<
مثقف ثورة
أم ثورة مثقف؟
خيانة ، واحتواء ، واستشهاد
ابراهيم جادالله
( ما دمت قد خرّبت حياتك في هذا الركن الصغير من العالم ؛ فهي خراب .. اينما حللت )
قسطنطين كافافي
يامُنْشِدّة الَّلحْن السَّفِيـه .. ....هَلْ لَوْ سَأَلْتِكْ : تِنْطَقى ؟ ............. والَّلا انْتى عَشـَّاقِةْ خَرَسْ ؟ ..................مَعْ إنْ ليكى لْســَان بطُول النِّيــل .. .................................... طويــــــــــــــــــــــــــــل .......................................................... بَسْ الحَرِسْ !!
( حسنين السيد حسنين )
*******
حين اقتحم مجلسى وسط بناتى صوت عبد الناصر العوينى الحامل بحة تونسية محببة وهو يشوح بيديه فى شارع بورقيبة الشهير الذى أحفظ كل تفاصيله ، وكأنه يخلع صوته من روحه بحركات يديه المطوحتين : - بن على هرب . بن على هرب ، الحرية للتوانسة ، المجد للشهدا ثم بعدها بقليل ونحن متحلقون حول بعضنا بصمت ومتابعة مندهشة ، تعيد قناة الجزيرة مرة أخرى فى تتراتها المتكررة صورة وصوت أحمد الحفناوى ، الذى أعرفه منذ سنوات ، وحفظت أمر معرفتى ولقائى به فى تونس منذ سنوات ، لاعتقادى أن أحدا لن يلقى لى بالا ، جاء الحفناوى بصوته الذى رطب تشققات أرواحنا وغصة الصوت التى أنطقت كل كائن عربى . وهو يردد بدموع تاريخية: _ هرمنا . هرمنا . من أجل هذه اللحظة التاريخية.
راقبت الحالة بتلصص على وجوه بناتى وزوجتى ورجعت إلى نفسى فوجدت مايشبه التوحد فى الدموع اللامعة فى المقل ، والكلمات المتحشرجة بفرح وزهو فى الروح المنتشية ، والسكون الذى غطانا جميعا بعد صخب المشاهدات المتلاحقة عبر شاشات الفضائيات الغير عربية عدا الجزيرة .
كنت صبيحة هذا النهار أقف أمام بيتى حائرا لا أدرى إلى أين
أأنطلق لأقضى نهارى بعد ساعتين فقط من نوم متقطع ، هل إلى ميدان أم كلثوم لألتقى بعضا من مثقفى مدينتى الذين يحتسون الشاى والأرجيلة والتنظير والتحليل والقراءات المستقبلية التى غالبا ما كانت تأتى الأحداث بعد الجلسة مباشرة مغايرة تماما لمادار من أحاديث ؟ أم إلى مبنى المحافظة حيث تلتقى الجماعات والإئتلافات الزاحفة من كل مكان بالمنصورة المدينة ، ويغذيها الزاحفون إليها من قرى ومدن قريبة وبعيدة؟ ، أم إلى تلك الجزيرة التى تتوسط شارعين حيث يتراص على أرصفتها الرخامية كثير من مسنين ومسنات وفتيات وفتية ، وقد يكون بين المسنين رفيق عمرٍٍٍٍِ. أوهمً . أو كتابة ؟لا أعرف إلى أين سأذهب ، ولم يعدنى من شرودى وملاحقات الصور إلا توقف سيارة لشقيق زوجتى أمامى فجأة ، وبلا أية عبارات استفهامية عن المبتغى كنت بجواره فوق مقعد فارغ ،
: ها أأ ماهى الأخبار أبا ماجد ؟ هل عادت ثقتك فى المصريين ، أم مازلت ترى أمامنا قرنا حتى نصل للحالة التونسية ؟
لم يسقط فى يدى ، لأنى تنبهت فورا لمقصده ، فقد كنا قبل أيام نقف لحظات الغروب أمام بيتى وهو يسألنى باليومين الأولين لثورة الأشقاء التوانسة .
::_ هل يمكن أن تخرج الجماهير بمصر كما خرجت بتونس؟
أتذكر أنى لحظتها قلت له إجابة شبه قاطعة .
:: _ أمامنا مائة عام حتى نصل للحالة التونسية.
ولكنه باغتنى بسؤال كالنصل وهو يقود سيارته بيدين معروقتين .
:: _ طيب . حين تقول أنت ذلك برائحة محبطة ،وأنت من أنت ، سنوات اغتراب وإبعاد واعتقالات وحصار من أجل موقف ارتضيته مع الحقيقة وضد الظلم ، فما عسانا نحن قوله ؟
تعود بى الذاكرة وأنا بجواره لبداية سبعينات القرن الماضى ، أربع حقب من الزمن كانت البداية الفعلية للوعى الحقيقى المرتبط بالممارسة الفاعلة ،والتى كانت تؤتى بعض الثمار ، وتعطب فيها ثمار أخرى
((ماذا يحدث لو لم يصبح الخبز طعاما؟
أو ماتت الكلمة فى كل فم؟
أو اندثر بريق برونزى فى ظلام ليل؟
لا شىءغير أن ينقلب الميزان
وأن تتقطع شرايين القلب الدافق بالحرية))
كلام برغم عفويته ، ومرورمايقرب من حقب أربع عليه ، واستعادته محفوفة باتهام بعدم التجدد ، ولكن والحق يقال حين أستدعيت هذه السطور التى كتبتها فى يافطات اعلانات ترشحى لاتحاد الطلاب حينها ،ـ واستعنت بها وانا اقص ملامح تلك الفترة فى الجزء الثانى من روايتى الثلاثية البغدادية ، وجدت ثمة تطابقا مايزال ماثلا أربعون عاما أتت بكامل تفاصيلها على جناحين من زهو وبلاهة أيضا ، لمعت فيها صور لافتات الدعاية الإنتخابية لاتحاد الطلاب بالجامعة بداية سبعينات القرن القرن الماضى ، وكانت عقب الاستعفاء الذى مارسه السادات على معارضيه فيما سموا بمراكز القوى ، وبوادرالتطهير العرقى تلوح فى الأفق لكل من يحمل تبنيا للمشروع الناصرى . او رؤية يسارية الفهم والاعتقاد ، وكان هذا الكلام على الرغم من بساطته حاضرا معى بجزئيات تداعيات الأحداث التى صارت جراءه، وحين مزق من بيد رجال أمن الجامعة ، واستدعيت لمكتب العميد للتحذير والترهيب خرجت لأعيد صياغة ماقاله محمود درويش بذكر العميد بدلا من السلطان فى قصيدة شهيرة كنت أحفظها جيدا من كتاب صغير الحجم لرجل احتضننى بمقر إقامته بعمان الأردنية بعد ذلك بسنوات قليلة ،بعد عملية طرد شاملة لكثير من مثقفى مصر شبانا وشيوخا أى بعد توقيع المعاهدة المشؤومة مع العدو التاريخى الصهيونى
من النيل إلى نهر الفرات !
أسجنوا هذي القصيدة
غرفة التوقيف
خير من نشيد.. و جريدة
أخبروا السلطان،
أن الريح لا تجرحها ضربة سيف
و غيوم الصيف لا تسقي على جدرانه أعشاب صيف
و ملايين من الأشجار
تخضر على راحة حرف !
وكان ماكان ، وياسادة ياكرام ، عليكم بالرجوع إلى تاريخ الحركة الطلابية ووقائع نضالاتها بعد رحيل عبد الناصر حتى انقضاء عهد المؤمن واغتياله ، لتدخل الحركة الطلابية منعطفا أكثر تهميشا وتمييعا فى عهد المخلوع بدءا من حورس عبد المنعم عمارة ، وانتهاءا بلجان الرحلات والكشافة التى أشرف عليها الحزب الوطنى وأمن الدولة بالجامعة وكيف كان يشكل ويتشكل دور للمثقف فى إطارها وفى إطار الواقع المصرى بشكل عام أقول هذا ويرن فى أذنى ظهيرة 25 ينايرصوت ناشطة مصرية شهيرة تربطنى علاقة عمل ونفى خارج مصر مع والدتها ، حيث جاء الحوار قصيرا وحاسما
--- عمو إنت فين ؟
___ فى البيت
___ والبنات ؟
راحوا المظاهرات فى المنصورة
___ وتفتكر حضرتك موش خاين لهم ولنفسك ولأربعين سنة بتعافر فيها عشان اللحظة دى؟ وأغلقت الهاتفوأنا وبعصاى التى أتوكأ عليها بعد نصف ساعة كنت بينهم ، أطل وأتامل ويرعد صوتى بصوتهم ، ولكنى كنت خجلا ، خجلا حقا ، وفرحا أيضا ، ولكن بمرارة فخلال العشرين عامًا الماضية ، صور لنا البعض أنه ليس هناك ما يسمي بالمثقف الطليعي الملتحم بقضايا وطنه حتي صدقنا هذا، ولم يعد المثقف هو الغطاء الذهبي كانسان يقود جماعته لأنه أكثر جرأة في التعبير عنها، وكان بعض من يزيحون دور المثقف يتبنون فكر ما بعد الحداثةإنها الفكرة المخيفة التي رافقها مؤسسة ثقافية نجحت في تحويل المثقفين من طليعة لأبناء نظام فممع انهيار أنظمة أبوية علي مستوي العالم كله مثل الاتحاد السوفيتي، اختار نوع من المثقفين النظام القائم كبديل سلطوي، وظهر مثقفون قادرين علي إقناع الآخرين عبر أفكار مسمومة والإتيان بهم لداخل المؤسسة وتدجينهم، وليس أدل من عبارات فاروق حسني في هذا الإطار عن أنه لا يحتاج أكثر من ملايين لشراء المثقفين وقد لاحظت أنه طوال عصر مبارك لم يسجن مثقف لأنهم دخلوا "الحظيرة"
بالفعل كما كان يقول فاروق حسني. ومشاركة المثقفين في الثورة أتت خجولة. لأن الثورة فاجأتنا جميعا، كما سبق وقلت فى البداية ، وفاجأت المثقفين يتامي الأنظمة الأبوية، فأتت المشاركة باهتة حتي أنني تمنيت ألا يشارك المثقفون حتي لا يفسدوا الثورة بما تعودوا عليه خلال السنوات الماضية، فإذا لاحظنا سنجدهم قد أقبلوا علي الثورة في أيامها الأخيرة وكانوا من أدوات القمع ومتصورين أنهم صوت العقل، كان البعض منهم يقول للشباب كفي ما تحقق.فهل كان المثقف معذورا؟،
إذا كان قد فسد، فكلنا فسدنا، فما فعله نظام مبارك لم يفعله نظام عبد الناصر ولا حتى السادات، فقد نجح هذا النظام الغير مثقف في إفساد الجميع ، وكان المثقفون في العربة الأولي من قطار الفساد.والمثقف الذى لم يرتبط بفئة معينة في الثورة قرر أن يكون مواطنا عاديا ليصبح عضوا عاملا كفرد وليس كنخبة، وإرادته وردود فعله المباشرة لما يحدث هي العناصر التي قادت مسيرته مثل باقي المتظاهرين وليس رؤية فكرية واضحة.بعض المثقفين أصيبوا بحالة من الارتباك وعدم الاستيعاب لما يحدث، كأنه شعور غريب أمام العالم الذي يتكون من جديد، عالم يغير أفكاره وإنتاجه الابداعي ، والأمر تحتاج إلي وقت حتي نتأمل ما حدث وحتي نعثر علي إجابات وتتضح الصورة كاملة.أيضا جميع فئات الشعب فوجئوا بهذة الثورة ، أي ان المثقف لم يكن متنبئا بالأمر او مشاركا في البدايات .
في مرحلة ما بعد البداية اتسعت دائرة الاتجاهات الوطنية والشعبية فلحق عدد كبير من المثقفين بالركب وطرحوا سؤالا ماذا علي المثقف ان يفعل في هذه الثورة؟وفي إطار الإجابة علي هذا السؤال قام بعض المثقفين بالتظاهر في ميدان التحريروميادين أخرى بمدن مصر مثلما فعلنا، ومنهم من كان جالسا في المقاهي و المؤسسات الثقافية المستقلة حتي يقوم باعلان مطالبهم الخاصة مثل تعيين وزير ثقافة يليق بمصر ويكون بعيدا عن الفساد الذي انتشر في عهد فاروق حسني ، ثم كان اعتراض البعض علي تعيين محمد الصاوي كوزير للثقافة وأيضا المطالبة بإعادة هيكلة المجلس الأعلي للثقافة والهيئة العامة للكتاب وهيئة قصور الثقافة وغير ذلك.وقد بدأ تشكل موقف جماعي في إطار الجماعة الثقافية فيما بعد عقب هدوء الأمور نسبيا، وتحديدا بعد أن انسحبت الشرطة من مواجهة المتظاهرين، وعقب تمكن الجميع من التقاط الأنفاس التي كادت تنقطع بفعل قنابل الغاز!.
فكانت مشاركة المثقفين والكتاب الشباب في الثورة بدوافع شخصية بحتة تخص مواقفهم الوطنية كل علي حدة. وأن كان لأغلب الكتاب الشباب مواقفهم الرافضة للحكم الشمولي للنظام السابق في إطار موقف الجماعة الثقافية بشكل عام ولكن قرار النزول للشارع هذه المرة لم يكن في الإطار نفسه.
كل مثقف نزل الشارع، خصوصا في الأيام الأولي للثورة، كان ملتزمًا بموقف فردي.هل شكَل المثقف الفاعل وعي الشبابقد يرى بعضنا ، بفاعلية المثقف، ووفقا لمقولة أن المثقف المصري ليس جماعة واحدة بل متعددا والمتأمل حال هذا المثقف قبل 25يناير يراه إما مثقف متعاون بالكامل مع السلطة والنظام سواء أكان سياسيا أو ثقافيا، ومثقف معارض غير فاعل، يكتب تعبيرا عن أحزاب مهترئة، ومثقف صاحب موقف و تشغله أسئلة، وهذا الأخير كان علي مدي سنوات يلاحق بالمصادرة والمنع، هذا المثقف هو من انتقلت رسالته لهؤلاء الشباب وشارك في وسائطهم الحديثة ليكون فاعلا في تكوين وعيهم وهو من أمضي معهم 18 يوما في ميادبن التحرير يكتب ويدعم ويهتف ويحلم بوطن جديد، وهو الذي مارس دورا إيجابيا مع شباب الثورة، هذا المثقف الآن بعد 25 يناير يمتلك رؤيته وأسئلته ولن يفرط في مكاسب ما جري.إن الثورة لها رصيد فكري ودوافع كون وعي الشباب، هذا الرصيد الفكري شارك في تكوينه المثقف العضوي وليس المثقف المستأنس، فتجمعات مثل 6 أبريل او كلنا خالد سعيد وكفاية بدأت من عام 2006 أثرت علي وعي الناس بالمشاكل والمعتصمين أمام مجلس الشعب الذين حركوا الضمائر، وكذلك غطرسة السلطة واستعلائها علي المواطن والتفاوت الشديد بين الأجور وانعدام العدالة الإجتماعية.
وإن كان كارل ماركس قال إن العالم لن يتغير بالفلاحين والعمال لكن بأدوات الانتاج، فاليوم المجتمع التكنولوجي وثورة الفضاء الافتراضي هي الأدوات التي حركت الثورة، يمكن القول إن الثقافة التي حركت الثورة اعتمدت علي آليات جديدة ومراحل عمرية شابة، الكثير من الشباب لديهم العمق والفكر ومعتمدين علي ثقافة من نوع مختلف.دور المثقف لا تأتي نتائجه سريعا فدوره الأساسي إنتاج أفكار تعين المجتمع علي تجاوز مشكلاته المعرفية والقيمية إلي آخره، إن كثيرا من المثقفين لم ينتجوا أفكارا طوال عصر مبارك،لأن الاستبداد السياسي همش المثقف كثيرا وأدي إلي أن لعب دور التخديم علي الدولة ونظام الحكم وتحول المثقف لموظف، في ظل محدودية المنابر الثقافية فالمجلات الثقافية القليلة يهيمن عليها بعض الأفراد ولا يراها أحد. ولكن بعض المثقفين أدوا هذا الدور التنويري مثل نصر حامد أبو زيد وحسن حنفى ومحمود اسماعيل وخليل عبد الكريم وغيرهم، ونتائج أفكارهم وصلت لأجيال مختلفة.إن إسهام المثقف في الثورة كان إسهاما فكريا في الأساس، وهو بهذا المعني إسهام غير مباشر.
فالدور الرئيسي للمثقف هو رؤية الغائب فيما هو حاضر وتشخيص الناقص فيما هو قائم ولفت النظر لعيوب ما يعتقده عموم الناس أمراً طبيعياً. بمعني آخر إن دورالمثقف هو الدعوة لأشكال أخري من الكون والفعل. وهذه كلها أدوار تخريبية للنظم القائمة لأنها أدوار تدعو دائماً للمراجعة والنقد والتغيير. المثقف إذن هو من يلقي بذور الثورة أينما ذهب، ولهذا تخشاه الأنظمة القمعية.
وأنا أرى أن المثقف الذي يحرض مباشرة علي الثورة أو الذي يقود المظاهرات يلعب دور السياسي ويمارس حقه كمواطن، لكنه حين يفعل ذلك لا يكون ممارساً لدوره الخاص كمثقف.ولكن.كان أمامى واقعا مرا يشغلنى دائما عن مثقف مصري ظل في بيت النظام، وركناً أساسيا فيه، ومسؤولاً يمنح كل ما أوتى من ذكاء وغباء من أجل هذا النظام ، كان يعمل على تدجين المثقفين، وإدخالهم (حظيرة) فاروق حسني، و(جنة) الرئيس المخلوع. وكان يعتبر نفسه واحداً من أهم أربعة نقاد في العالم،، وكنا نعتبره كذلك أيضا كمال أبو ديب فى مصر وقد كان فى السابق أيضا جزءاً من نظام السادات، وكما كان مقرباً من زوجته ،كان وثيق الصلة بزوجة صاحب كامب ديفيد ،والكل يعرف أنه شارك في صياغة رسالة الدكتوراة الخاصة بزوجته. بعد الثورة رأيناه يتحدث بفخر ، عن تخليه عن حقيبة وزارة الثقافة، وكأن ذاكرة المثقفين سقطت في المستنقع، بحيث أصبحوا لا يتذكرون أنه قبِلها بعد تساقط شهداء الثورة برصاص (الجستابو) كان مبارك يرتعش أمام صمود الثوار، في الوقت الذي لم يسيطر علي الدكتور إلا حلمه القديم، بتولي الوزارة، خلفاً لصديقه المقرب فاروق حسني، وكان الدم يغطي الميدان في الوقت الذي هرولهذا (العصفور) علي السجادة احمراء، حتي يصل إلي الديكتاتور ويصافحه ويحلف يمين الولاء له..
وأول كلمات للوزير الجديد كانت إن الشباب الموجودين في التحرير لا يتجاوزون بضعة آلاف، وهم نتاج لثقافة التخلف، وهو بذلك أدان نفسه، لأنه كان المسؤول الأول عن صناعة تلك الثقافة، وحينما حاول (الخروج) بالاستقالة كان قد فات الأوان، لأن الحرب كانت تضع أوزارها، ولأنه استشعر حتماً أن الكلمة أصبحت للثوار. وكان قد قبل جائزة ترتبط باسم (الرئيس المخلول) معمر القذافي، وها هو يقول إنه رفضها بعد اندلاع ثورة 17 فبراير الليبية، فهل أعاد الأموال، وهل كان يحتاج إلي ثورة ليدرك أن يديه ملطختان؟!
هذا نموذج لمثقف كبير ، فكيف لنا الاستفادة من طروحاته التى غطت كل المساحات ، ولنقيم رؤانا لمفهوم الثورة ؟ هنا تلح عليه عناصر سؤال هام ، وسألت نفسى مرارا عنها. لماذا لا يثور المثقفون ؟ فرأيت أن المثقفين لا يثورون في أي مجتمع, لأنهم ليسوا طبقة ولا حزبا, وإنما هم أيديولوجيات ومذاهب ومدارس واتجاهات في الفكر والعلم والفنون لهذا فإنهم يمهدون للثورة بإبداعاتهم.
أن المثقفين في أي مجتمع هم طليعته أو مع ذلك فإنهم كمواطنين يشاركون في الفعل الثوري الواقعي, وفي تاريخنا المصري الحديث نهض المثقفون المصريون بدورهم الطليعي وبالإنتاج الثقافي, الذي أضاء السبيل أمام جميع الحركات الثورية المصرية, منها إصلاحية رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وليبرالية أحمد لطفي السيد وطه حسين وإبداعية أحمد شوقي ومحمود مختار وسيد درويش وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس.
أن المثقفين المصريين كانوا ولايزالون أصحاب التنظير والتذكير وكل انتقالات مصر وهياكلها العلمية والتعليمية والإعلامية وأصحاب الصياغات الدستورية والقانونية في كل الأحزاب والمؤسسات والتنظيمات منذ بدء النهضة إلي يومنا هذا.كان المثقف المصري- عالما ومبدعا- في القلب من حركة النهضة المصرية الحديثة, وفي القلب من الحركة الثورية الراهنة, يبدأ في إنتاجه الثقافي ثم ينخرط في صفوف شعبه في وقت التحرك الشعبي الثوري, والكثيرين من المثقفين المصريين لهم تاريخ نضالي مرموق يشهد علي هذا الإنتاج الفكري والفني في السنوات الأخيرة, كما يشهد وجودهم في ثورة يناير القائمة والمستمرة.
أن المثقف الحقيقي هو من استشرف هذه اللحظة قبل أن تحدث, وقد انحاز لرفض الاستبداد والنظام الفاسد, وطالب بالحرية التي تعود علينا جميعا كمصريين, دون تفرقة.أن الثورة لم تقم بين عشية وضحاها, كانت هناك حركات رفض سبقتها, وكشفت عن معدن الشعب المصري كان هناك رفض من حركة كفاية وغيرها, إضافة إلي الكتابات التي كتبناها ضد هذا النظام وتحملنا ضدها التهميش والإقصاء من جميع مواقع الدولة.
ولكن أين تفجرت روح الثورة؟
الثورة كما يراها العالم قدمت بعدا حداثيا فارقا، أدخل مصر في نقطة من الزمن الفارق، هنا دور المثقفين فارق والتحدي كبير، خاصة وأن من دفقوا هذه الروح في المجتمع أشخاص من خارج الثقافة التقليديةفشباب25 ينايرفتح صفحة جديدة للمثقف.
فمثلما فاجأت الثورة المصرية المتابعين لها فاجأت المثقفين أيضا ، وهم لم يلتقطوا الأنفاس بعد، فبعد إزاحة مبارك غرقوا في تفاصيل تطهير باقي النظام، ومتابعة إجراءات محاكمة رموزه، والخروج الصادم للسلفيين. ووجود جدول أعمال مفروض على الجميع من الخارج.
وبرغم أن المثقفين أزاحوا وسط هذه المعارك وزير الثقافة الإسلامي محمد الصاوي، "الداعم لمنظور تصورات الإخوان عن الثقافة.، ولكن تهميش المثقفين من الظهور في الإعلام، يظهرهم وكأنهم بعيدين عن الحراك الثورة.ففاعليات الثورة تدور الآن على شاشات الفضائيات عبر طبقة جديدة من خبراء الكلام ،فيما لم نشاهد واحدا من مئات المثقفين الذين وقفوا خلف المتاريس يتم تقديمه للناسفمتى يعقد المثقفون المصريون مؤتمرا عن الثقافة والثورة، من أجل خلق تمثيل حقيقي للمثقفين على طاولة التفاوض المجتمعي.
أما أولئك الذين انحازوا للنظام, ومنحهم عطاياه فقد أصبحوا منكشفين للجميع, مشيرا أن من بشروا بالثورة قد انحازوا إلي التغيير الجذري في جميع الأشكال بدءا من لغة الخطاب الثقافي وانتهاء بقلقلة الوعي الجماهيري, وإلي أن يصل إلي هذه اللحظة لابد أن يمر زمن طويل.هذه الثورة أظهرت الانفصام في شخصية بعض المثقفين الذين كانوا مع النظام الاستبدادي, وفي نفس الموقع الذي يتحرك فيه, حتي إن بعضهم أهدي روايته للسيد سوزان مبارك.وماذا بين الكتابة والواقع فى الفعل الثورى لدى المثقف ؟أليست الثورة في الكتابة والرؤية تمهد لثورة تحدث في الواقع وعلي الأرض؟هناك أعمالا مثلت نبوءات بما سيحدث رأيتها فى ديوان سيد حجاب قبل الطوفان الجاي, هذا الديوان صدر عام 2009,وأهدانيه صاحبه صدفة عقب صدوره ، وكان بمثابة نبوءة لما حدث في هذه الأيام, هذا الطوفان الذي صوره حجاب سيكتسح كل هذا النظام الفاسد.
وهناك مثقفين كانوا واضحين منذ البداية ، وآخرين غير ذلك ، بداية وانتهاءا ، وكم كنت أشعر بالأسف للشباب الذين كنا نعبث بهم, كانوا يعرفون منطق العصر, ونجحوا في الوقت الذي وقفنا نحن نتفرج فيه, لذلك جيلنا قصر في حق هذا الوطن, لأننا كنا نخاف علي أولادنا وبيوتنا, وسيذكر التاريخ لهؤلاء الأبطال أنهم أشعلوا ثورة لم يشهد العالم مثيلا لها.لقد تم جمع عددا كبيرا من المثقفين في حظيرة فاروق حسني, واختار جزء منهم أن يكون في لجنة السياسات, وجزءا اختار القنوات الفضائية, وجزءا انتمي إلي المرحلة النفطية, وجزءا اختار المشروع الأمريكي, ويمكن أن نحدد أمثلة بالأسماء علي رأس كل مجموعة.
والمثقف المصري لم يستطع في الخمسين سنة الأخيرة باستثناء قلة قليلة جدا نادرة أن يكون شهيد عصره, وأفضل من فيهم كان مجرد شاهد علي عصره ولا يمكن أن نجد وضوحا لموقف المثقف العضوي وفق ما حدده جرامشولنأتى بمثال للمفارقة الكبري بالشاعر عبدالرحمن الأبنودي الذي كتب أوبريتات جميع أعياد الشرطة, وعندما اشتعلت الثورة كتب قصيدة الميدان عن الذين أشعلوا الثورة في عيد الشرطة, هذا مثال واضح للمثقف علي الضفة الأخري.
إن المثقفين الذين شاركوا في الثورة لم يكونوا قيادات, بل كانوا تروسا صغيرة في آلة الثورة الشعبية, وأجمل ما في الثورة أنها بدأت من الفيس بوك إلا أنها تجاوزته وتحولت إلي مناطق مختلفة في أرجاء الوطن, فلم يكن ميدان التحرير أيقونة خاصة بالثورة, من الضروري أن يتخللى المثقف عن أنه مايزال قائدا للجماهير, وعليه أن يتعلم الإنصات لثورة الشارع,
فالرجل البسيط أكثر رقيا من الحكام والسياسيين التقليديين والدليل علي ذلك اللجان الشعبية وتكاتف المسلمين والأقباط.إن طبقة المثقفين ضعيفة عديمة الحيلة, لا تملك إلا التلميح بالكلام.وقد نلتمس بعض العذر لمجموعة من المثقفين وقفوا علي حد السيف, مثل صنع الله ابراهيم فى مقابل من باع قلمه للسلطة, و من انطوي علي نفسه وانتظر حتي قامت الثورة, ومن تنبأ بحدوثها.لأن الثورة أثبتت خطأ الفكرة السائدة عن المثقفين كجماعة منغلقة على نفسها . فالجسد الأساسي للمثقفين شارك فيزيقيا في الثورة . لكن المثقفين يميلون إلى اللامركزية وعدم الاتفاق الجمعي، نظرا إلى اختلاف التركيب الذاتي والشخصي لأفرادهم، وقد أثبتت الثورة أن حلولهم للصراع مع الدولة القمعية قديمة وعفى عليها الزمن.
والصراع يحتدم الآن بين ثلاث قوى في المجتمع، كل قوة منها تخاف وتحترس من القوتين المواجهتين لها؛ فلول النظام لهم مشكلات مع الإخوان المسلمين والتيار المدني الليبرالي اليساري، وقوة الإخوان في مواجهة الفلول والتيار المدني، والتيار المدني الواقع بين كماشتي فلول النظام والإخوان.ولكن من هو العدو الحقيقى للصوت الثقافى؟الصوت الثقافي يدرك أن الإسلاميين عدوه الحقيقيخلال يوميات الميدان اقترب المثقفون من الإخوان بل ودافعوا عن حضورهم في مواجهة ، وقد أثبت الإخوان كالعادة انقلابهم على كل التحالفات الوردية، لكن اتحاد جسد المثقفين المصريين بعد الثورة يعوض عن ذلك، فقد اختفى إلى الأبد مفهوم مثقف السلطة.
والمثقفون كلهم الآن حماة للثورة في مواجهة سلطتي العسكر والإخوان المتحالفين تكنيكيا، ومجمل الصوت الثقافي الآن يدرك أن عدوه الحقيقي ممثل في الإسلاميين. أن المحاولات التي يبذلها المجتمع الثقافي الآن للتفاعل مع الثورة هي محاولات خجولة، فالنظام السياسي الماضي عمل على مدى 30 عاما على تدجين المثقفين من جهة، والتأكيد على مخاصمتهم للمجتمع من جهة أخرى. وفشل المثقفون في الدفاع عن أنفسهم لفترة طويلة وقد عاد المثقفون الآن إلى مربع الدفاع عن النفس عبر الخوف من التيار الإسلامي."وأنا متخوف من احتمال تغيير تسمية الثقافة أصلا إذا ما شكل الإسلاميون أغلبية في البرلمان، وأن يصبح من حق السلفيين المطالبة بصورة ديمقراطية بحصة من قصور الثقافة، لاستضافة الشيخ الحويني، السلفي والمعادي للمرأة والإعلام والثقافة، "نحن أمام مشهد قد تكون فيه الثقافة أولى ضحايا الثورة."وماذا عن توجه الثقافة الجديدة؟على افتراض منهجى بأن الثورة ستعيد الثقافة إلى وضعها الطبيعي بعد فصلها عن السياسة، فتأميم المجال السياسي منذ ثورة 1252 حمّل الثقافة هموم هامش الهروب من السياسية، حيث أصبحت المنفذ الوحيد للسياسة، وبعد فتح المجال بعد ثورة 25 يناير تم فصل الأوراق وإعادة تحديد المجال، خاصة وأن الميدان شهد ثقافة جديدة لا تنتمي للجماعة الثقافية .ثمة جماعة جديدة أداؤها استعراضي قائم على الارتجال واللغة الجديدة المباشرة.
وجود الجماعة الثقافية التقليدية وجودا سياسيا يهدف إلى إثبات وجود قوى أخرى في الميدان غير الإسلام السياسي حضور مدني ممثل في شخصيات عامة وكتاب ومثقفين وممثلين. أن المثقف أصبح بعد الميدان مشتتا بين دوره في العمل العام في هذا الخصام السياسي وبين دوره في مواجهة السلطة الثقافية الممثلة في الدولة، خاصة وأن "السياسة الثقافية للعصر السابق سجنته في دور الخبير المنغلق على ذاته.فماذا هو فاعل بغده ولغده؟هذا ما تنتظره الأيام والسنوات القادمة ، بل وما تأمل أن يكون له ثمة حضور حقيقى فى النهوض المجتمعى العام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق