ما أجمل الأنا لك يابغداد

ما أجمل الأنا لك يابغداد

مشهد صباحى متكرر

مشهد صباحى متكرر






صفان من المقاعد المزدوجة بباص كبير ممتلئة بركابه المختلفى الهيئة والنوع والقابلية، وهى أولى رحلاته فى هذا الصباح بين مدينتين كبيرتين إحداهما العاصمة المتوجه إليها
ولم يكد ينتظم انطلاق الباص حتى بث سائقه من جهاز الصوت الذى أمامه صوت قارىء شهير للقرآن تيمنا بالآيات البينات ، وجلبا للبركة ويسر أمور من يستمع ويستجيب للمعنى ورقة الصوت
وقد تكون سعيد الحظ إن كنت ممن يهوون مراقبة البشر من خلف فتجلس بالمؤخرة . أو بالمنتصف . فتسبقك رؤوس تراقب حركاتها واشرئباب أعناقها . أو حتى تمايلات همس أو حديث صاخب بين رفقة السفر المتجاورين ، وخاصة إن كنت لاترتبط بسابق معرفة بمن يجاورك . فتنشغل بالآخرين
وهذا ماكان
كان صاحب اللحية الطويلة المختلط أسودها بأبيضها ، وبثوبه القصير ، والذى يكمل ستر ساقيه بنطال من لون غير لون ثوبه . يتمايل طربا وترديدا وشدوا مع صوت المقرىء . حتى صار تردده مسموعا للكل متوازيا ومرافقا
فى المقعد الذى خلفه مباشرة كان صاحب البنطال والقميص الأزرق الصيفى الشاف عن ساعدين مشعرين سمرواين . منشغل بمحادثة طويلة . تتوقف لحظات حتى تعود مع طرف آخر فتطول أكثر ، بينما تفصح علامة صليب موشوم بها ظاهر كفه فوق عقفة إبهامه
ثنائية الصورة شاغلتنى لأكثر من ساعة . راحت فيها مشاعر تختلط وتتضارب وتتنقل بين صاحب الحلباب واللحية وصاحب البنطال وصليب الوشم على ظاهر الكف.
مستمتع مستجيب متناغم ومتفاعل مع رخامة صوت المقرىء وهدى الآيات القرآنية . غائب عن العالم . كأن الدنيا كلها له ، وله فقط
ومنشغل بالمحادثة الهاتفية . صام الأذنين . بداخله يتلوى إحساس أن تكون الدنيا خارجه ليست له
هكذا اقتحمتنى تلك الصورة المتنافرة وصار يربكنى إيقاعها الذى لا يشاركنى به حتى من يجاورنى بمقعدى
هممت ، ونهضت حيث السائق منشغل هو الآخر بمحادثة لم تطل فى هاتفه المحمول ، ولم يطل وقوفى بجوار رأسه بمقدمة ممر الباص ، ولما فرغ من حديثه نزلت الدرجتبن اللتين بجواره ، وصرت قريبا من أذنه ، همست له بعبثية المشهد خلفه ومن خلاصة إحساسى .
نظر إلى شذرا لفترة لم تطل . ثم مد سبابته وضغط على زر أصفر فى لوحة القيادة أمامه فتوقف صوت المقرىء الشهير.
كبس صمت جليدى على كل ركاب الباص ، وثمة حيرة ألمت بالبعض . منهم صاحب اللحية والجلباب القصير، و لم يفصح بها آخرون ممن يحملونها بدواخلهم.
حين استدرت عائدا لمقعدى ،حتى وجدت جارى بالمقعد الآخر ، والذى لم نتبادل نتفا من حديث قد غفى ورأسه ساقطة على صدره ، بينما صوت السائق عبر مكبر الصوت الداخلى يعلن :
حمدا لله على السلامة ياسادة


( صبيحة الأحد الثانى من يوليو أثتاء سفرى للقاهرة )