جماليات القبح فى ظهيرة اليقظة
الواقع محير،متلبس ومتشابكة خيوطه إلى حد الاندغام.وهى خيوط وفيرة متنوعة الفتائل،منها الغليظ والمسترق،المضفر واللازب،الجاف والدبق،اللين والصلب،الناعم والشائك...إلى مالا نهاية.
ولأن المشهد الواقعي مزدحم بالتناقص،غاص بشواهد الإتلاف والإختلاف،فإنه من الصعوبة بمكان-ولعله من المستحيل الفصل بين ملغزاته وبساطاته،مفارقاته ومقارباته،هدوءا ته وتفجيراته فعلى قدر ماهو مؤلم على قدر ماهو ممتع.وبقدر ماهو مبهج بقدر ماتشيع في أرجائه الأحزان.
قليلون هم القادرون على مواجهة هذا المشهد لتحليل عناصره،فالمشهد شديد التعقيد،والنجاح في الإمساك بطرف فتيله واحدة من نسيج أستاره ليس سوى احتمال مخايل،لكنهم يحاولون،وفى مقدمه هؤلاء المحاولين الأديب المتسلح بخيالة ولغته.بالخيال يحاول الإحاطة بالخفي المخبئ،وباللغة يعمل على المناجزة.وهى إذن علاقة كشف وتحريك تلك التي تجمع بين الأديب وواقعه.
وإبراهيم جاد الله فيما يبدو استوثق من الأمرين واطمأن
إليهما فاختار القرية الريفية عالما لكتاباته القصصية،ومضى يقوم بالمهمتين معا:الكشف والتحريك.
ولأنه واقع ثربمعطياته على مافيه من فقر،جميل على ما به من قبح،زاخر بالبراءة ومتخم بالآثام،فقمين به أن ينقطع له ويعكف عليه.فعل هذا في مجموعتيه السابقتين:(مشاهد من حكاية الوابور المقدس)ومن(أوراق موت البنفسج).وتأتى المجموعة التي نحن بصددها(ظهيرة اليقظة)لتعلن استمرار كاتبها على نفس الجادة..القرية التي نالها من المدينة ترف التعالي أو بلهنية العيش الرغيد .ولندخل مباشرة إلى عالم الظهيرة ويقظتها.
(2)
أول مايلفت الإنتباه في المجموعة ازدحامها بالبشر،فكأنهم أناس القرية المصرية جمعهم المؤلف بثقافاتهم وعاداتهم وأعرافهم،فإذا بالقصص تضج بالحياة،وإذا بنا أمام شخصيات من لحم ودم حقيقيين.ربما هي شخصيات متعبة.ممتصة،مريضة أو مذهولة،لكنها مع هذا وربما بسببه،هى شخصيات حية،تمارس سذاجتها ولؤمها،طهرها وعهرها،أحزانها وأطراحها فى بيئة صادقتهم وصادقوها،حنت عليهم بقدر ما حنوا عليها،وشوهتهم بمانالها-منهم-من تشويه.ولنلق نظرة فاحصة على بعض هذه الشخصيات.
فمحمود المريض بأعصابه العاوى كذئب فى قصة(قلب أم)المتربص بنظراته التى لاتستقر وأنفاسه التى لاتهدأ، محمود هذا الذى يصرخ بآرائه فى النساء قبيحا ومتبذلا،يربكه هم وقلق وهو يترقب مجئ أمه بالرغم من إيذائه الدائم لها،لكنه لايمك إلا أن يأخذها بين ذراعيه ويرتمى فوقها على أرض العنبر والدموع تغمر عينيه. ربما تشابهت تصرفاته وتصرفات غيره من العصابيين،لكنه يحمل خصوصيات المريض الريفي صفات ومسلكا،فيتميز عن غيره ممن يعانون مثلما يعانى.
وفتحى عنان النصاب الذى غش الحاج زين خادم دورة مياه الجامع الكبير(فى قصة جمعة الأرانب)وباع له حمارة مريضه مالبثت أن نفقت،فقامت بينهما حرب لا هوادة فيها.وفتحى عنان نصاب يمتلك دهاء الثعلب ودناءة الضبع ففي غمرة حربه مع الحاج زين لاينسي أن يحمل سكاكينه الحدادى ذوات القبضات الملفوفة بخرق قديمة ويأخد طريقه إلى حيث ألقى اولاد الحاج زين بجثة الحمارة ليشق الجلد عن البطن ويسلخها بحذر وتفنن فيسهل للكلاب نهش اللحم الوردى ويعود هو بالجلد محمولا فوق ظهر حماره مغطى بالقش والخيش ليجففه فوق سطح داره ويبيعه لصانعى الغرابيل.
وحماد صاحب المقهى الفقير إذ يتواجه ونبيل الحلاق فى قصة (من فصول اللذة والألم)لأنه كسر كرسي الدخان ويدخل معه فى معركة كلامية طاردا إياه من المقهي لأنه(هيطفش البغلين اللى بيجولنا)ولما لم تتشفع نبيهة زوجته لنبيل هذا(الحجر اللي يكسره ياحماد يجيب غيره)ينهرها(داهيقفل بيتى)ويعايرها-وهى زوجته-بأمها مغسلة الموتي،ويفرد جسده الذى تكور من السعال والضحك وأصوات مؤخرته ويهب واقفا فتقدر نبيهه أن حمادا سيعلمها الليلة ويتشاجر،فلما سددت يدحماد اللكمات إلى الأمام ثم تلتها صفعات،كانت هي تحجب جسد نبيل الحلاق خلفها،وكانت تصرخ صراخها المعهود الذى تجد فيه متعتها.
والمتولي الأعوار القصير الربعة مدكوك اللحمفى قصة (المتولى والكلب)الذى تتوافق رغبته فى التخلص من بوله،مع رغبة الكلب الأعور-هو أيضا- ويأتيان نفس الفعلة فى نفس اللحظة فى نفس الظل الذى يسقط تحت الشباك المواجه لباب قهوة حماد الواطئ. المتولى كان يتسمع صوت اندفاع بوله وبول الكلب الساخن كان يبلل مؤخرته العارية،لما أفاق فزع وانتقض يتدلي سرواله منه وبوله يتطاير أمامه وعلى ساقيه يلتصق،نفس الأمر حدث للكلب فنبح وهاج واعتلى ظهر المتولي وجر جلبابه من على قفاه والمتولي يتشبث بيديه فى حديد الشباك الواطئ ويصرخ مستغيثا.
المجموعة محتشدة بالشخصيات الضاجة بالحياة المتعثرة فى فقرها مثل الشيخ عبد العزيز مدرس أول الفقه بالمدرسة الثانوية الأزهرية وطلابه سعيد البلقاسي ومختار ابن المقرئ وصبري بن السيد وهدان فى قصة (صباحية الخيول)
شخصيات كثيرة تنبض بالحياة بالرغم مما تعانيه من فقر وإدقاع وظلم.حتي الشخصيات غير المسماة كالجد والأم والأب والحبيب والحبيبة وجامع التبرعات الكهل وبائع المجلات الأعراج وعامل المزلقان مبتور الذراع والمذهول والطبيب والممرضة والتومرجي وعامل النظافة..جميع هذه الشخصيات،وغيرها،بالرغم من نمطيتها وأدائهالأدوارهاالوظيفية،فإنهاتتمتع بحضورإنساني جعلها تقترب من الشخصيات المسماة فى الإقبال على الحياة والتأذى من تصاريفها.
(3)
وجميع الشخصيات المحتشدة فى المجموعة-مسماة أو غير مسماة- شخصيات فقيرة من الناحية الإقتصادية.حتى الشخصيات المتوسطة كالمعلم والطبيب وأصحاب العزوة هى أقرب إلى طبقة الفقراء منها إلى دنيا شرائح الطبقة المتوسطة.
والفقر-كما يبين فى قصص المجموعة- ليس مجرد حرمان اقتصادى وإنما هو أسلوب حياة له ثقافته المكونة من خليط غير محدد النسب من العوامل الاقتصادية والسياسية والنفسية.
وانثروبولوجيا.فإن لثقافة الفقر سمات رئيسة منها وجود أنماط خاصة للحياة العائلية،ومنها أساليب التنشئة وعلاقات الذكورة والأنوثة مع شيوع قدر ملحوظ من اللامبالاة والاستسلام،الذى قد يحتوى على بعض حالات التمرد،باعتبار الفقر قدرا لأفكاك منه.وعلى غير هذا الإتجاه الأنثروبولوجي تلعب الأبنية الإقتصادية والسياسية دورا رئيسيا فى هذة الثقافات التى نري نماذجها العلمية فى سلوكيات شخصيات ابراهيم جاد الله علي تنوعها وحبها للحياة.وقد تنطوى سلوكيات بعض الشخصيات علي ثقافات فرعية ربما بدت على شئ من التضاد مع ثقافة الفقر التى نقول بها مثلما هو الأمر مع شخصية الراوى المتعلم الذى ظهر فى أكثر من قصة ويحمل سمات المؤلف ذاته،لكنها-أى هذة الثقافات الفرعية-ليست سوي تنويعات من ثقافة المجتمع الفقير تتصف بفرادنيتها وعشوائية مسلكها،فضلا عن أن التناقص الذي تزاوله ليس بالتناقص الجوهري.
(4)
ومن الأمر اللافت أن الطبيعة الريفية البكر لم تأت بحالتها الخالصة داخل قصص المجموعة،فهي دائما مختلطة بعناصر من البيئة المشيدة حيث الشخصيات مستقرة أو تائهة بين دروب ومسارب المشيد الراسخ.علاقة جدلية قد تبدو بسيطة فى مظهرها العام,لكن التدقيق فيها يظهر مدي تعقدها المساير لتعقدات الواقع قلنا بها في المقدمة,فقد تعاظمت قدرات النظم والمؤسسات والمبانى وحاصرت هؤلاء الريفيين البسطاء في بيئتهم, لم تفرق بين العامل والهامل,الصحيح والمريض,الساذج والمتخابث,فما عاد أى منهم بقادر على التعامل معها بالفطرة التى جبل عليها بعدما نال هذه الفطرة ما نال.
وتعلن البيئة الطبيعية عن نفسها بسفور داخل المجموعة لكن فى الأماكن الخارجة عن حدود القرية لاسيما عن رؤوس الغيطان العامرة بالفول المزهر,والقنوات المليئة بالمياه الرائقة,ومع الدورات الكرونولوجية كساعات العصارى والنهارات الباردة أو المشمسة,إلا أن وضوحها يعتريه بعض من شحوب,ربما بسبب قلة المساحات التى تحتلها داخل قصص المجموعة ككل وهيمنة النظم البشرية عليها.
ومع هذا،فالقصص جميعها تاخذ المتلقى مباشرة إلي قلب الريف المصري بطقوسه وتقاليده وسلوكيات أفراده.
حتى الحيوانات لها حضور معوض لشحوب عناصر الطبيعة. فالعصافير تحلق فوق الغيطان وتحط على أفاريز الشبابيك الخشبية,والحمير تروح وتجئ بأحمالها من البشر والأشياء,والأرانب تقتحم على المصلين صلاتهم,والفئران تنصب لها المصائد,وفضلات الدجاج والأوز متناثرة هناك وهناك.الديوك تصيح والكلاب تنبح والجاموس يمضى والحصن تتلاقح.
إذن فالحضور الريفي المدعم لمكانة البيئة الطبيعية لايحتاج لثمة إعلان,لكنه حضور غير مكتمل لأنه حضور قلق منهزم فى داخله,حضور محشور فى عنابر المستشفيات والعيادات الريفية قصتا قلب ام وسيماء المواجهة),المساجد(جمعة الأرانب)والبيوت(قصص مربعات الضوء المعتم- غيوبة, تهيؤ)المدارس(موقعة سعيد البلقاسي)المقاهي(قصص مربعات الضوء المعتم,من فصول اللذة والألم ,وساعة من نهار عادى)الميادين الصغيرة(علاقة),الأوتوبيسات استحواذ القطارات (ضوءخاطف فى العاشرة مساء وتحقق احدي الخيبات)..وهكذا.
(5)
وللسخرية ملامح تبين بين ثنايا كثير من قصص ابراهيم جاد الله,وهي سخرية تعود بنا إلى المباهج البدائية على النحو الذى قال به سيجموند فرويد وتذكر أيضابما قال به هنري برجسون فالسخرية-بما تتضمنه من اضحام-نشاط انسانى عقلاني وجماعي,فلا سخرية ولا ضحك الا فيما يمس الناس,ولن يكون لها وجود إلا إذا توجهت إلى العقل المحض,لأن تحققها مرتبط بالصدي الذي تحدثه فى بنتية المجتمع .ومعالجات ابراهيم جاد الله الساخرة لاتخرج عن هذا الأمر.وهو يسخر-دونما مبالغة-من مظاهر اللامبالاة فى المجتمع الريفى المصرى،ومن الانبساط النفسى الذى جبل عليه أفراده ، ومن حالات الذهول المصاحبة للتخلف.
ومن ناحية أخرى يراهن ابراهيم جادالله على أن الشخصيات الريفية المهمشة التى تبدو فى ظاهرها مستنيمة ومستسلمة لعوامل القهر والاستلاب ، ما تزال قادرة على إتيان فعل الابتهاج.
هى إذن روح الدعابة التى تشى بغضب وتذمر مكبوتين وهذا ما تنبئ به قصص (جمعة الأرانب) حيث يتخلى المستمعون لخطبة الجمعة عن الخطيب الثائر وتهديداته ويلتفتون إلى الأرنبين اللذين اقتحما عليهم المسجد ، و(المتولى والكلب) حيث يعتلى الكلب الأسود الأعور نظيره البشرى فى واحدة من أكثر قصص المجموعة سخرية،(موقعة سعيد البلقاسى) حيث لايحتمل سعيد هزر زميليه لسماجته فيرفعهما من مجلسيها ويصادم جبهتيهما بعضهما بالبعض أمام دهشة أستاذهما المعمم ،(وصباحية الخيول)حيث يصيح صلاح محمسا حصانه للتعجيل بعملية التلقيح ((الله اكبر ..صل على النبى ..شد يا واد شد يابركة )) ، وفرحة التلاميذ الذى وقفوا ليشاهدوا عملية التلقيح واحتضان صلاح لرقبة حصانه منتشيا بينما يسكن السعيد رشاد ماء بارد من علبة سمنة قديمة فوق مؤخرة مهرته بينما تتحول حمحمة الخيول المربوطة إلى عرباتهاإلى صهيل ...وهكذا .
(6)
تقودنا هذة السخرية إلى الطريقة التى عالج بها ابراهيم جادالله مظاهر القبح فى واقع القرية المصرية . وعادة ماتثير جماليات العمل الفنى الذى يتناول مظاهر القبح الواقعى نقاشا قد يتماس والمحاكمات الفلسفية لاعتماد كل من الجمال والقبح على الحكم الذوقى .والحكم الذوقى ليس حكما منطقيا ، لاقوامة معرفية له ، ولا ينطوى على باعث نفعى .لكن ليس ثمة ما يمنع _على نحوماذهب (كانت) من إلحاق هذا الحكم بعد صدوره بصيغة نفعية .معنى هذا أن للذوق وظيفة إجتماعية ،لأنه هو الذى ينقل العواطف الخاصة إلى الآخرين ويشبع الميل الفطرى لدى الفرد نحو الاتصال بالغير ، وقد شاركه (جادامر) نفس الرأى وأكد على أن نمو الفنى من خلال خبرة الذوق الجمالى هو اتجاه برانى نسبيا، وأن الذوق حس مشترك ، ومن ثم فإن الخبرة الجمالية تنطوى على أحاسيس متصلة بالسياقات الثقافية والخبرات الإجتماعية التى قصرها ابراهيم جادالله على القرية الريفية الآخذة بتلابيب التمدين .
ومن ناحية أخرى لا يشهد الجمال الفنى لصاحبة بأى
ميل حقيقى إلى الخير أو بأى نزوع أخلاقى كائنا ما كان . نقول هذا لأنه كثير ما يتم الربط بين الإهتمام بالجمال والتمسك بمكارم الأخلاق .
نقول هذا حتى لايسارع البعض بإقامة علاقة عكسية بين ما نقول وما أورده ابراهيم جادالله من مظاهر القبح المجتمعى فى قصص مجموعته .
وبصفة عامة فان ما يقال عن الجمال ينطبق على القبح . فالقبح، شأنه شأن الجمال، يشير إلى حكم على شىء أو
معنى ، فعل أوفعل ، بانه ليس جميلا او لايتوافر له القدر الذى يسمح له بان يكون جميلا . وما دام الأمر كذالك ،فإنه يمكن النظر إلى الجمال والقبح على أنهما دائرتان مختلفتان الجمع بينهما وارد . معنى هذا ان الخلط بينهما أمر ممكن الحدوث وهو مايعبر عنه فنيا ((بجماليات القبح)) فى الواقع المعاش ، قد يستتبع إصدار الحكم بالقبح على أمر ما حكماآخر بالنبذ نفيا أو عزلا ، لكن مع العمل الفنى فإن الأمر يبدو على قدر من التدخل لاشتباك القبح مع جماليات الإبداع ، ولعلنا لا نغالى إن قلنا بقدرة المعالجات الفنية الراقية على الإرتقاء بمظاهر القبح ، التى يستبشعها الذوق فى الواقع المعاش ، إلى أفاق من السمو الجمالى إن صح التعبير. ولا يحدث هذا عن طريق التماس مع الجميل من الأحاسيس والمشاعر الإنسانية .
وإذا انتقلنا إلى السرد القصصى فى مصر ، فإنه يمكن القول بأن جله استهدف هذا السمو الجمالى بتقبيح الشائه المستهجن بمختلف تجلياته ، لكن فى حدود علمى فإن اثنين –فقط- من السراد المصريين إهتما بالمنطقة المشتركة بين الجمال والقبح على النحو الذى قلنا به ، وأقصد بهما محمد روميش فى مجموعته القصصية (الليل الرحم ) وصنع ابراهيم فى رواياته (تلك الرائحة ) ، (اللجنة)و(شرف).
إليهما يمكن ضم ابراهيم جادالله بمعامل ثقة معقول ،ذلك أنه تعامل –مثلهما بجراءة مع مظاهر القبح المجتمعى . ومن منظور واقعى فان الجرأة وحدها لا تصيغ فنا جيدا ،وإنما يلزم أن تسهم فى إنتاج معرفة أفضل أو تفهما أعمق أو إدراكا أشمل للواقع ، مع تحقيق قيمة مضافة – إن صح التعبير – للوجدان إحساسا ومشاعر ،وهذا ما يمكن تلمسه فى عدد غير قليل من قصص مجموعة (ظهيرة اليقظة) ساعد على هذا اللغة البرية المطواعة التى هى فى عفويتها بنت بيئتها ، فلا هى مغرقة فى البدائية ولا هى مترفعة مصبوغة بتثاقف أهل التمدين . هى لغة مهمشى الريف فى حالات التحقق والإنهزام ، النهوض والسقوط ، البراءة والدناءة . لغة جامحة قد تشغلها محاولات التخلص من مكابح الثقافات الأرقى ، لكنها بجسارتها وصراحتها تكشف مواطن القبح وتسلمها للمعالجات الجمالية فتقربها من ذائقة الملتقى الذى يقبلها دونما امتعاض أو نفور .
فى القصةالأولى (قلب أم) يصرخ محمد العصابى برأيه عاريا قبيحا ومبتذلا فى النساء فتتوارى المشرفات والممرضات والحكيمات خجلا . وفى قصة (غيبوبة ) تنشغل الأم والأبناء بتوصيل خرطوم حقنة شرجية إلى جوف الأب ويوصلون الخرطوم بحنفية الماء المغروزة أسفل حائط الحمام ، ولما كان تدفق الماء من الماسورة ضعيفا صرخوا فى الأم لتدير موتورا كهربائيا ليشتد اندفاع الماء عند فتحة الأب السفلية فتمتلىء بطنه أو أمعاءه بالماء ، يتململ على إثرها جسده الثقيل وتتسع حدقتا العينين ((فينزع أوسط الأبناءالخرطوم منه لتندفع كرات صغيرة جافة نتنة الرائحة مع اندفاع الماء التى لم تستطع عضلات البطن أن تقبضها ويعقبها سرسوب غليظ من براز مذاب)) فيأخذه أحد الأبناء بين أحضانه
بساعدين قابضين على الجسد الممتلىء ويرفعه من تحت إبطيه وقوفا ويكون الأوسط المدرب قد غسل له مؤخرته
ونظفها تماما ..)). وفى أقصوصة (توائم الألم) تنفتح الغرفة على فضاء سطح إحدى البنايات تبرقشه فضلات دجاج متكورة وأخرى لأوز..خضراء قاتمة . وفى قصة(تحقق إحدى الخيبات ) تشهد دورات المياه تنهدات محمومة لرغبات مكبوتة ، ويلقى التلميذ دفاتره المدرسية على تلة ترابية ويفك سرواله ويصطنع البول التهاما لزمن المسافة الفاصلة بينه وبين المسافة القادمة .وفى قصة(المتولى والكلب) يرخى المتولى إليتيه الغليظتين العاريتين إلى الأرض وتضغط ركبتاه القصيرتان على بطنه التى ليس بها أى استواء فتنقلت من أسفله أصوات ضخمة طويلة متقطعة قبل أن يندفع بوله مكونا أمامه بركة تتصاعد منها أبخرة نشادر حارقة ..بالإضافة إلى أفعال الكلب المماثلة . وفى قصة (صباحية الخيول ) يغمز صلاح بن محمد بهجات لجام حصانه باتجاه مهرة السعيد رشاد فيعاود الحصان دفن رأسه بين فخديها صاعدا ببوزه ومنخاره إلى أعلى المؤخرة وترتعش شفته العليا فوق أسنانه ويحمحم بينما تواصل هى فعل الإنقباض والإنبساط من الخلف تحت الذيل المنتصب،وحركة الأشداق التى تسارعت من الأمام فيفاجىء الحصان الجميع ويعتلى ظهر المهرة وبروز غليظ من خلفتيه ، أسفل بطنه، مصوب فى اتجاه صحيح .وفى قصة (ظهيرة اليقظة) خلعوا عن الراوى المريض كل ملابسه وألبسوه ثوبا مشقوقا من الخلف فظل ظهره عاريا ، حتى المؤخرة لم يتركوا شيئا يسترها والبنات النحيفات يرحن ويجئن من حوله ، ويتذكر السيد ابن خالته عائشة الذى نام مع حنيفه بنت البرقوقى نومة الرجل مع امرأته ((وكان دمها سايح يملا حوضها )) هو نفسه فعل فعلة ابن خالته هذا لذا هو خائف أن ينال نفس المصير .
ربما شوه التلخيص جسارة الأسلوب وطزاجة اللغة وهما علامتان بارزتان فى أغلب قصص المجموعة. يضاف إليهما جودةالسبك وظرف العبارة وإتقان الصورة واضطراد الإيقاع مع نبو عن لإبهام والشرح والتفسير والخطابة فسهل بذلك عن الملتقى معايشة الواقع الذى تعرض له المجموعة وكل منها مزية فى حد ذاتها .
لكن لم يخل الأمر بطبيعة الحال من أشياء نذكر منها التقدمات التى صدر بها المؤلف بعض القصص فبعضها من الأفلام الغربية .. الكوميديا الإلهية لدانتى (جمعة الأرانب) وقصيدة لأوراق الميته لجاك بريفيير (قبة النهار) ورسائل رامبو إلى أهله ومثل روسى (ظهيرة اليقظة) وجميعها فى رأينا لا تتوافق والأجواء المصرية الريفية للقصص التىتصدرتها .
وبعد، هل توافقوننى إن زعمت أن إبراهيم جاد الله قد تمكن فى (ظهيرة اليقظة) من الإمساك باهداف فتيلة تدخل فى تكوين خيط غليظ من خيوط واقع ريفنا المصري ؟..
إن قلتم ربما فهذا هو النجاح بعينه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق