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فقلبه وذلك أضعف الأيمان ) وأضعف الأيمان قد يكون أقواها لو تنامى وتجذر وصار ثورة خرساء فى رفض الشائن والظالم
العالم صار قوة تتمترس خلف كل أسلحة الدمار الدمار الإنسانى الشامل فى مواجهة ثوار التغيير وأبطال الحرية فعلا أو قولا ، وصارت الحرية أبهظ ثمنا
الهم ثقيل
والتجربة مرة ومؤلمة
والدم المراق على الطريق خلال ما انصرم من عمرى غزير ، وما تبقى مازلت أنزفه
هل أتمنى عليك أن تعفينى من مواصلة النزف؟


س ـ أتمنى أن تحدثنا بما تشاء، وقد تكون نافذة لتقول ما لم تُسأل عنه.


ابراهيم : - ثورتى الخرساء قائمة
تستمد زيتها من روحى وإيمانى بجدارة الإنسان أن يبقى حرا مصانا كريما كما كرمه خالقه
لازلت قادرا على الكتابة
لازلت قادرا على النزف
وأنا سعيد بما أكتب وما أنزف
وللحقيقة
أنا لا أكتب إلا وحزن قوى يحركنى
تستغربين؟
إذن
كيف لك أن تصفى هذا العالم بأنه هادىء وجميل وهو محاط بهذا الكم من الخراب والدمار؟


س ـ أخيراً أديبنا الكبير الأستاذ إبراهيم جاد الله لك كل الشكر، وقد تشرفنا بالحديث معك، ونتمنى لك كل نجاح

.
أن تكون مغايرا فهذا بديهى
وأن تكون مختلفا فذاك من أمور جدل الحياة
وأن تكون مؤتلفا فهذا عندى غاية عزيز منالها ، ولا تجدر إلا بالمؤتلفين حقا
وإن كانت المصادفة الصرفة قد ألقت بى فى طريق هاتين الرائعتين لمياء البجاوى من تونس التى بها انطلقت وتجاوبت وتفاعلت مع واقع عروبى كامل
ومع صباح حسنى الشاعرة ذات الأبق الخاص والحميمى
فإنى مدين لهما برؤية هذا الإئتلاف البهيج فى كوكبة رائعة من أصدقاء النور والحرف الأسمى على صفحات أوتار التى ترنو بلحن عربى باذخ الفرح
أسماء لا حصر لها تزين الخارطة الإبداعية العربية
وما أبهجنى أكثر هو الاحتفاء بالراحل زكى العيلة ومشاهدة عدنان كنفانى وبشرى أبو شرار شقيقتى وشقيقة أخى الشهيد المناضل الذى قضيت فى حديقته عامين كاملين ماجد أبو شرار ، وغريب عسقلانى حين يوجه رسائله لزكى العيلة، ودكتور حسين على محمد وفاطمة بوهراكة وابنتى الحبيبة لبنى المانوزى وكثيرين مبدعين ومبدعات
أسماء مبهجة تجعل كل الأوقات مناسبة للفرح
فإلى كل الأوتار الشادية فى أوتار
قلبى ومحبتى

تنبيه هااااااام:
هذا الحوار خاص بمجلة أوتار العربية ويمنع منعا باتا نقله الى اي موقع اخر دون ذكر المصدر...

الثلاثاء، 19 أغسطس 2008

ها أنت الآن تشعلين مصابيح الروح















الجمعة

الخامس عشر

من شعبان المبارك

عام الف وأربعمائة وتسع وعشرون

والموافق الخامس عشر

من أغسطس عام ألفين وثمانية

من هجرة الرسول العربى الكريم وميلاد السيد المسيح

وعند التاسعة مساء

اشتعلت مصابيح الروح

لتعلن أن هذه الساعة مناسبة أبدا للبهجة

حين أطل وجهك الحبيب ( مرام ) إبنة الحبيبة (مى)

***

لكما ما تبقى من العمر

حين سيكون أجمل بصحبتكما

ويارب العباد استجب

فأنت العزيز القدير المانح المعطى الكريم

إمنحهما الستر

وارعهما

واجعل كل أيامهما القادمة مملوكة للآخرين من خلقك

يكونا فى عون من لا عون له إلاك

وإجعلها يارب هذه ال (مرام )

زهرة تفوح بالشذى والطيب

وبيتا يفتح أبوابه بالمحبة للآخرين

وامنحها نعمة أن تكون نافعة لغيرها قبل أن تكون لنفسها

يارب

يارب


السبت، 16 أغسطس 2008

هاهى الراوئية والشقيقة وشقيقة المناضل الشهيد ماجد أبو شرار تحتطب من جراحها لنار محبتها





فى رحيل درويش
بشرى أبو شرار





أنا وبشرى فى مئوية جامعة القاهرة يناير 2008

في هذا المساء البارد , دق هاتفها , فأزاح هوة الصمت من حولها , حملته في حنايا كفها , فكان صوت " الأبنودي " :
_ رحل محمود درويش ....
لم يستوعب عقلها فكرة رحيل سيد الكلمات , وأول من حبت على أبيات قصائده , تحدب على ديوانه , تنقل من أبيات شعره على صفحات لتحفظها , تفك ضفائرها , تعدو بين ممرات الوديات , ترافقها كلمات كتبها " يطير الحمام ... يحط الحمام ... "
منذ سنوات طويلة , رأى درويش نفسه كما كان يقص علينا ...
يحكون في بلادنا .....
يحكون في شجن ....
عن صاحبي الذي مضى ....
وعاد في كفن .
وتسقط دمعات معذبة من روحها , ووردة تتدحرج , لتصل مسطح قبر يعتلي أعلى قمة جبلية في " رام الله "
هل تطمع في وردة تشبه وروده ؟.......
هل تطمع بان يكون يوم رحيلها مشابها ليوم رحيله ؟..... وتطرق كلمتها الأفئدة كما هو ؟....
كيف يتركها " درويش " ويمضي عبر طريق الرحيل الأبدي , بعد أن ألقى إليها بتعويذته " على هذه الأرض ما يستحق الحياة "

في هذا المساء البارد , رقد جسد " درويش " وقد غطته أمه بتراب من بلدته شالمنسية " البروة "
كان يخاف موته , خجلا من دموع تذرفها لرحيله ...
عاش عمره ممزقا بالحنين , لخبز أمه , وقهوة أمه , ونار توقدها , ليظل الوطن دافئا بين ضلوع الغائبين , المنتظرين لأكفان تعيدهم , كما عاد في هذا اليوم لأعلى قمة جبلية ....
تعود الوردة المتدحرجة ,لتتوقف على مسطح قبر لرجل لم يمت ....يعو السؤال :
_ هل يصحبها " درويش " في يوم يشبه يوم رحيله , حيث هناك ؟.....
أم تظل واقفة خلف زجاج نافذتها , ترقب ارتطام الموج بالصخر , وكلمات قد تعيدها إلى هناك " يطير الحمام .... يحط الحمام "

الأحد، 10 أغسطس 2008

أليك ياسيدى المحمود الدرويش أول رسالة من قريتك لابتسام أنطون


تمزقت المسافات من تذاكر رحيلك

.... ابتسام أنطون

سلام عليك يا آخر المرسلين لنا قضية ..وطنا ..وجودا ووجدانا..
كم من الورد نحتاج زرع أرضك التى فقدت إستحقاقها الحياة دونك سيدي المحمود الدرويش
أبحثك في طيات الدوواين لنستمر الحياة بروحك سيدي ..
أبحث الكم الكافي من الحزن في العالم ..أجمعه لأبكيك كفايتي ..أنا جزينة جدا ,تختلط دموعي وحروفي ..فقدت يقيني الآني فور وصول خبرك. عزلك الجسدي عنا ..أيها الروح الأزلية التي تأبى فراشا مزمن السبات ..
ياإلهي ..
هل للموت ترجمات أخرى تنسينا وقعه..
هل من نعي أكبر يعطينا مصداقية الفقدان ..من نحن دونك ..كيف نأمل فلسطين ونقرئها ونعيشها دون جديدك ..
لماذا تركت الحصان وحيدا؟ لماذا تركت الفراشة بأثرها تترنح في جروحنا وتزيد وجعنا
أتعبني هذا الكم من الحزن بصمته وبوقته الضيق ..
أشكرك أيها المحمود لما تركته لنا من قصباات هوائية تمنحنا نفس آخر لموتنا اليومي ..
أشكرك لما تركته لنا من أرض تخصب من خطاك ..
أنا في لفافة قريتنا جديدة ..أجاور أهلك وعشاق ليلك ومراقبين زياراتك الخاطفة ..لكنني ونحن في القرية في غيبوبة خبر عزلنا الحياة عنك ..
نجهل سبل التعبير عن حزن يليق بمجدك يا آخر المرسلين ..
لماذا انتم أيها الدرويش محمودا وأخوته زكي وأحمد مصابون في القلب ..لماذا وأنتم تعرفون انكم القلب لنا ..وكيف تخفق الحياة بنبضها دونك يا سيدي ؟
هل أعرتنا موتك السريري بأسلاك وهمية للحياة ..
لا نريد ان نكون هياكل تتحرك دون روحك ..
إمنحنا أيها الأله مزيد من شعرك لنقوى ..ونشعر بيقين الزمن المتقدم الى الوراء ..
إمنحنا يا نبينا قصيدة لا تنتهي بأواخر دواوينك الشعرية ..
تربيت بمقولي أن الأنبياء لا يموتون ..لماذا مت ؟ولماذا تفارق حياتنا ونحن نستحقها معك وهي تستحق الحياة من أجلك .
أتعبني الحزن الصامت سيدي ولا أعرف سبل التعبير اللائق لمجدك .
القرية صامتة ..ومنشغلة بجهلها عن حجم الخسارة ..
كنا سنفرح لسماع خبر مجيئك المباغت السري مرة أخرى في زيارة أهلك .. منحت من أنفاسك نفسا جديدا لشقيقك أستاذي أحمد درويش أطال الرب بعمره وذهبت أنت وحدك ..ووحدنا لنلاقي حتفنا ..
من ألأمس وأنا في غمام السؤال ؟
هل من خبر معاكس ينفي الحقيقة ؟
سيدي من أمن بك وإن مات سيحيا
..

باحترام

:ابتسام أنطون

–جديدة –

بلدة الشاعر النبي محمود درويش شمال فلسطين

الاثنين، 4 أغسطس 2008

مقدمة كتابى الأخير ( الإبحار فى ذاكرة الكتابة )





هل لك أن تغامربتعريف الماء بالماء؟
أ د/ محمود إسماعيل








حين عرض علي الصديق / إبراهيم جاد الله فكرة التقديم لهذا الكتاب الثمين راودني شعور بالاستحياء علي الرغم من تقديري لكتاباته الإبداعية والنقدية ويرجع تحفظي لعدة اعتبارات
أولا: ما يربطني به من صداقة وطيدة في زمن عز فيه الأصدقاء وما أكنه لشخصه علي المستوي الإنساني العام من تقدير وتوقير بما يجعل شهادتي مجروحة بالحتم برغم حرصي الشديد علي التزام الحيدة والموضوعية وهي خصيصة اكتسبتها من عملي كمؤرخ.
ثانيا: ما جري عليه العرف من التقديم لكتابات المبدعين والكتاب المبتدئين الواعدين وهو أمر يند عن كون المؤلف ذا باع طويل وتجربة ثرية في الإبداع والكتابة نشر الكثير من انجازاته التي حظيت بتقدير النقاد والقراء في أقطار المشرق والمغرب علي السواء.
ثالثا: جرت العادة أيضا أن يكون كاتب التقديم من مشاهير المتخصصين في الحقل المعرفي الخاص بموضوع الكتاب وهو شرط لا يتوفر لشخصي المتواضع كمتخصص في التاريخ الإسلامي في حين أن موضوعات الكتاب تضرب في مجالات معرفية شتي ومتنوعة كالسياسة والأدب والتاريخ الحديث والمعاصر والتراث والحداثة ... الخ
مع ذلك لم أجد مناصا من الإقدام علي المغامرة بعد مزيد من التردد والإحجام لأخوض في بحر من المعارف اشهد بأنني وقفت منها موقف التلميذ لا الأستاذ موقف المتلقي وليس الناقد.
جمع الكتاب بين دفتيه مقاربات نقدية لعدد من النصوص الإبداعية خصوصا في مجال الرواية لمبدعين عرب ومشارقه ومغاربة وأجانب غربيين ،أوروبيين ولاتين هذا فضلا عن كتابات تراثية يتمحور معظمها حول المناهج والمقاصد في آن ،بهدف الكشف عن الهوية العربية الإسلامية من ناحية وقراءة الواقع العربي المعاصر المضبب بسحب الماضوية من ناحية أخري
ناهيك عن الغوص في قضايا الواقع الراهن والمنشطر بين الماضي والأخر،بهدف التماس حلول لها في تخليق مشروع نهضوي مستقل ومنفتح وأصيل في آن.
وفي هذا الصدد لم يكتف الكاتب بالتعريف والرصد الوصفي بقدر ما طمح إلي التحقيق والنقد والتقويم والتثمين نظرا لما تميز به من طول باع وسعة اطلاع كانا من وراء تأهيله لتقديم نص جديد يحتاج بدوره إلي مقربة نقدية جديدة بالمثل.
ثمة كتابات تعالج قضية العرب المحورية الممثلة في القضية الفلسطينية ،قدم الكاتب بصددها شهادات كتاب من اليهود المنصفين،في مواجهة كتابات عربية معاصرة منحازة لدعاوي الصهاينة بما يكشف عن (مفارقة)تسترعي النظر والتحليل .
وفي الإطار ذاته عرض لكتابات غربية وأخري عربية حديثة ومعاصرة تنطوي علي المفارقة عينها ،خصوصا ما يتعلق ببعض كتابات المفكرين والمبدعين المغاربة ،ممن اعتبرهم الكاتب بحق رديفا استشراقيا.
وفق رؤيته العميقة ومنهجه النقدي أيضا وقف علي أخطاء – بله خطايا – بعض الدارسين العرب المشهورين الذين قدموا تأويلات للإسلام بمعزل عن تاريخيته ،والانكي إسقاط ذلك بصدد تثمين الفكر والايدولوجيا الإسلامية المعاصرة.
ولم يكن اختياره جزافا لبعض الموضوعات الخاصة بالاثنيات والطوائف المهمشة في بعض الأقطار العربية بهدف تعرية المخطط الأمريكي الصهيوني المزمع تحريره لإعادة رسم الخريطة العربية المعاصرة وفق تأسيس كيانات(قزميه) عرقية ومذهبية ،ووفق منظور إنساني ومتميز عرض لبعض التجارب التاريخية الإسلامية التي حققت مبدأ التعايش السلمي بين الملل والنحل المختلفة، كرر علي دعاوي المتحاملين في الغرب علي الإسلام والمسلمين. كذا مقاربة كتابات حداثية عربية برهنت علي أن الإسلام يلفظ المفهوم الثيبوقراطي للدولة بما يزكي علمانيته . من هنا كان انتقاده اللاذع لكتابات عربية أخري علي النقيض تبرر العولمة بمفهومها الامبريالي باسم الديمقراطية والحداثة .
وفي مجال الأدب عرض المؤلف لحشد من الروايات لعدد من المبدعين العرب المعاصرين خصوصا، من المغاربة عموما ،ومن المغاربة المتفرنسين علي وجه الخصوص،معرفا بإبداعاتهم وناقدا الشوفينية ونشاز بعضهم،مفسرا ذلك بطموحات ذاتية للقفز إلي (العالمية) علي أنقاض الهوية الوطنية والقومية ولكم كان منصفا للحقيقة التاريخية في انتقاض بعض الإبداعات العربية عموما التي تجنت علي التاريخ باسم الأدب.
في مواجهة هؤلاء وأولئك عرض لبعض إبداعات نسويه عربية،وفلسطينية خصوصا ملتزمة وحداثية في آن،مفصحا عما تردي نظرائهم من (المتغربين) في مهاوي آفة الانبهار بالغرب .
علي أن إخلاصه لهويته القومية لم تحل دون مقاربة نصوص تكشف عن تردي الواقع العربي المعاصر وتطمح إلي محاولة تجاوزه ،برغم ما تشي به من عدمية وعبث.
كما اثبتت نماذج أخري تزكي إمكانية الجمع بين الأصالة والحداثة كما هو حال اليابان حاليا.
وإذ عرض لإبداعات تشهد علي طابع (الاستبداد الشرقي ) فقد قابلها بآخري تشي(باسطرة)الغرب ،برغم دعاويه عن العقلانية ،منبها إلي أخطاء وأخطار (الايدولوجيا) في آن. تلك التي وظفتها الصهيونية لخدمة أغراض سياسية بامتياز.
وحين نعي علي المثقفين والمبدعين العرب انزلاقهم إلي المراهقة الفكرية والجدل السفسطي النظري ،تعاطف مع الشعوب التي تكابد من جراء طواغيت الداخل وغزاة الخارج .
وبديهي أن يقدم الكاتب أنموذجا روائيا مصريا شاهدا علي تلك الحقيقة – رواية جمهورية الأرضين لأحمد صبري أبو الفتوح – مستهدفا تبيان دور مصر التاريخي في قيادة العالم العربي للانعتاق من الأزمة نحو النهضة.
لذلك - وغيره – كان المؤلف علي درجة كبيرة من الوعي وهو يختار نصوص كتابه هذا ،لتكشف عن أسباب وتجليات تلك الأزمة من خلال الفكر والإبداع معا ،عسي أن تكشف تلك النصوص عن خطورة التحدي، ومن ثم إمكانية الاستجابة .
من هنا لا نبالغ إذا ما اعتبرنا هذا الكتاب احدي وسائل المواجهة في معركة مفصلية تحدد نتيجتها مستقبل العالم العربي لقرون تالية.
أما عن الجانب الفني في مقاربات المؤلف نصوصه المنتقاة ،فلا ندعي إمكانية الكشف عنه . وحسبي أن اشهد له - - كمتذوق ليس إلا – بالاستمتاع بما قرأت وما قرأته يعد في حد ذاته نصا إبداعيا متميزا للنقاد وحدهم مشروعية تثمينه والحكم علي مقارباته النقدية باعتباره مبدعا متميزا في مجال الرواية والقصة القصيرة ،ومهتما بشؤون المسرح والشعر، وقامة عالية في حقل اللغة العربية وآدابها الكلاسيكية والحداثية سواء بسواء.
أما عن أريحيته ودماثة خلقه ونبل شمائله ،فهو مما لا يتسع المجال لذكره ، اللهم ما يتعلق بانعكاساتها علي ما يكتب.وعلى ما يأخذ بيد الآخرين.
خلاصة القول، أن الكاتب في مضمونه ومحتواه عصارة أفكار جد صائبة في حقول معرفية متعددة ومتنوعة تجعله جديرا بالتقدير والتوقير.، وأرى فى ابراهيم جادالله . صديقى الكاتب والفنان كل ذلك.




السبت، 26 يوليو 2008

ماجد ينام باكرا أم يرحل باكرا ؟





ماجد ينام باكراً؟أم يرحل باكرا؟



ماذا فى قصة ( المعطوب ) لابراهيم جادالله؟



صورة من أرشيفى لماجد
قبل مرضه بسنوات
فى عربة قطار وحيدا
رنا شلهوب بيروت*



في كومة النعاس الذي يلف جداول الصحو وسبق الرؤيا
ووسط ضجيج المسافات ووهج الانتظار وصراخ لوجع ولادة حياة جديدة ، ليست كنسق تضاريس الروح .
يجيء الكاتب صديق العمر الطويل والألم الأطول ابراهيم جادالله من مصر متأبطاً دموع الحب والموت والرحيل السرى المتسرب فى الروح ،/ و الذي تربص بالجميل الوهاج ( ماجد / إبنه ) وأسره على غفلة من الحب والحنين والعناق والقبل.
ماجد الذي مرض منذ وقت.. فلذة من قمر، من شمس وحكاية، روح طيف أجنحته تطاولت الى (الفوق) حيث المدى سر الأوان والكون
متسع المرايا
ذاكرة وجد وشم على مسام الجسد.
ماجد الذى ينام باكراًفى قصة ( المعطوب) المنشورة بالصفحة الأد بية الشهيرة بصحيفة الأهرام القاهرية يوم الجمعة ثانى أيام عيد الفطر 11من ذى الحجة من العام 1425 الموافق21من كانون الثانى من العام 2005 ، هى مرثية الأب المكلوم لماجد المغادردوما.
الشاب اليانع الذي هوفي أعتاب الحقبة الثالثة من عمره، خرج قليلاً قبل مغيب الحقبة الأولى من زمن حضوره الدنيوى الشائك ، حيث كانت خارطة العرب مكانا يعج بالكثير من اصدقاء أبيه.. أراد ماجد أن يسلى أباه بالمدينة الفاضلة التي عاندها.
ترك وراءه كل ما طاولت أصابعه ، وهوى في طريق يحفظها كما ملامحه،لكنها خانته... تركته جسداً ممدداً في حطام المفاجأة التى أتته على طريق المرض المزمن فى المخ 0( المعطوب) هذه المرثية التي تؤبِّن الحلم و البراءة، والشرايين، والمولودة الجميلة الرابضة هناك على تخوم وجع الولادة لزمن يصيبه العطب ، أوهكذا تأمل الزوجة المخدوعة فى صبرها، تحتضن ماجد والحنين.
قصة هي المآب وتربتها عجين الوجود وجذر الحياة.
هي مرثية الأيام التي تختار فواجعها على غفلة دون إنذار او مساءلة، حملت الحكمة والسفر، خلعت جلدها المسفوك دمعاً والمسفوح بالوهن، وإرتدت اثواب الوهم في العمر وفي المسافة في المتاهة وفي الموت، في السلامة في سكون الليل الذي يلملم عن سغب الأنامل الحان الشجن. هي مرثية الهزيمة التي هى آخر نوافذ الرحيل ولا لقاء بعده.
مرثية الوقت الذي لا وقت لديه لينتظر أو ليعد بحلم آخر.
ماجدينام باكرا ًفى حكاية الذى سيعود حتما في الذاكرة وفى الوطن المطعون بسيوف ابنائه ، المعطوب هو الأخر ، أو كانه هو، والشمس التي ترنو من قرنة الكون الى كون تنسرح كينونته في مسارب السماء ومخارج الارض،0
( المعطوب ) كلمات من رماد ومن صباح وعصافير وشظايا وتجاعيد وأزقة. قيامة عدمية لوهم اليأس وولادة الحنين القاسى كالطوفان ، إعتراف سرابي ستارته رغبات مقموعة على شرفة الذات،حقائب رحيل الى اللاأمكنة، ومدن ورقية تنهار عند أول قبلة، إحتراق شجر في غابات البراكين، وصايا طفولة تنداح في أزقة العمر والايام في الروح في الوداع حيث يقول:
ما قال لك الأطباء أن لا أمل في شفاء وحيدك الذكر ، لأن نوباته من نوع عصي علي الدواء ، وأن تكرارها يجهز علي خلايا مخه واحدة إثر الأخرى ، وأن يوماً لن يطول مجيئه ، سيخرج فيه هذا المسكين من دنياكم كما دخلها .. من يومها ولم يهنأ وحيدك بطفولة كأقرانه ، لم ينعم بلذة استمتاع بحياة مثل من تتابعينهم يروحون ويجيئون ، أسلمت الأمر لله راضية ، وبإرادة صلبة يتفتَّت لها نسيج روحك في صمت ، راودتك نفسك الأمارة بكل طيب ، وبعد إنجاب بنتين خلفه ، أن تحملي في أحشائك ولرابع مرة ، علَّ وعسي أن تأتي بطنك بذكر ، يكون عوضا عنه وسندا لأخيه في شدائد العمر الآتي وحوالك الأيام ، وبرغم ميْلك الفطري لما طرحته بطنك من إناث ، وحين اقترب موعد وضع ما تحملين . كنت تستيقظين مبكرة من نوم ليلى متقطع ، تصعدين سلالم الدار ، تسبقك بطنك المتكورة علي حلم ووجع لذيذ ، وتهبطين ، ثم تعيدين الصعود ، وما تقلعين عن تلك العادة التي أوصتك بها جدتك لأمك إلا بعد أن يهدَّك التعب ، فتنامين ، وبأية ساعة يأتيك سلطانه .)
(، وما بين سكون مخادع لهذا الجسد وانتفاضاته ، تعود إليه نوبات من غيبوبة ساكنة ، لتذبل فيه الحياة ، فيروح الرأس ومعه الجسد في نوم عميق ثقيل ، فلا تري في هذا الكيان البشري المشع الملامح منذ مولده قبل أكثر من عشرين سنة سوى صوت أنفاسه . منتظمة ، هادئة ، حفية بأن تكون لشاب ، معافا لم يصبه ضرر ، وتخرج زفراته من فتحتي منخاره وقد تخلصتا – في تكرار النوبات – من كل ما كان يملأهما ويسدهما من مخاط ، وتظل إحدى لوازم هذا الجسد . في يقظته أو في نومه وهو راقد علي جنبه الأيمن دائما )
(وعندما عادت بها جدتك إليك مصحوبة بغبطة أختيها ، كنت ما زلتِ مستلقية وقد أغمضت عينيك ، تعضِّين بشفتيك في نوبات الطلق الأخيرة المخرجة للمشيمة ، وبرغم منك همست أن تناولك إياها ، لتضعيها عارية علي ثديك الدافئ ، وتغمضين جفنيك علي حُسنها ، وحٌزن النظرات الطالعة من الراقد بالسرير المجاور ، وفي حبتى عينيه تلمع بسمة شفيفة 0) .
يبقى ماجد ، هو جسد الأرض و ترابها و أشجارها ونباتها و دفئها وبردها، كل الأشياء الموروثة منذ زمن الولادة الاولى. والنطفة الاولى ، الصرخة، الضوء الذي شع في مرايا الكون، فكان الوجود والعدم وكانت رحلة الحياة على كف كرة تدور وتدور خارج العناق والولادة.، وخارج الحلم العصى.
إنه الحزن الذي لا يقدر المطر على محو آثاره ولا مستحضرات التجميل الغالية. يا للحزن الذي يترك آثاره على شرايين القلب. فتخفق منتفضة كالمضخة المنهكة ويهدأ حينها نبض الحياة. والوسادات مبللة بدموع كلمات ابراهيم جادالله الصامتة ، مرتين ، مرة أولى منذ أن ترك دنيا العرب الفلسطينى العاشق ماجد أبو شرار ، وكان ابراهيم قد واعده : أن يسمى إبنا له مايزال فى رحم المجهول بإسمه محبة وعناق نضال ، وقد كان ، ومرة حين أخبره ( ستيفن كير ) الطبيب الألمانى فى فرانكفورت : أن لا أمل فى شفاء وحيده ، ولو بعد حين ، هكذا يشعر ابراهيم بضياع ماجد ، وبنومه باكرا ، مرتين ، وهل يحتمل القلب – وإن كبر – كل هذا الألم مرتين ؟
ابراهيم جادالله، يمتطي لغته كما يمتطي حقيقة الأشياء.
يفلسفها على مدى التنفس والشهقة، هي لغة التشظي والبراكين والحرائق والآلام والوطن وطقوس الولادات، يجيء، الينا كاتب الأمكنة الحبيبة والدمعة الحبيسة والعصافير المهاجرة الى اكوان بعيدة، الى اللاأزمنة حيث شعلة الضوء فراش الدفء. والسماء قبة الصلاة.
ينام ماجد ابن ابراهيم جادالله فى قصته ( المعطوب )على خاصرة القرية ميمماً نظره باتجاه الإبتهال والنور، اصرار على استحضار الدموع والوجع.
دموعنا ووجعنا على ولد فقدناه منذ اعوام فى جبة مرض لعين ، ووالد فقد حشاشة الروح. الألم صعب وجميل ، فهو يحملنا الى عوالم نتلمس فيها مآبنا وبيوتنا المنتظرة على كتف التراب مروراً ببرزخ الحد الفاصل بين الارضي والسماوي وصولاً الى الابدية الساكنة عروج الروح الى الروح.المعطوب رسمت دخان إنفعالاتنا، لأنها الذات التى قالت للكلمة ان ترسم لهاث المطر. الكون يزلزل أبجدية الكلام...لا كلام بعد الآن في حضرةالمعطوب0
ملك،أقوى ، وحق لإبراهيم جادالله ان يكتبه
وحق له ان يرتاح بين حروفه.
حروفه الناطقة فى غيركلمات، غير نطفة حياة أرسلها لى عبر البريد:

لماجدالمرتقى فى الوجع المباغت **


لكً السمواتٌ كلها
ولى أرضُُ واحدة بعيدة
***
لكً الغيماتٌ كلها
ولى قطرة باردة عنيدة
لكً الأهازيجٌ أثيرة
ولى غنوةٌ بائسةٌ شريدة
لكً غيماتُ من الندى
ترسل فيضا فى قلبكً المدمًّـى
من ضوء وجه حوريةِِيباغت العاشقين
ينفذ من بؤبؤ الروح
يفكٌّ طلسم الوجع/ الفرح/ البلاد المسافرة

***
فيكَ يعلن الحداد على
حزنِ / أرقِ / كتابِ / وسادةِ / روحِ ميِّتة
باولا / ماجد أبو شرار / يمنى / كافكا / لوركا/ رامبو
يشق لكً من عٌريِه
قميصا/ صحيفة / حرفا تخثّر فى مؤخِّرته النداء المبهم
السؤال الملهم المرتجفُ
ويعوى فى وجه سكونِك :
أن هذى روحٌ شقٌّها الألقُ
لبلادِ لم تبتهج لكً يوما
وشقِّ لمقبرة تفتح جناحيها لعائديمارس اتِّزانه اليومى
ابتلع الأحقاف
فكان عبورُ الندى مكابِرا
*******************
فى بيروت *
كان الوجع ممزوجا بالفرح ونحن ثلة من أصدقاء لك نعانق حروف المعطوب وحروفك
==
لماجدالمرتقى فى الوجع**
مدخل قصيدة نثرية طويلة للصديق ابراهيم جادالله