ما أجمل الأنا لك يابغداد

ما أجمل الأنا لك يابغداد

الأربعاء، 28 يناير 2009

قاسم مسعد عليوه فتش عن جماليات القبح فى قصصى

جماليات القبح فى ظهيرة اليقظة
جماليات القبح فى ظهيرة اليقظة
جماليات القبح فى ظهيرة اليقظة



قاسم مسعد عليوه













الواقع محير،متلبس ومتشابكة خيوطه إلى حد الاندغام.وهى خيوط وفيرة متنوعة الفتائل،منها الغليظ والمسترق،المضفر واللازب،الجاف والدبق،اللين والصلب،الناعم والشائك...إلى مالا نهاية.
ولأن المشهد الواقعي مزدحم بالتناقص،غاص بشواهد الإتلاف والإختلاف،فإنه من الصعوبة بمكان-ولعله من المستحيل الفصل بين ملغزاته وبساطاته،مفارقاته ومقارباته،هدوءا ته وتفجيراته فعلى قدر ماهو مؤلم على قدر ماهو ممتع.وبقدر ماهو مبهج بقدر ماتشيع في أرجائه الأحزان.
قليلون هم القادرون على مواجهة هذا المشهد لتحليل عناصره،فالمشهد شديد التعقيد،والنجاح في الإمساك بطرف فتيله واحدة من نسيج أستاره ليس سوى احتمال مخايل،لكنهم يحاولون،وفى مقدمه هؤلاء المحاولين الأديب المتسلح بخيالة ولغته.بالخيال يحاول الإحاطة بالخفي المخبئ،وباللغة يعمل على المناجزة.وهى إذن علاقة كشف وتحريك تلك التي تجمع بين الأديب وواقعه.
وإبراهيم جاد الله فيما يبدو استوثق من الأمرين واطمأن
إليهما فاختار القرية الريفية عالما لكتاباته القصصية،ومضى يقوم بالمهمتين معا:الكشف والتحريك.
ولأنه واقع ثربمعطياته على مافيه من فقر،جميل على ما به من قبح،زاخر بالبراءة ومتخم بالآثام،فقمين به أن ينقطع له ويعكف عليه.فعل هذا في مجموعتيه السابقتين:(مشاهد من حكاية الوابور المقدس)ومن(أوراق موت البنفسج).وتأتى المجموعة التي نحن بصددها(ظهيرة اليقظة)لتعلن استمرار كاتبها على نفس الجادة..القرية التي نالها من المدينة ترف التعالي أو بلهنية العيش الرغيد .ولندخل مباشرة إلى عالم الظهيرة ويقظتها.


(2)


أول مايلفت الإنتباه في المجموعة ازدحامها بالبشر،فكأنهم أناس القرية المصرية جمعهم المؤلف بثقافاتهم وعاداتهم وأعرافهم،فإذا بالقصص تضج بالحياة،وإذا بنا أمام شخصيات من لحم ودم حقيقيين.ربما هي شخصيات متعبة.ممتصة،مريضة أو مذهولة،لكنها مع هذا وربما بسببه،هى شخصيات حية،تمارس سذاجتها ولؤمها،طهرها وعهرها،أحزانها وأطراحها فى بيئة صادقتهم وصادقوها،حنت عليهم بقدر ما حنوا عليها،وشوهتهم بمانالها-منهم-من تشويه.ولنلق نظرة فاحصة على بعض هذه الشخصيات.
فمحمود المريض بأعصابه العاوى كذئب فى قصة(قلب أم)المتربص بنظراته التى لاتستقر وأنفاسه التى لاتهدأ، محمود هذا الذى يصرخ بآرائه فى النساء قبيحا ومتبذلا،يربكه هم وقلق وهو يترقب مجئ أمه بالرغم من إيذائه الدائم لها،لكنه لايمك إلا أن يأخذها بين ذراعيه ويرتمى فوقها على أرض العنبر والدموع تغمر عينيه. ربما تشابهت تصرفاته وتصرفات غيره من العصابيين،لكنه يحمل خصوصيات المريض الريفي صفات ومسلكا،فيتميز عن غيره ممن يعانون مثلما يعانى.
وفتحى عنان النصاب الذى غش الحاج زين خادم دورة مياه الجامع الكبير(فى قصة جمعة الأرانب)وباع له حمارة مريضه مالبثت أن نفقت،فقامت بينهما حرب لا هوادة فيها.وفتحى عنان نصاب يمتلك دهاء الثعلب ودناءة الضبع ففي غمرة حربه مع الحاج زين لاينسي أن يحمل سكاكينه الحدادى ذوات القبضات الملفوفة بخرق قديمة ويأخد طريقه إلى حيث ألقى اولاد الحاج زين بجثة الحمارة ليشق الجلد عن البطن ويسلخها بحذر وتفنن فيسهل للكلاب نهش اللحم الوردى ويعود هو بالجلد محمولا فوق ظهر حماره مغطى بالقش والخيش ليجففه فوق سطح داره ويبيعه لصانعى الغرابيل.
وحماد صاحب المقهى الفقير إذ يتواجه ونبيل الحلاق فى قصة (من فصول اللذة والألم)لأنه كسر كرسي الدخان ويدخل معه فى معركة كلامية طاردا إياه من المقهي لأنه(هيطفش البغلين اللى بيجولنا)ولما لم تتشفع نبيهة زوجته لنبيل هذا(الحجر اللي يكسره ياحماد يجيب غيره)ينهرها(داهيقفل بيتى)ويعايرها-وهى زوجته-بأمها مغسلة الموتي،ويفرد جسده الذى تكور من السعال والضحك وأصوات مؤخرته ويهب واقفا فتقدر نبيهه أن حمادا سيعلمها الليلة ويتشاجر،فلما سددت يدحماد اللكمات إلى الأمام ثم تلتها صفعات،كانت هي تحجب جسد نبيل الحلاق خلفها،وكانت تصرخ صراخها المعهود الذى تجد فيه متعتها.
والمتولي الأعوار القصير الربعة مدكوك اللحمفى قصة (المتولى والكلب)الذى تتوافق رغبته فى التخلص من بوله،مع رغبة الكلب الأعور-هو أيضا- ويأتيان نفس الفعلة فى نفس اللحظة فى نفس الظل الذى يسقط تحت الشباك المواجه لباب قهوة حماد الواطئ. المتولى كان يتسمع صوت اندفاع بوله وبول الكلب الساخن كان يبلل مؤخرته العارية،لما أفاق فزع وانتقض يتدلي سرواله منه وبوله يتطاير أمامه وعلى ساقيه يلتصق،نفس الأمر حدث للكلب فنبح وهاج واعتلى ظهر المتولي وجر جلبابه من على قفاه والمتولي يتشبث بيديه فى حديد الشباك الواطئ ويصرخ مستغيثا.
المجموعة محتشدة بالشخصيات الضاجة بالحياة المتعثرة فى فقرها مثل الشيخ عبد العزيز مدرس أول الفقه بالمدرسة الثانوية الأزهرية وطلابه سعيد البلقاسي ومختار ابن المقرئ وصبري بن السيد وهدان فى قصة (صباحية الخيول)
شخصيات كثيرة تنبض بالحياة بالرغم مما تعانيه من فقر وإدقاع وظلم.حتي الشخصيات غير المسماة كالجد والأم والأب والحبيب والحبيبة وجامع التبرعات الكهل وبائع المجلات الأعراج وعامل المزلقان مبتور الذراع والمذهول والطبيب والممرضة والتومرجي وعامل النظافة..جميع هذه الشخصيات،وغيرها،بالرغم من نمطيتها وأدائهالأدوارهاالوظيفية،فإنهاتتمتع بحضورإنساني جعلها تقترب من الشخصيات المسماة فى الإقبال على الحياة والتأذى من تصاريفها.


(3)


وجميع الشخصيات المحتشدة فى المجموعة-مسماة أو غير مسماة- شخصيات فقيرة من الناحية الإقتصادية.حتى الشخصيات المتوسطة كالمعلم والطبيب وأصحاب العزوة هى أقرب إلى طبقة الفقراء منها إلى دنيا شرائح الطبقة المتوسطة.
والفقر-كما يبين فى قصص المجموعة- ليس مجرد حرمان اقتصادى وإنما هو أسلوب حياة له ثقافته المكونة من خليط غير محدد النسب من العوامل الاقتصادية والسياسية والنفسية.
وانثروبولوجيا.فإن لثقافة الفقر سمات رئيسة منها وجود أنماط خاصة للحياة العائلية،ومنها أساليب التنشئة وعلاقات الذكورة والأنوثة مع شيوع قدر ملحوظ من اللامبالاة والاستسلام،الذى قد يحتوى على بعض حالات التمرد،باعتبار الفقر قدرا لأفكاك منه.وعلى غير هذا الإتجاه الأنثروبولوجي تلعب الأبنية الإقتصادية والسياسية دورا رئيسيا فى هذة الثقافات التى نري نماذجها العلمية فى سلوكيات شخصيات ابراهيم جاد الله علي تنوعها وحبها للحياة.وقد تنطوى سلوكيات بعض الشخصيات علي ثقافات فرعية ربما بدت على شئ من التضاد مع ثقافة الفقر التى نقول بها مثلما هو الأمر مع شخصية الراوى المتعلم الذى ظهر فى أكثر من قصة ويحمل سمات المؤلف ذاته،لكنها-أى هذة الثقافات الفرعية-ليست سوي تنويعات من ثقافة المجتمع الفقير تتصف بفرادنيتها وعشوائية مسلكها،فضلا عن أن التناقص الذي تزاوله ليس بالتناقص الجوهري.


(4)

ومن الأمر اللافت أن الطبيعة الريفية البكر لم تأت بحالتها الخالصة داخل قصص المجموعة،فهي دائما مختلطة بعناصر من البيئة المشيدة حيث الشخصيات مستقرة أو تائهة بين دروب ومسارب المشيد الراسخ.علاقة جدلية قد تبدو بسيطة فى مظهرها العام,لكن التدقيق فيها يظهر مدي تعقدها المساير لتعقدات الواقع قلنا بها في المقدمة,فقد تعاظمت قدرات النظم والمؤسسات والمبانى وحاصرت هؤلاء الريفيين البسطاء في بيئتهم, لم تفرق بين العامل والهامل,الصحيح والمريض,الساذج والمتخابث,فما عاد أى منهم بقادر على التعامل معها بالفطرة التى جبل عليها بعدما نال هذه الفطرة ما نال.
وتعلن البيئة الطبيعية عن نفسها بسفور داخل المجموعة لكن فى الأماكن الخارجة عن حدود القرية لاسيما عن رؤوس الغيطان العامرة بالفول المزهر,والقنوات المليئة بالمياه الرائقة,ومع الدورات الكرونولوجية كساعات العصارى والنهارات الباردة أو المشمسة,إلا أن وضوحها يعتريه بعض من شحوب,ربما بسبب قلة المساحات التى تحتلها داخل قصص المجموعة ككل وهيمنة النظم البشرية عليها.
ومع هذا،فالقصص جميعها تاخذ المتلقى مباشرة إلي قلب الريف المصري بطقوسه وتقاليده وسلوكيات أفراده.
حتى الحيوانات لها حضور معوض لشحوب عناصر الطبيعة. فالعصافير تحلق فوق الغيطان وتحط على أفاريز الشبابيك الخشبية,والحمير تروح وتجئ بأحمالها من البشر والأشياء,والأرانب تقتحم على المصلين صلاتهم,والفئران تنصب لها المصائد,وفضلات الدجاج والأوز متناثرة هناك وهناك.الديوك تصيح والكلاب تنبح والجاموس يمضى والحصن تتلاقح.
إذن فالحضور الريفي المدعم لمكانة البيئة الطبيعية لايحتاج لثمة إعلان,لكنه حضور غير مكتمل لأنه حضور قلق منهزم فى داخله,حضور محشور فى عنابر المستشفيات والعيادات الريفية قصتا قلب ام وسيماء المواجهة),المساجد(جمعة الأرانب)والبيوت(قصص مربعات الضوء المعتم- غيوبة, تهيؤ)المدارس(موقعة سعيد البلقاسي)المقاهي(قصص مربعات الضوء المعتم,من فصول اللذة والألم ,وساعة من نهار عادى)الميادين الصغيرة(علاقة),الأوتوبيسات استحواذ القطارات (ضوءخاطف فى العاشرة مساء وتحقق احدي الخيبات)..وهكذا.

(5)

وللسخرية ملامح تبين بين ثنايا كثير من قصص ابراهيم جاد الله,وهي سخرية تعود بنا إلى المباهج البدائية على النحو الذى قال به سيجموند فرويد وتذكر أيضابما قال به هنري برجسون فالسخرية-بما تتضمنه من اضحام-نشاط انسانى عقلاني وجماعي,فلا سخرية ولا ضحك الا فيما يمس الناس,ولن يكون لها وجود إلا إذا توجهت إلى العقل المحض,لأن تحققها مرتبط بالصدي الذي تحدثه فى بنتية المجتمع .ومعالجات ابراهيم جاد الله الساخرة لاتخرج عن هذا الأمر.وهو يسخر-دونما مبالغة-من مظاهر اللامبالاة فى المجتمع الريفى المصرى،ومن الانبساط النفسى الذى جبل عليه أفراده ، ومن حالات الذهول المصاحبة للتخلف.
ومن ناحية أخرى يراهن ابراهيم جادالله على أن الشخصيات الريفية المهمشة التى تبدو فى ظاهرها مستنيمة ومستسلمة لعوامل القهر والاستلاب ، ما تزال قادرة على إتيان فعل الابتهاج.
هى إذن روح الدعابة التى تشى بغضب وتذمر مكبوتين وهذا ما تنبئ به قصص (جمعة الأرانب) حيث يتخلى المستمعون لخطبة الجمعة عن الخطيب الثائر وتهديداته ويلتفتون إلى الأرنبين اللذين اقتحما عليهم المسجد ، و(المتولى والكلب) حيث يعتلى الكلب الأسود الأعور نظيره البشرى فى واحدة من أكثر قصص المجموعة سخرية،(موقعة سعيد البلقاسى) حيث لايحتمل سعيد هزر زميليه لسماجته فيرفعهما من مجلسيها ويصادم جبهتيهما بعضهما بالبعض أمام دهشة أستاذهما المعمم ،(وصباحية الخيول)حيث يصيح صلاح محمسا حصانه للتعجيل بعملية التلقيح ((الله اكبر ..صل على النبى ..شد يا واد شد يابركة )) ، وفرحة التلاميذ الذى وقفوا ليشاهدوا عملية التلقيح واحتضان صلاح لرقبة حصانه منتشيا بينما يسكن السعيد رشاد ماء بارد من علبة سمنة قديمة فوق مؤخرة مهرته بينما تتحول حمحمة الخيول المربوطة إلى عرباتهاإلى صهيل ...وهكذا .


(6)

تقودنا هذة السخرية إلى الطريقة التى عالج بها ابراهيم جادالله مظاهر القبح فى واقع القرية المصرية . وعادة ماتثير جماليات العمل الفنى الذى يتناول مظاهر القبح الواقعى نقاشا قد يتماس والمحاكمات الفلسفية لاعتماد كل من الجمال والقبح على الحكم الذوقى .والحكم الذوقى ليس حكما منطقيا ، لاقوامة معرفية له ، ولا ينطوى على باعث نفعى .لكن ليس ثمة ما يمنع _على نحوماذهب (كانت) من إلحاق هذا الحكم بعد صدوره بصيغة نفعية .معنى هذا أن للذوق وظيفة إجتماعية ،لأنه هو الذى ينقل العواطف الخاصة إلى الآخرين ويشبع الميل الفطرى لدى الفرد نحو الاتصال بالغير ، وقد شاركه (جادامر) نفس الرأى وأكد على أن نمو الفنى من خلال خبرة الذوق الجمالى هو اتجاه برانى نسبيا، وأن الذوق حس مشترك ، ومن ثم فإن الخبرة الجمالية تنطوى على أحاسيس متصلة بالسياقات الثقافية والخبرات الإجتماعية التى قصرها ابراهيم جادالله على القرية الريفية الآخذة بتلابيب التمدين .
ومن ناحية أخرى لا يشهد الجمال الفنى لصاحبة بأى
ميل حقيقى إلى الخير أو بأى نزوع أخلاقى كائنا ما كان . نقول هذا لأنه كثير ما يتم الربط بين الإهتمام بالجمال والتمسك بمكارم الأخلاق .
نقول هذا حتى لايسارع البعض بإقامة علاقة عكسية بين ما نقول وما أورده ابراهيم جادالله من مظاهر القبح المجتمعى فى قصص مجموعته .
وبصفة عامة فان ما يقال عن الجمال ينطبق على القبح . فالقبح، شأنه شأن الجمال، يشير إلى حكم على شىء أو
معنى ، فعل أوفعل ، بانه ليس جميلا او لايتوافر له القدر الذى يسمح له بان يكون جميلا . وما دام الأمر كذالك ،فإنه يمكن النظر إلى الجمال والقبح على أنهما دائرتان مختلفتان الجمع بينهما وارد . معنى هذا ان الخلط بينهما أمر ممكن الحدوث وهو مايعبر عنه فنيا ((بجماليات القبح)) فى الواقع المعاش ، قد يستتبع إصدار الحكم بالقبح على أمر ما حكماآخر بالنبذ نفيا أو عزلا ، لكن مع العمل الفنى فإن الأمر يبدو على قدر من التدخل لاشتباك القبح مع جماليات الإبداع ، ولعلنا لا نغالى إن قلنا بقدرة المعالجات الفنية الراقية على الإرتقاء بمظاهر القبح ، التى يستبشعها الذوق فى الواقع المعاش ، إلى أفاق من السمو الجمالى إن صح التعبير. ولا يحدث هذا عن طريق التماس مع الجميل من الأحاسيس والمشاعر الإنسانية .
وإذا انتقلنا إلى السرد القصصى فى مصر ، فإنه يمكن القول بأن جله استهدف هذا السمو الجمالى بتقبيح الشائه المستهجن بمختلف تجلياته ، لكن فى حدود علمى فإن اثنين –فقط- من السراد المصريين إهتما بالمنطقة المشتركة بين الجمال والقبح على النحو الذى قلنا به ، وأقصد بهما محمد روميش فى مجموعته القصصية (الليل الرحم ) وصنع ابراهيم فى رواياته (تلك الرائحة ) ، (اللجنة)و(شرف).
إليهما يمكن ضم ابراهيم جادالله بمعامل ثقة معقول ،ذلك أنه تعامل –مثلهما بجراءة مع مظاهر القبح المجتمعى . ومن منظور واقعى فان الجرأة وحدها لا تصيغ فنا جيدا ،وإنما يلزم أن تسهم فى إنتاج معرفة أفضل أو تفهما أعمق أو إدراكا أشمل للواقع ، مع تحقيق قيمة مضافة – إن صح التعبير – للوجدان إحساسا ومشاعر ،وهذا ما يمكن تلمسه فى عدد غير قليل من قصص مجموعة (ظهيرة اليقظة) ساعد على هذا اللغة البرية المطواعة التى هى فى عفويتها بنت بيئتها ، فلا هى مغرقة فى البدائية ولا هى مترفعة مصبوغة بتثاقف أهل التمدين . هى لغة مهمشى الريف فى حالات التحقق والإنهزام ، النهوض والسقوط ، البراءة والدناءة . لغة جامحة قد تشغلها محاولات التخلص من مكابح الثقافات الأرقى ، لكنها بجسارتها وصراحتها تكشف مواطن القبح وتسلمها للمعالجات الجمالية فتقربها من ذائقة الملتقى الذى يقبلها دونما امتعاض أو نفور .
فى القصةالأولى (قلب أم) يصرخ محمد العصابى برأيه عاريا قبيحا ومبتذلا فى النساء فتتوارى المشرفات والممرضات والحكيمات خجلا . وفى قصة (غيبوبة ) تنشغل الأم والأبناء بتوصيل خرطوم حقنة شرجية إلى جوف الأب ويوصلون الخرطوم بحنفية الماء المغروزة أسفل حائط الحمام ، ولما كان تدفق الماء من الماسورة ضعيفا صرخوا فى الأم لتدير موتورا كهربائيا ليشتد اندفاع الماء عند فتحة الأب السفلية فتمتلىء بطنه أو أمعاءه بالماء ، يتململ على إثرها جسده الثقيل وتتسع حدقتا العينين ((فينزع أوسط الأبناءالخرطوم منه لتندفع كرات صغيرة جافة نتنة الرائحة مع اندفاع الماء التى لم تستطع عضلات البطن أن تقبضها ويعقبها سرسوب غليظ من براز مذاب)) فيأخذه أحد الأبناء بين أحضانه
بساعدين قابضين على الجسد الممتلىء ويرفعه من تحت إبطيه وقوفا ويكون الأوسط المدرب قد غسل له مؤخرته
ونظفها تماما ..)). وفى أقصوصة (توائم الألم) تنفتح الغرفة على فضاء سطح إحدى البنايات تبرقشه فضلات دجاج متكورة وأخرى لأوز..خضراء قاتمة . وفى قصة(تحقق إحدى الخيبات ) تشهد دورات المياه تنهدات محمومة لرغبات مكبوتة ، ويلقى التلميذ دفاتره المدرسية على تلة ترابية ويفك سرواله ويصطنع البول التهاما لزمن المسافة الفاصلة بينه وبين المسافة القادمة .وفى قصة(المتولى والكلب) يرخى المتولى إليتيه الغليظتين العاريتين إلى الأرض وتضغط ركبتاه القصيرتان على بطنه التى ليس بها أى استواء فتنقلت من أسفله أصوات ضخمة طويلة متقطعة قبل أن يندفع بوله مكونا أمامه بركة تتصاعد منها أبخرة نشادر حارقة ..بالإضافة إلى أفعال الكلب المماثلة . وفى قصة (صباحية الخيول ) يغمز صلاح بن محمد بهجات لجام حصانه باتجاه مهرة السعيد رشاد فيعاود الحصان دفن رأسه بين فخديها صاعدا ببوزه ومنخاره إلى أعلى المؤخرة وترتعش شفته العليا فوق أسنانه ويحمحم بينما تواصل هى فعل الإنقباض والإنبساط من الخلف تحت الذيل المنتصب،وحركة الأشداق التى تسارعت من الأمام فيفاجىء الحصان الجميع ويعتلى ظهر المهرة وبروز غليظ من خلفتيه ، أسفل بطنه، مصوب فى اتجاه صحيح .وفى قصة (ظهيرة اليقظة) خلعوا عن الراوى المريض كل ملابسه وألبسوه ثوبا مشقوقا من الخلف فظل ظهره عاريا ، حتى المؤخرة لم يتركوا شيئا يسترها والبنات النحيفات يرحن ويجئن من حوله ، ويتذكر السيد ابن خالته عائشة الذى نام مع حنيفه بنت البرقوقى نومة الرجل مع امرأته ((وكان دمها سايح يملا حوضها )) هو نفسه فعل فعلة ابن خالته هذا لذا هو خائف أن ينال نفس المصير .
ربما شوه التلخيص جسارة الأسلوب وطزاجة اللغة وهما علامتان بارزتان فى أغلب قصص المجموعة. يضاف إليهما جودةالسبك وظرف العبارة وإتقان الصورة واضطراد الإيقاع مع نبو عن لإبهام والشرح والتفسير والخطابة فسهل بذلك عن الملتقى معايشة الواقع الذى تعرض له المجموعة وكل منها مزية فى حد ذاتها .
لكن لم يخل الأمر بطبيعة الحال من أشياء نذكر منها التقدمات التى صدر بها المؤلف بعض القصص فبعضها من الأفلام الغربية .. الكوميديا الإلهية لدانتى (جمعة الأرانب) وقصيدة لأوراق الميته لجاك بريفيير (قبة النهار) ورسائل رامبو إلى أهله ومثل روسى (ظهيرة اليقظة) وجميعها فى رأينا لا تتوافق والأجواء المصرية الريفية للقصص التىتصدرتها .

وبعد، هل توافقوننى إن زعمت أن إبراهيم جاد الله قد تمكن فى (ظهيرة اليقظة) من الإمساك باهداف فتيلة تدخل فى تكوين خيط غليظ من خيوط واقع ريفنا المصري ؟..
إن قلتم ربما فهذا هو النجاح بعينه .

الأحد، 18 يناير 2009

حاور ظلالك . لاحرج



حاور ظلالك

لا حرجْ

واطلب من الله الفرج

والزم ثغور الزهر

واصمت برهةً

لا تنزعجْ

فالهامش المسموح همسٌ خافتٌ

في الصدر ....؛ أو في المُنعَرج

لا ترفع الصوت

احترس

فعساكر السلطان في الميدان

بادرهم بآلاف الحجج

وامدح ركائبهم

تبسّم

دون أن تبدي امتعاضاً

كي تكون مواطناً في عمق حظوتهم ولج

قبّل ثرى الأعتاب والأيدي...

وقف

صفق

لأصحاب الجلالة والفخامة....

أعلِهم فوق المهج

بل طُفْ بحضرتهم

تمسح بالقصور وبالرتب

دون أن تدنو فتقلق نومهم

مثل "الهمج"

يا أيها المحزون... لا...

لا تبتئس

وامسح دموعك فابتسم

واخلد إلى نومٍ يريحك

حالماً بالصبح يأتي مشرقاًٍ بعد اللُجََجْ

ثمَ اشرب الصمت الأُجاج ولا تبالي بالصدى

فالغيث بالدمع امتزج

والليل آذن بالرحيل

فعش سعيداً بالقناعة

الاثنين، 5 يناير 2009

جمال سعد يشاهد تداعيات زمن مر



إبراهيم جاد الله و ( تداعيات الزمن المر ) :


فى " تداعيات الزمن المر " تجدك منقاداً لتعايش عالم الانتخابات والصراع من أجل الحياة ، وتتعرف على نماذج بشرية مختلفة ترقب لحظات توترهم وقلقهم وفى النهاية مصائرهم وهي تتحدد وسط لوحة فنية كبيرة متشابكة العلاقات ، زاخرة بالحركة ، مضمخة بالألوان ، غنية بالشخصيات فى بناء فني شامخ ، يعزفه الكاتب باقتدار ليثير وجدان القارئ ويحرك فكره.
وما إن تنتهى التداعيات ( القسم الأول من المجموعة ) حتى ينطلق القارئ إلى التجليات البشرية ، فيجد نفسه فى خضم حركة المجتمع مواكباً لأحداثه الجسام يقدم الكاتب بعضاً هو ما تفرزه مباشرة ، والآخر ما يمكن اعتصاره من المجموعة أما المحتوى الذى تفرزه المجموعة لأول وهلة يتمثل فى :
1- الاحتماء بالبيئة الشعبية والريفية ، وإطلاق آمال وأمنيات أهل هاتين البيئتين : ( ولما أتت الجاموسة على كل ما أمامها ، رفعت ( مهجة ) دلو الماء البارد إليها فى المزود الطيني فاجترعته عن آخره ، وصلت على النبى بعلو صوتها الذى زال احتباسه تماماً وبان التماع جسد الجاموسة ، وارتخاء ضرعها فى مؤخرة بطنها المدورة ، وأحست ( مهجة ) بانخلاع قلبها وهي تفك مقودها وتسحبها خارج الزريبة حيث ( عبد الستار ) قد أعد نفسه ، وهيأ حماره ، والندى ساعتها يكسو حارات البلد وحسها النائم ، ونثرت على عتبة الدار دعوات طازجة بالخير الكثير والرزق الوفير ، وتيسير العسير ، وأن يكفيها الله شر العين ، والمختبئ الدفين .. ) قصة تجليات عبد الستار ص 94.
2- التعبير عن الذات المستقلة والتى تحاول الفكاك من أغلال العمل أو الزمن أو القهر : ( .. وليس اعتياداً أن تأتي لمنزلنا عبر التليفزيون ، وابني الصغير متذمر إلى بعيد ، يأبى حرمانه مشاهدة أطفال الشمعدان ، ولا أصغي لبكائه الصادق ودموعه الغزيرة فوق خدين رقيقين ، وأمه التى تزوم فى غيظ مكتوم..) قصة تجليات فيروزية ص 113 .
3- محاولة الفكاك من أسر الماضى والانطلاق إلى عوالم أرحب يراها الكاتب هي الأفضل .
4- العوالم المستقبلية التى يراها الكاتب غير واضحة وتبدو غائمة .
5- الدوران حول الذات ، والاستفادة بما تفرزه من أحلام ، ويتضح الاحتماء بالبيئة فى قصة ( تجليات عبد الستار ) حيث نشعر أننا مكدسون داخل سوق نبحث عن الأمن والأمان ونحاول أن نستر عوراتنا ونسد الطريق أمام الآخرين من الجيران ، وفى قصة ( واشتعلت حرائق كبيرة تمهيداً لحريق أكبر ) تجد أولئك الذين وقفوا فى ظلام الزقاق عند دار عبده بن رجب القريشى ، الذى دفعه شبح رجل مندفع فى إرتباك ، أما التجليات ( الجزء الثاني من المجموعة ) تجد القرية / الملاذ لم تعد ملاذاً ، وإنما أصبحت غولاً يهدد الصبى الباحث عن الستر ببيع الراديو يريد أن يسد جوعه ، والانفلات من قبضة الحاجة ، والفكاك من دائرة العذر ، وقلة الحيلة تبدو واضحة فى كثير من قصص المجموعة والعوالم المستقبلية التى يراها الكاتب وتبدو غير واضحة لديه ، ولم يقدم لها تصوراً تبدو فى مرقومات القصة الأولى ( تداعيات الزمن المر ) و ( تجليات الصبى ) و (زمن عبد الستار ) و ( المنقذ ) و ( المحاصر ) و ( العجوز ) . أما الدوران حول الذات فتشترك فى هذه الخاصية كل قصص المجموعة تقريباً .
لقد استطاع ( إبراهيم جاد الله ) أن يعبر عن المكان الذى اختاره تعبيراً صادقا واستخدم جل أدواته ليصل بنا إلى المحتوى ، أما المحتوى الذى لا يبدو واضحاً من أول قراءة ، فيبدو مغايراً لما سجلناه ، ذلك أن الفهم الكامل للقصة لا يعتمد فى الأساس على ما يقوله الكاتب فقط ، وأن ( الذاكرة ) الجيدة لهذا الفن الرائع ينبغي أن تحيط علماً بظروف الكاتب وبالمناخ العام الذى يعيش فيه وبمدي ما يحصل عليه الكاتب من حرية فى التعبير وحرية فى نشر وإذاعة هذا التعبير ومدى تقبل المجتمع لما يقوله الكاتب ، فالأديب لا يجلس ليكتب ما يشاء كما يشاء فكما أن للغة التى يكتب بها قواعد وقوانين من أول شكل الحرف إلى شكل الجملة إلى علاقة كل كلمة بما حولها ولا يستطيع كاتب مهما كان أن يفلت من هذه القواعد وإلا أصيب فى مقتل مثل الذى يمسك بالمسدس ، ولا يعرف إلى أين صوبه وربما صوبه إلى قلبه ، فأداة اللغة لها قواعدها التى تفرضها فرضاً على كل من تسول له نفسه بأن يتعامل بها وكذلك فن القصة و أيضا ( الوسيط ) الذى تعيش به تلك القصة ، فلا يكتب القاص لنفسه ، بل يرويها للناس والناس لا تقف تحت أشعة الشمس بالساعات من أجل الانصات إلى كاتب قصة لذا لزم وجود وسيط يدفع بقصة الكاتب إلى القارئ .. والمراد هنا المحتوى الفكرى للكاتب الذى يسقى قصصه منه ، فإن الفكرة الواحدة فى القصة لا تكفى للدلالة على فكر كاتب القصة أي مذاكرة هذا الكاتب مذاكرة متأنية غير متعجلة ، وإذا كان الفن هو الإيجاز ، فقد كان الكاتب موجزاً استطاعت لغته أن تحكم إيقاع العمل بقوة وشاعرية موفقة بين المتكلم والمخاطب والغائب و ( إبراهيم جاد الله ) تميزه بحس لغوي جيد وتميز اللغوي يعطيه درجة سبق علي أقرانه لأن من الشائع الآن الوقوع فى الأخطاء ، وعدم الاهتمام بمكونات اللغة والاستفادة بمفرداتها ، ولا تكاد تغيب عناية ( إبراهيم جاد الله ) الفائقة باللغة حتى ليمكن القول بأن ( التجربة اللغوية ) هي العنصر الأساسى فى هذه المجموعة . ولما كانت تجربة الشخصية تجري فى الأغلب داخل عالمها الباطني ، وتبدو ضعيفة الصلة بالعالم الخارجي ، فإن غيبة التوازن بين العالمين يضخم شعور الشخصية بما يعتمل داخلها من خواطر أو انفعالات أو هواجس لا يكبح جماحها شئ من حقائق الواقع ومعاييره ، فتنطلق على لسان الشخصية فى ألفاظ وعبارات ومجازات تتسم بكثير من الجد والمبالغة فى الدلالة وتجئ أحياناً مفاجئة أو غير متسقة مع أسلوب الكاتب المنساب .
:

الأحد، 4 يناير 2009

محمود خضرى قرأ لى ظهيرة اليقظة





قراءة فى ظهيرة ابراهيم جادالله
محمود خضري يس







أصدر الأديب إبراهيم جاد الله مجموعة قصصية ظهيرة اليقظة عن إبداعات معاصرة في كتاب من القطع المتوسط يحتوي علي مائة وستين صفحة. يضم العديد من القصص القصيرة.
صور فيها الكاتب البيئة القروية وما يعتري الإنسان فيها من مشكلات وقدمها للمتلقي في تقنيات متعددة. تتحرك علي مسارح أحداث قصص المجموعة شخصيات بلحمها ودمها وأفكارها. أراد الأديب إبراهيم جاد الله أن يبث إلي المتلقي علاقته العميقة بالبيئة الريفية. فاهتم بهذه البيئة حتي وصل إلي درجة التوحد معها. وقد وظف مفردات هذه البيئة توظيفا يثري القص. والاهتمام بالبيئة المحلية من مشاريع المبدعين العالميين فقد اهتم فوكنر بيئته المحلية وسار في نفس الدرب الذي سار فيه غيره من أدباء أمريكا الجنوبية الذين اهتموا بهذا الجانب الخصب الحيوي. انتقي الكاتب كلمات تنأي عن مفهومها الاتفاقي المسبق تحفل بالطاقات الإيحائية. فالكاتب يمتلك وعيا بمعطيات الكلمات الدلالية. وبرع في تآلف هذه الكلمات التي انسجمت في جمل تعطي كثيراً من الإيحاءات. اتسعت مساحة المرأة في قصص المجموعة. فقدم الكاتب للمتلقي فعاليتها في المجتمع وجوانب انتمائها إلي أفراد المجتمع فهي تحب ابنها وتعاني قسوة المسافات بينها وبينه من أجل أن تقدم له ما يحتاجه من طعام "قصة قلب الأم". تثور ضد كل من يمس ابنها بسوء "قصة طرح الليل". تحمل علي عاتقها هموم الأسرة وتقوم بدور رب الأسرة بعد رحيل ابنها البكر والزوج "قصة قمر الزمان المستحيل".
جاء العنوان ظهيرة اليقظة كلمة ظهيرة هي الفترة من الوقت التي تكون فيها الشمس في منتصف قبة السماء وهذا الوقت تصل درجة الحرارة فيه أعلي درجة فهي وقت القيلولة ويرمز بها إلي الآلام والقلق والخوف أما اليقظة فهي العلاقة الجدلية بين أفراد المجتمع وهذا العنوان اختاره الكاتب وهو أحد عناوين قصص المجموعة التي تدور حوله القصص من حيث محتوياتها. تعتمد المجموعة علي السرد الخالص وقليل من الحوار. كرس الكاتب اهتماماته في رسم الشخصيات التي التقطها من الواقع كاشفاً عن أعماقها الثرية بشتي ألوان الضوء ومنحنياتها المتعددة. وقد جاء ببعض الشخصيات الهامشية الخارجة عن المجتمع والقانون مثل شخصية الرجل العاري في "قصة قبة النهار" فالكاتب يصوغ إبداعه من عالم الإنسانية.
رسم الكاتب شخصياته كاشفاً عن عوالمها الداخلية وهذه سمة المبدع الذي يمتلك أدواته القصصية عبر القراءة وتحليل النصوص الأدبية. وقد أشار إلي ذلك الدكتور الطاهر أحمد مكي في كتابه القصة القصيرة - دراسة ومختارات قائلا:- "يستطيع القاص الجيد في نطاق الحدود الدقيقة التي تحكمه من الزمن والحدث والعاطفة والاهتمام بالحيز المحدود أن يجعل الإبداع النفسي عابراً علي الدوام.. بسيطاً وواضحاً من خلال خيوط قليلة عادية. ولكنها صلبة دائماً وفي خدمة القص".
من القصص ما جاء علي لسان المتكلم مما أدي إلي وجود فرصة أمام الكاتب للغوص في أعماق الشخصيات وتحليلها. ومنها ما جاء علي لسان الغائب وهذا يجعل المتلقي يشاهد عوالم شخصيات الكاتب ويحدد مناطق الخصوبة فيها. أسقط الكاتب العوالم الشعورية للشخصيات علي الأمكنة فأثري أحداث القصص. فالشريط الساحلي المنجل من طرح النهر يغطيه العبث عندما يمر عليه الرجل العاري في قصة قبة النهار "كان دائم الرواح والمجيء علي شريط ساحلي منجل من طرح النهر بجوار المشاية يلوكه تحت قدميه ومخلفا تحتها قبضات لدنة متحمرة من الطين". فقد أسقط الكاتب عبث الرجل العاري علي المكان فبدت للمتلقي عبثية المكان. أحب الكاتب أن يوقظ شعور المتلقي ويعده لفهم مضامين بعض القصص في المجموعة عبر استخدامه المفارقة التصويرية ففي قصة قلب الأم يصف الكاتب محمود المريض بمرض نفسي يستقبل أمه بأقذع الشتائم "ويظل يلاحقها بأقذع الشتائم التي تخترق شرفها حتي يختفي شبحها خلف البوابة الحديدية البعيدة". وعندما جاءت الأم بعد غيابها راح الابن يحضنها والدموع تملأ عينيه ما إن لمحها هو من بين دموعه علي باب العنبر حتي انتقض صارخاً يدق جبهته بقبضة يده وتعالي نشيجه وهو يأخذها بين ذراعيه ويرتمي فوقها علي أرض العنبر والدموع تغمر وجهيهما "قدم الكاتب للمتلقي البعد النفسي في أسلوب بسيط وواضح ففي قصة قلب الأم حزن الأم علي ابنها وخوفها عليه أثر في شخصيتها وانعكس ذلك علي ملامحها الشابة التي تتغضن. وإذا كانت المرأة تحرص علي ابنها وتخاف عليه وتحزن علي ما أصابه من مرض في قصة قلب الأم فالمرأة ثائرة ضد كل من يمس ابنها بسوء في قصة طرح الليل. فهي تستدعي لابنها الشرور والأوبئة إن جاهرها بعصيان. لكنها تثور ضد نعيم الذي داس علي بطن وعظام ابنها بالجزمة الميري" ولما كان نعيم يدخل دارنا في صحبة الرجال يستسمح أبي كانت أمي قابلته عند الباب وضربته بالجزمة البلاستيك "إن حب أم مندور لابنها يدفعها إلي عدم ضربه" هي تحثه أن يعود ضارباً لا مضروباً. تحبه فاعلاً لا مفعولاً به أو فيه.
إن ظيهر اليقظة لحافلة بجماليات القص. فهي تجذب ألباب القراء وتستحق الاهتمام من قبل نقاد الأدب
.

فى لحظات الموت الأول أسماء هاشم كتبت لى من غزة


من غزة
1
لا وقت لدينا للبكاء
لا وقت لرثائنا
يكفينا .. أن نجد دما
نرقع به موتنا
ونغلق علينا نوافذ النحيب
حتي إشعار آخر للحياة .
2-
بعد كل موت
نحتاج لمعجزة للحياة
و للنجاة
يا الهي ...
أية قدسية لأنفاسنا المتبقية ؟
3-
لا جلد يغطي موتنا
لا جلد نغطي به لحمنا
لا جلد ...
نربي تحته عقدة الخوف
من الموت
4-
فوق المآذن
نقرأ بعض التراتيل علي أرواحهم
لعلها تصل السماء بسلام
دون أن يعترض موته
غارة أخري !
5-
فوق المآذن
نعلن جنازاتنا
..........
وحده الله
ثابت
لم يمت .

أسماء شاكر ... من غزة

السبت، 3 يناير 2009

مقولة الخصوصية والثقافة


مقولة الخصوصية والثقافة

:ابراهيم جادالله

العالم ثقافات.. ثقافات تتلاقي وتتفاعل وتتلاقح، ولكن أيّاً منها لا يلغي خصوصية الأخري إلا إذا كانت المشيئة غير الثقافية تهدف إلي احتواء ثقافة ما تمهيداً لإزاحتها عن الحضور في ميدان الفعل الثقافي، وهي إزاحة تقصيها ولا تفنيها لأن الذاكرة الجماعية تمثّل مناعة ثقافية ضد الفناء.والثقافة ثقافات.. لا تلغي إحداها خصوصية الأخري حتي لو دارت جميعها في فلك قومي واحد، لأن الفضاء الثقافي القومي وعاء كبير تتنوّع في مداراته الخصوصيات التي تتمايز مع تقادم الزمن وتفاوت التفاعلات.ولنستذكر معاً التعريف الأكثر شهرة لمفهوم الثقافة والذي جاء به أي. بي. تايلور: الثقافة هي الكل المعقّد الذي يتضمّن المعرفة، الإيمان، الفن، الأخلاق، القانون، الأزياء، وأية عادات وتقاليد أخري تحضر في حياة الإنسان كعضو في المجتمع .وإذا ما دققنا مفردات تعريف تايلور وإسقاطها علي الفضاء القومي العربي نجد كثيراً من هذه المفردات تختلف من بلد عربي إلي آخر، الأمر الذي يستدعي ضرورة الإقرار بوجود خصوصيات ثقافية في كل بلد عربي، لأن اختلاف مفردات المفهوم مع واقع الحال يستدعي بحثاً عن مفاهيم أخري أو استخداماً آخر للمفهوم.ولنبدأ من حقيقة أن الثقافة هي ثقافة المكان في المقام الأول، وثقافة الزمان في المقام الثاني. فالثقافة في جغرافيا صحراوية غير الثقافة في جغرافيا جبلية، وفي مناطق ساحلية غيرها في مناطق برية، وفي مناخات جليدية ليست كما في مناخات جافة. أي أن لكل مكان ثقافته التي تتشكّل خصوصيتها من عناصر طبيعة هذا المكان دون سواه، وإذا ما أضفنا إلي ذلك كون الزمان متبايناً في بلداننا العربية فإن الخصوصية تأخذ عمقاً أكبر. فالمكان يفرض مواصفات ثقافية محدّدة في التعاطي الإنساني مع الذات والموضوع. والزمن يخلق - بالقطع - ثقافته، لأن الزمنية تقع في صلب عناصر تشكلات الثقافة. كما أن الزمن الحضاري يلح في استنبات ثقافته، والزمن البدائي لا يأتي بما يتبدّي في الزمن المدني، والحضري غير البدوي.ومن هذا وذاك: العراق غير مصر، ولبنان غير السعودية، وعُمان غير تونس، والجزائر غير اليمن، وسوريا غير السودان، والمغرب غير قطر.. وهلم جرا. ففي بلد مثل العراق يُستشكل القول بثقافة عربية: (الثقافة العربية في العراق)، لأن في ذلك تحديدين تعسفيين:أولهما: تحديد الثقافة العربية في العراق بمعزل عن المكونات الثقافية العراقية الأخري، وهو تحديد غير ممكن في أجواء وظروف طبيعية (علي أساس أن الحرية هي الطبيعة) لا يتسيّدها عنف الاحتواء والإقصاء والشوفينية.ثانيهما: تجاهل الخصوصية العراقية التي يشكّل فسيفساء ثقافتها تنوّع حضاري وقومي وعرقي وديني وطائفي، وهو تجاهل يقود بالضرورة إلي الاستبداد الثقافي اللاهث خلف الاستبداد السياسي.وأعتقد أن من العبث والتعسّف أن يتم تجاهل التداخل الثقافي بألوان مختلفة في نسيج المجتمع العراقي: من عرب وكرد وكلدان وآشوريين وفرس وشبك وسواهم، ينحدرون من مشارب دينية مختلفة: إسلامية ومسيحية وصابئية ويزيدية ويهودية، يتفرعون في طوائف دينية عديدة: سنة وشيعة وبروتستانت وأرثوذكس وسواهم، ينقسم سنتهم وشيعتهم إلي مذاهب.إن مثل هذا التشابك يفرز بالضرورة ثقافة أخري هي غير ثقافة بلد عربي آخر، غالبية سكانه مسلمون سنّة ولا يوجد فيه مسيحي واحد. كما أن الإرث الحضاري السومري والبابلي والآشوري والكلداني للعراق وتفاعله مع الجوار الفارسي والتركي يهيّئه لئن يتبلور ثقافياً علي غير ما يكون عليه المجتمع المصري - علي سبيل المثال - الذي يستند في حضوره المعاصر إلي حضارته الفرعونية. هذا إضافة إلي ما تخلّفه التغيّرات الكبيرة في العصر الحديث من انعطافات في مجري تبلور الخصوصيات الثقافية طبقاً لمستوي التفاعل مع هذه التغيرات.ونعود لنقول أن الحضارة العربية (الإسلامية) هي الفضاء الأوسع الذي تدور في فلكه خصوصيات كثيرة، لا تتنافر مع هذا الفضاء ولا تنسلخ عن فرادتها الثقافية.وإذا تحدثنا عن الوسيط و المحمول فإن اللغة العربية، في هذا السياق، تمثّل وسيطاً لنقل المحمول الثقافي بجميع خصوصياته، مثلما هي الحال بالنسبة للغة الانجليزية. واللغة العربية - كما هو معلوم - وسيط حضاري لنقل ثقافات أخري لأقوام غير عربية مثل الكرد (في العراق) والبربر في الجزائر، حيث تعيق ظروف معقّدة كثيرة، ذاتية وموضوعية، اللغتين الكردية والأمازيغية من الانتشار الثقافي كوسيطأما الدوافع السياسية لقراءة الظواهر والأشياء والتمظهرات الثقافية هي - كليّاً - غير عناصر القراءة الثقافية. وما يُراد له أيديولوجياً أن يرسّخ تماسك البلدان العربية ككتلة ثقافية واحدة تحت مظلّة "الثقافة العربية" هو غير ما يفرزه الواقع من خصوصيات ثقافية في المنطقة العربية .وليس مشيناً علي الإطلاق القول بثقافةمصرية وأخري لبنانية وثالثة عراقية، ومغاربية لأن القول بذلك ليس تطاولاً علي العروبة أو الإنسانية ، وإنما هو تصنيف واقعي للثقافة: في هذا المكان بالتحديد.. وهذا الزمان بالتحديد.نقول ذلك رغم إدراكنا لانهيار الحدود الثقافية في العالم أجمع وزحف الثقافات الكبري المتمكنة من وسائل الاتصالات والإعلام والتكنولوجيا. وبدلاً من أن تكون الجغرافيا القومية فضاءً ثقافياً تتحرك فيه ثقافات كثيرة، أصبح العالم كله فضاءً عولمياً تتزاحم (وتتصارع) فيه مختلف الثقافات، تدافع كل منها عن خصوصيتها،