البنية الروائية
ورهان الكتابة الحديثة
في " ظهيرة اليقظة"
للأديب ابراهيم جاد الله
دراسة نفسية بنيويةللدكتورة هلا الحلبي
إذا كان الأدب حال من حالات التصعيد في الجوهر الإنساني المتحوّل باستمرار، فلكل عصرٍ زيه ولكل كاتب بصمته التي قد تشد القارئ وتدفعه إلى الدخول إلى عالمه. و البصمة الأدبية عند ابراهيم جاد الله تبتعد "في ظهيرة اليقظة" _ عن تحليل شخصيات أبطال المجموعة القصصية، وتترك للسيناريو_ أو حركة الشخصيات_ الدرب واسعا أمام هذا التحليل، وكأنّ على هذه الشخصيات أن توضح موقفها من خلال تحركاتها لا من خلال استقراء أحوالها من قبل القاص - الناقد الذي يبقى مهندس رادار يرصد تحركاتها حتى وإن طالت الأقصوصة طفولته. وهنا لا بد من التساؤل: هل وصل بابراهيم جاد الله إلى أن يكون مراقبا حتى لذاته وتحركاتها ويزهد عن التعبير عما يجول في باله ولربما يفضل أن تبقى مشاعره طي الكتمان؟
ثم لماذا نستمتع بقراءة عمل تضج شخصياته بهذا البؤس؟ هل نستمتع عندما نهرب من واقع مزعج ومتخلف نخافه أو ونخشاه؟؟ أم أننا نستمتع عندما نقرأ المشاهد وقد أصبحت حقيقة على ورق؟ وهل هذا البؤس حقيقة واقعة؟ أو بالحري أيهما أكثر واقعية: الواقع الذي تعيشه الشخصية حقيقة ام على الورق؟ ثم أوليس غريبا أن نألف شخصيات لا تحب التعبير عن نفسها ، أنفاً يجعلها مادة تمثيلية مهيأة للتمثيل من غير أن ينقص منها شيء يُذكر، بل وكأنها لا ينقصها لتخرج على شكل تمثيليات تلفزيونية أو مسرحية سوى وحدة الموضوع وحسن التسلسل لتكوّن كلاً متكاملاً وقد تكون أيضا ناجحة في فن التمثيل الإيمائي. ولربما أختير منها ما كان مناسبا ليشكل وحدة تجمعها المأساة بجدارة واستحقاق. ولعل هذه النقطة ليست الجامع الوحيد بينها فقط بل إنّ "ظهيرة اليقظة" مادة روائية تسهل ترجمتها للغات أخرى لأنها لا تعتمد كثيرا على الاستعارات والكنايات والتوريات التي تفقد الكثير من جمالها عند الترجمة ، فلغتها الروائية ببساطتها تنقل إلى لغة أخرى من غير أن تتأثر جماليا أو يجد فيها المترجم كبير عناء. كذلك ونظرا لامتلاك كل لغة عبقريتها الخاصة وقاموسها الذي يتوسع فيه الأدباء ويسيرون في اقتحامه قدما عبر أعمالهم الفنية الأدبية، نجد عند هذه المجموعة محاولة لتقريب الفصحى من اللغة المحكية من غير أن تفقد فصاحتها.
ولعل الكاتب يحاول بإلهامه الروائي أن يجمع أصوات بلده البائسة، وقد ألهبتها العادات والتقاليد فانضوت تحت لوائها صاغرة، تتوجع وتتأوه وتستسلم بخدر لذيذ لبؤسها التي ترتع فيه منذ مئات السنين. يختلط ماضيها بحاضرها قدراً لا قدرة لأحد على دفعه، تتقبله الشخصيات مثلما تستلم الذبيحة في خدر المستسلم اللذيذ.
في ظهيرة اليقظة لا نغفو على أحلام وأوهام بل على حقيقة فجة تكاد بحقيقتها تلهب القلوب: في كل أقصوصة من أقاصيصها شمس الظهيرة الآبي تسطع في عيوننا لتوقظنا من غفوتنا. أمن المعقول أن يرتع مجتمع بهذا البؤس ويقنع؟ وماذا بيده؟ أليس مجبراً على السير في خط أسلافه إلى ماشاء القدر ذلك؟ إنها أسئلة تلح على القارئ وهو يطالع ما يسرده الكاتب بنفَسه الناري، وغزوه المكثف لمجتمع قانع بمصيره مستسلم له، غير مهيأ لمطاردة أي سر من اسرار الحياة . بل إن الطمأنينة تتسرب إلى القلوب من ابسط الأشياء لتنشر في النفس طمأنينة زائفة. ولكن هل من طمأنينة أكيدة غير زائفة؟
يبدو ابراهيم وكأنه يحاول تنظيم الفوضى في بيئة نشأ فيها، يستقرئ بؤس الشخصيات ويحاول ان يبني من هذا البؤس جسرا يعبر ه كل من قوي على متابعة النفس السردي الكثيف في " ظهيرة اليقظة"، إذ لا وقت للكاتب لوصف إيحائي داخلي أو حتى خارجي – إلا ما ندر- بل علينا أن نتتبع تحركات الأبطال الظاهرين والمخفيين في كل أقصوصة من هذه المجموعة ، والغريب أننا نستنتج في آخر المطاف أنّ الشخصية المخفية هي الأهم إذ تحرك خيوط القصة بخفة ولؤم ومهارة ضمن بناء يتغير يتنوع تبعاُ للأقصوصة وخصوصيتها، ولسوف نستعرض بعضاً من الأبنية اللافتة في هذه المجموعة القصصية.
1-البناء الدوامة
في" طرح الليل" كان الكاتب هو البطل المراهق الحائر مع رفيقه مندور الغائب الحاضر،مع مهجة رفيقة غائبة حاضرة أيضا، ولكن الثابت هو ظلم الأهل: الأم والأب على السواء فكان هرب البطل إلى سهر ليلي مع رفيقه ليبدوا ثائرين صغيرين يتسللان نحو المغامرة واستكشاف المحظور: علاقة مشبوهة بين الظالم "نعيم" وشاهد الزور "جليلة": وهنا تتوضح خيوط اللعبة،: شخصيتان حركتا اللعبة فتكون القصة دوامة يجهد القارئ في لملمة خيوطها والتنقل بين بداية ونهاية لاستجلاء ما غمض: لماذا تصرف الأهل على هذه الطريقة الطقسية العنيفة؟ وهل أجدت نفعا مع ابنهما؟ ولماذا تعرض البطل للظلم اصلا؟ ثم أولم يكفه العنف الجسدي والإهانة من الخارج؟ في هذه الأقصوصة يصدمنا تزواج ضوئي خافت ووهاج في آن معا، فنزداد مع الكاتب حيرة.
نعم لقد كانت الشخصية المخفية لجليلة الأثر الأكبر في مسار القصوصة: ظلم أسري وعنف وشهادة زور وتستر على فضيحة. نبحث كثيرا عن العقدة فنعيا إذ تتوالى العقد وتتجمع في عقدة كبيرة يستعصى حلها: لم يجد البطل في الأسرة دفء الحضن الآمن بل على العكس كان الداخل الأسري أشد بطشا من الخارج المعوجّ، فكان لا بد من التسلل والهرب بحثاً تحت جناح الليل عن أمان وهمي..
ونتساءل ما سر جاذبية هذه الأقصوصة؟ أهو في التكثيف الحركي؟ أم في ثورة صغيرين كسرا القيود : قيود الأسر نحو حرية وهمية؟ لقد تحولا من مراهقين حالمين أحلام اليقظة، إلى راشدين يملكان ناصية نفسيهما .نعم لقد وجدا عالم الراشدين ليلياً، وراحا يرتعان في حضن الظلمة ويهربان من بطش مرتقب من أهل أو غريب: إنه الاستقرار الوهمي لعالم يستطيعان أن يمكسا به من غير كبير عناء. هنا لم يكتف البطل باجترار بؤس الواقع بل وجد متنفساً له عبر التسلل الليلي بكل ما يفتح عليه من ابواب غامضة..
2-البناء التصاعدي
في "قلب أم" بطل ظاهر هو" محمود" يمثل شخصية مريضة غير مستقرة وسادية: تحب تعذيب الآخر وإن كان الآخر أمه المجاهدة الشخصية الظل: المحور الذي يدور البطل في فلكه، وهي على عكس ابنها ذات شخصية مازوشية لا تأبه لإهانة ابنها لها يوميا، تلوك مأساتها اليومية.
الكاتب في هذه الأقصوصة لعب على شخصيتين الأولى سادية والثانية مازوشية، فكان تبادل الدور بين شخصيتين: سادو– مازوشية، هنا لم يتحمل "محمود" ترف الشعور بالرضا فلم يستجب لكفاية العطاء الأمومي إلا بعد انقطاع عنها وانتظار لاهب لها، وإن دام يوماً. فكانت الخاتمة عندما تغلب كلاهما على علله في جولة أراحت القارئ، فكسرا طوقهما: السادي والمازوشي، اللذين كبلاهما وصولا إلى اكتفاء عاطفي غمر الشخصيتين وأراح القارئ عقب مناوشات الشخصية المشوهة المضطربة، وأعاد تحديد هويتهما العلائقية الجديدة.
3-البناء التصادمي:
في "استحواذ" يصور الكاتب سطوة التخلف في المجتمع، والأقصوصة تصور انتهاكاً لخصوصية المسافر المرهق بالباص: فالتلوث البيئي تتصاعد وتيرته تدريجيا: حر وألم مكبوت ودخان ويزيد في الطين بلةً تلوثٌ سمعي وضجة سببها اثنان: بائع مجلات أعرج، وجامع تبرعات عجوز، تناوبا الإزعاج بين أول الباص وآخره. كلٌ منها يحاول الاستحواذ على انتباه المسافر طمعاً بشيء من الربح في سعي لاهث " لأكل العيش"، بل وصل الأمر في انتهاك حرية المسافر إلى رمي المجلات في الأحضان، وتحريضهم من جهة أخرى على التبرع لجهة دينية، وتتصاعد وتيرة المشكلة مع تنافس لاهث على الإزعاج وصراع لإقناع الناس مع تنمر واستنتفار وحماس وتحدٍ دفع الإثنين إلى معركة فعلية وقع الأعرج ضحية ..
مع هذا الحصار الجهنمي والتصادم الذي وصل حد الاعتداء الجسدي، بقي الجميع على صمتهم وكأن الأمر طبيعي، بقوا يتفرجون لا مبالين بما يحصل، والشخصية المخفية السلبية كانت شرطيا: ولم يكن الغريب أنه لم يوقف أياً منهما ولم يدافع عن المعتدى عليه ، ولم يحافظ على استقرار وأمان المسافرين فقط بل أنه مشغول بمخالفة أخرى وهي التحرش بفتاة جامعية: فبدل أن يكون جزءا من جهاز يضبط المجتمع ويحافظ عليه سليماً، كان معتدياً آخر، ولعله أكثر خطرا على مجتمعه من أي معتدٍ آخر.
فهل هناك مخالفة أشد وأكبر؟ ولا أحد يتحرك ويمنع هذه المخالفة؟
في هذه الأقصوصة استفزاز للقارئ كأن تتوالى الاعتداء على الحريات والكرامات ولا من حساب؟ أما زلنا في مجتمعاتنا نعيش شريعة الغاب وإن تبدل ظاهرنا إلى لباس ناعم وحضارة زائفة؟
إلا أن الساكت عن الحق شيطان أخرس، والكاتب يبدو وكأنه يناضل في سبيل حريته وحرية الآخرين، أبى إلا أن يكون ناقلا لهذه الحركة التصادمية في مجتمع تنتهك حرية الإنسان، ويعبث حتى رجل الأمن بأمن مواطنيه..
4 البناء الوحشي
لماذا يتمسك الإنسان بذكرياته ويجعلها فلكاً في حياته، فلا يستطيع أن يتخطاها بل تظل عالقة به لا تبرحه؟
في "قبة النهار" رجل نسي جسده وبات مع ذكرياته، ليل نهار، تحول وقد أخذته الذكريات مأخذها، إلى وحش عار يتنقل وسط ذهول أبناء القرية، ودهشتهم وحكاياتهم اليومية التي يتناولونها. ثم ما لبث أن استكان السكينة الأبدية. هو شخصية غريبة ولكنها غير مستحيلة قد نجد منها نماذج في كل منطقة تقريبا، وإن بأشكال أخرى.
لقد استطاع هذا الرجل أن يرتد إلى صورة إنسان وحش يعيش بمفرده ولا تشكل له المجموعة أي معنى، مكتفياً بذاته ويكفيه ما يلقاه من طعام يسير من أحدهم. فهل لكل منا ظل نسيه في الظل؟ وهل يمثل البطل من فقد ظله فراح يبحث عنه على غير هدى؟ أم أننا وفق النظرية الأفلاطونية في عالم الظل ولسنا سوى ظلال لأصل يحركه مجهول لا نقوى على التحكم به؟
لماذا لقيت هذه الشخصية اهتمام الكاتب؟ هل لأنها تعبير حسي عن الوجود الذاتي؟ وهل يغبط الكاتب صاحبهاعلى نسيانه الناس؟ أم على نسيانه جسده؟ أم على تخلصه من كل سمات الإنسان من عقل وعاطفة وغرائز مختلفة؟ فهل الإنسان_ الوحش -دون الإنسان أم أعلى منه رتبةً؟ وهل هو شخصية بائسة أم نحن البؤساء؟ أو بالحري من أكثر بؤساً هو أم الناس العاديون؟
بناء الأقصوصة وحشي لأن من يرتع به شخصية وحشية لا يعني لها الضجر ولا تعني لها أي حاجات أخرى صامت صمت الكهف، مطرق إطراقا مفجعا، ليس بحاجة إلى التعبير عن نفسه، ولا يحتاج إلى تعابير الآخرين: إنه الإنسان الذي سقط أو ارتفع عن مقام الإنسان العادي فلم نعد نفهمه وأضحى لغزا يموت فيدفن معه في التراب.
وإذا كانت الأشياء العظيمة تولد في الصمت، فإن عظمة الموقف في الصمت المطلق حيث تكثر الكلمات وتتكاثر الصور ويحلو الكلام، فالمجال واسع فسيح للتخيلات والأوهام والأساطير. ولعل الجاذبية في هذه الأقصوصة تكمن في أن الكاتب يجعلك تحيا حياة المتنسك الذي حرر نفسه من كل شيء وانطلق، فتترفق لحاله وقد فاجأته الأيام بغدر ما حسب له حسابا، فكأننا معه في كهف من صمت، لا يُفهم فيه كلام ولا يسمع فيه سوى لهاث رجل أبى أن يكون في قوم بل في كهف وحدته يتأمل وحيدا ويموت وحيدا.
5البناء الفني
في "صباحية الخيول" بناء آخر، فهذه الأقصوصة تبدو كلوحة فنية في المجموعة القصصية، تختلف لونا عن سواها باعتمادها السرد والوصف بكثافة، هي ليست صباح الخيول فقط، بل صباح الشهوة لجميع الكائنات عندما تستيقظ وقد دهمها شوق اللقاء بالآخر، والتزاوج. فيها لون طبيعي وتصوير دقيق مع وصف لرحلة التزاوج بين الحصان والفرس بكل تفصيلاتها، وتركيز الصورة على الفرس يتحركاتها الشبقية وإكتمال العملية وسط تشجيع الجميع ومراقبتهم الدقيقة: الأحصنة الأخرى وأصحابها والأولاد وامرأة .
اللافت في هذه الأقصوصة أمران: الأول أن الإنسان حيوان وللغريزة الجنسية أهمية كبرى في حياته، ولعل أفضل طريقة لتصوير هذه الغريزة هو عبر توريتها في حفل مزاوجة بين حصان وفرس، فكان انزياح فني وإسقاط لهذه الحاجة وقد عبر عنها الحصان وأنثاه خير تعبير، فكانت متنفساً للإيماء بأهمية العلاقة بين ذكر وأنثى.
والأمر الثاني، هو تصوير الحياء الذي يتلبس الناس والمشاهدين متمثلا بالمرأة التي ترقب المشهد من خلف جدار: فالشخصية المخفية عبرت عن القمع الجمعي لهذه الحاجة التي يحظر التحدث بها إلا بسرية وتكتم، فقد تربينا على وضع هذه الغريزة موضع النسيان فنغفلها ونحكم إغلاقها بحذر وتحفظ شديدين.
6-البناء الشعري:
في قصص بلون الرماد لون جديد من الأقاصيص، إذ تتكثف فيها العبارة لتكون بسرعة خاطفة ملامح أقصوصة تحفر في النفس وتصل إلى القارئ بسهولة ويسر: في قصص بلون الرماد: ثلاث مجموعات قصصية :ولكل منها نكهتها الخاصة: في ونس:تناولٌ للوضع الاجتماعي والنفسي للأنثى المطلقة في بلادنا، هي قصة تصور الحرقة التي تنتاب من تسير بطريق الطلاق، إذ تبدو اسيرة ألم مزدوج: من الخارج ومن الداخل:إذ عليها أن تغلق باب الخارج الخشبي الذي لا يرحمها، وتغلق باب داخلها المتألم الذي يجب أن يكون خشبيا.
وتوائم الألم، التي تصور الألم الذي يلف الإنسان عندما يتخطى مرحلة الطفولة حيث الالتصاق بالأم، ثم مرحلة المراهقة حيث يعاند المراهق أهله ويسعى إلى التحرر منهم، ليصبح كيانا راشدا، حرا طليقا ولكن مع ألم يعتصره جاء الغربة التي تصيب علاقته مع أهله الذين لا ينسوا سطوتهم عليه ولكنهم يتغربون بالفعل عنه.
وفي كائنات الصمت، يصور المغترب وقد انقسم إلى إثنين: مقيم مع ذكريات بلاده وأهله، ومقيم فعلا في الخارج يحلم بالعودة ويتلوى من جراء هذه الغربة، التي ترميه في أحضان الوحدة بعنف، ليجد نفسه مع صور تتلون وتخرج كائنات صمت، تتبدل مع تبدل اللعبة في كل حين.
فهل الكون هو تلك العنزة الجبلية الشاردة التي لا تفتأ تلتهم وجودنا وتهدر ذكرياتنا وتحولها من ينبوع نقي إلى نهر يهدر في مجراه الطبيعي نحو البحر الذي ينتظرها ليفتك بها وبنهم؟
في هذه الأقصوصة يتحول أبراهيم جاد الله إلى وجودي يعيش مذهب الوجودية المتأمل لمعاناة الوجوديين في اللامعنى الوجودي.
ما يجمع هذه الأقاصيص هو بناؤها الشعري الذي يعطي انطباعاً بأنها على تكثيفها الشديد، تحمل روح الشعر الذي يرمي إلى هز القارئ بأقل ما يمكن من كلمات، ويبدو أنها قد أدت مهمتها وفتحت الباب واسعا لكتابات تجمع الشعر والنثر جمعاً ماهرا.
7-البناء المقعر
الخرافة والوصفات المحلية وقناعة الناس بها كانت محور "ظهيرة اليقظة" الظاهر، إلا أنها على ما تحمله من بصمة ظاهرة بصمة السيرة الذاتية تنحى منحى خطيرا قلما نجده عند كتاب آخرين، بصمة الإفصاح الذاتي عن مكنونات النفس بشكل صريح: إذ عادة ما تحمل السيرة الذاتية إخفاء لأشياء كثيرة لا يود الكاتب التصريح عنها، يفاجئنا ابراهيم بكشفه عن أشياء لا يقوى أي منا على التصريح عنها حتى أمام نفسه أحياناً.
ونتساءل ما الدافع لهذا الإفصاح؟ أهو طبع لامبال بالمجمتع أم رافض له أم أنه طبعٌ طُبعَ عليه الكاتب في جرأة غريبة، المهم أن الحافز المصرح عنه على الأقل، هو خوف ساخر من موت يترقبه عقب عملية ينتظرها في خرزات في ظهره.
على أي حال لم يترك كاتبنا في الأقصوصة نمطه السردي الدقيق في تحريك شخصياته، مستغلا حادثة نقله إلى المستشفى وإجراء عملية جراحية له ليظهر بمهارة فائقة مراسيم نقله من بيته بدقة متناهية: بدءا بتجريده من ملابسه وهو بعد في منزله_ ولم أعرف سببا لذلك_ ووصوله وانتهاء بإجرائها وسلامته.
وإذا كان الإنسان يُعرف على حقيقته في الخضات والأحلام وفقاً للمنظور الفرويدي، فقد تركت هذه الحادثة مجالا كبيرا لتسرب لاوعيه حبرا على ورق الحقيقة: فهو لم يكتف بنقد المجتمع بتمسكه بالمجهول الأسطوري في حل مشاكله وإن كانت طبية جسدية، ولم يكتف بالتهكم على عادات تجريد المريض من ألبسته وهو لم يزل بين أهله وجيرانه، أو من قناعات بالعقاب الرباني الانتقامي وعدالة هذا العقاب ، بل كان الأمر أشد خطورة ، فقد ترك لقلمه أن يبوح بمحظورات كثيرة، ولعل أهمها، تصريحه الغريب أنه في استرجاعه لصور حبيباته التسع، قد أعلن أنه لم يحبهن حقا بل أكل برأسهن حلاوة وأقنعهن بأنه يحبهن ورسم عليهن لعبة الحبيب الولهان.
هنا لا بد من التوقف عند نقطة مهمة: هل أحب حقا ولو مرة في حياته؟ ، وهل ينظر إلى الأنثى موضوعاً جنسياً وهو الذي لا يتوانى عن التحرش بالممرضات وإن لم يبدين له شيئا من التقرب الظاهر؟.
ألا يحق للإنسان أن يسأل هل الحب حقيقةٌ أم هو وهمٌ جميل؟ ما هي هذه العاطفة التي تربط بين اثنين؟أهي حالة مؤقتة؟ وما سرها؟ أنحب حقاً عندما نحب؟
البناء المقعر كان أخطر الأبنية في سرديات "جاد الله"، فقد تعمق ليطال قعر النفس بسهولة فائقة، فهو يصرح بصومه الظاهر وورعه وهو في الحقيقة على العكس من ذلك ، يصرح كيف يصلي ويتظاهر بالورع فقط أمام الناس، كيف كان والمصحف في جيبه يرتكب اشياء هو في لا وعيه وتبعا لتنشئته الدينية يظنها مخالفة للشرع..
ولعل في اختياره لها عنواناً لمجموعته الروائية، لهو دليل اهتمام لا واع بها، فهي حميمية، تتقعر في النفس وتنزل في دهاليزها من غير خوف أو وجل، كيف لا؟ وقد كان لشخصيته المخفية في سرايب اللاوعي الأثر الكبير على مجرى الأقصوصة التي نسجتها بيئته خلال نشأته طفولة ومراهقة في تلك البيئة الريفية الغارقة بالأساطير والمتمسكة بقشور الماضي بقوة وشراسة.
هنا لا بد من الاعتراف بجرأة الكاتب التي تبدو غريبة في مجتمع اعتاد كبت أفكاره وعواطفه: إنها الكتابة وقد تخلصت من الضمير الجماعي الذي قد يكبل القلم في تصريحه عن واقعه الخارجي والداخلي على السواء. إنها الكتابة الحرة التي تعكس بصمة التحرر الخاصة : بصمة الحرية والشفافية والجرأة كما تحمل بجدارة رهان الكتابة الروائية الحديثة.
هذه نماذج من البنيات المتنوعة التي تتناوب في هذا العمل القصصي لكنها تمثل بأقاصيصها السبع عشرة جزءا من الفضاء العالمي للكتابة التي يسهم كاتبنا في صنعه، فيرسم ببصمته الفنية فضاءً مستقلا عبر مراقبة الجانب الاجتماعي للبيئة الريفية الخاصة بلونها المحلي. وإذا كانت الانفعالات التي تتراكم فينا تحت الكبح الاجتماعي تصبح أكثر طواعية عندما يمسها التهيج المسرحي الأنيس عن طريق الخوف والشفقة، وفق المقولة الآرسطية، فقد كان لقاؤنا مع هذه المجموعة الروائية لقاءً مسرحيا بامتياز، رافقه خوف وشفقة. يكفينا ما أشعله "ابراهيم جاد الله" من سراجٍ باك، وكتبه بحبر الفاجعة وجعل ضوءه شمسا لظهيرة تحز جبينا في انطباع مؤثر وإمتاع يعمق معرفتنا بدهاليز الحياة، ويضيء واقعا على أمل الإسهام بتغييره.