*****\
الفصل 17 من ( اشتعالات الضوء )
الجزء الثانى من ( الثلاثية البغدادية )
_________________
17
عبرنور سكة الترامواى القديم الذى كانت
تعبر عرباته على خط الكاظمية وكان متجها صوب سوق الجديد فى جانب الكرخ حتى سوق
الشواكة ، ومن دكانة كبيرة تباع بها الأخشاب ، قصد فى تلك الساعة من نهار قائظ
ناظم الخير إبن الحاج عبد الإله الخير ، وكان يدرك وجوده أثناءها نياية
عن
أبيه الذى يباشر دوما فى تلك الأثناء تخزين الأخشاب الواردة إلى تجارته من الموصل
بمخازنه الكبيرة ، لاقاه ناظم مهللا، وإشارات من كل ملامحه وحركات جسده كالتى كان
يكثر منها أثناء الدروس التطبيقية لفن الإلقاء والتعبيرات بالجسد التى كان يدرسها
على يدى نور بأكاديمية الفنون وبالجامعة المستنصرية ، وراح يصيح بحسين المصرى
العامل العجوز الذى لم يبدل عمامته الصعيدية منذ أول مرة شاهده فيها قبل عام
،وبنفس سمرة وجهه الصارمة بتجاعيده قاسية على ملامح الطيبة والوقار، هرول الرجل
على التو يحمل بين يديه وبهمة شاب فى الثلاثين كرسيا غير بعيد عن مكتب الحاج عبد
الإله
- تشرب بارد واللا
شاى صعيدى أستاذ نور؟
- صعيدى وتجيل
ياعم حسين خلليه يغلى فوج النار
- لو يغلى فيه
إضرار ياباشا
- روح جيب بارد
الأول ياعجوز وبعدها سوى الشاهى
قالها ناظم وهو يجفف عرقا كان يلمع فوق جبهته
بمنديل ورقى معطر، ومتأسفا من انقطاع الكهرباء فى تلك الساعة القائظة، وكأنه خارج
للتومن سباق للركض الطويل
- خير أستاذ ؟ أى
ريح طيبة ألقت بك إلينا فى تلك الساعة؟ ، وآسف فقد كنت مع العمال بالداخل
- خير إن شاء الله
ناظم فقط أريد استعمال هاتفكم لاستدعاء صديق لى ، وأتعشم أن تجد لنا خلوة لدقائق
داخل الدكان بعد حضوره
- تدلل ونحن ننفذ
أستاذ نور أهلا بك وبصديقك ، وما رأيك لو أحضر لنا العجوز غذاء من المطعم المجاور
إكراما لك ولصديقك
بوركت ياابن الكرام ، وزاد الله من خيرك وخير
أبيك
هاتف نور أحمد مسرعا قبل عودة عم حسين المصرى
، وكان ناظم قد دلف إلى داخل المحل ، تاركا المكان كله لينفرد بحديث قد يكون سرا
كما لمحت من علامات وجهه، ولما أتاه صوت أحمد كأنه كان يرصد أثيريا ساعات خروجه من
الموصل ووصوله إلى بغداد ، أو كأنه كان ينتظره بجوار الهاتف مذ حادثه بالأمس ،
فأخبره بمكانه الذى اهتدى إليه سريعا واستأذن أن ينهى المحادثة ليعجل من أمر
ملاقاته بضيافة ناظم
وما هى غير نصف الساعة بالكاد حتى تراءى له
مقدم سيارته الفولفو الحمراء ويبدو أن أحمد شق الطريق إليهم بصعوبة لازدحام الشارع
، ودلف إلى الداخل مسرعا على ملامحه استكانة
غير مألوفة وبالعينين انكسارات حزن ، وبعد عناق بينهما كان ناظم قد عاد من
الداخل على وقع الترحيب والمعاتبة اللينة ،
فقدمه نور لأحمد
- هذاناظم أحد عباقرة الكتابة المسرحية القادمين
بالعراق، شاب متوثب ومثقف حقيقى بكل فنون المسرح ، وزد على ذلك ، هو ابن الحاج عبد
الإله أحد أكبر تجار الأخشاب بالكرخ وهذا السوق ، والده أكثر روعة منه ، أرجو أن
يسعدك زمنك بالتعرف إليه
تصافحا بحرارة
أثيرية من ناظم وبآلية غير معتادة من أحمد كان نوريدرك مبررها ، ولكنه سرعان ما
استعاد لياقة روحه ، وكأنه استدرك أمرا فاته ، وعاد مرحبا كالمستفيق وهو يشد على كف ناظم ويأخذه
إلى صدره من جديد
- أستاذ نور. هناك
مقعدان بالداخل حتى يلحق العجوز بالبارد
إليكما ، خذا راحتيكما
شكر لناظم صنيعه ممتنا هو وأحمد وبصوت واحد
، ودلفا متشابكا الكفين إلى الداخل حيث سراديب معتمة بين رصات الخشب العالية ،
وبآخرها مقعدان خشبيان صغيران كالذى نراه على رصيف المقاهى ببغداد أوبمقهى حسن
عجمى على وجه الخصوص .
- أين
الرزنامة التى أخبرتنى عنها ياصديق. ولم أخترت حفظها عندى وأنت تعرف أنى غير آمن
مثلك برغم الكرم والأمان الذى بلغ مداه لنا ونحن قلة من كتاب وفنانين مصريين
استضافنا العراق بعد أن ضاق نظام السادات
بنا ذرعا ، ولكنى عرفت أن عدى على وجه
التحديد وصله أمر اعتراضى على النص المسرحى الذى رغبوا أن أضع له الخطة الإخراجية
أو أشرف عليه ، وقد عرفت أنه مهتم بأمر هذا الرجل كاتب النص الذى لايروق لى أبدا
لهزاله وتفسخه وسطحية أفكاره
وديماجوجيتها؟
- القصة أكبر من
هذا ببعيد أخى نور ، وأنت قلت العراق هوالذى استضافكم وليس نظامه الحاكم ، ولذا
ستجد نفسك أينما تولى برأيك ، مع أو ضد . من هم من أهل العراق من يلقاك فى شغاف
روحه ويفتديك بما غلى ونفس ، ولكن هاهى البنادق تدفعك نحو البنادق لا خيار ، بين
نار ونار ، وما عليك غير أن تتقدم
كانت عبارت أحمد
هو يرتشف شايه محملة بأسى من نوع غريب لم يألفه نور منه ، فقد كان شديد الحرص أن
يستفز مخزونه دائما من نكات مصرية يشغف بسماعها وطريقة أداء نور لها مما يجعله فى
حالة من انتشاء كانت تبهجه دوما رؤيته ضاحكا بصوت عال حتى تدمع عينيه لكثرة الضحك
، حاول نور قص عليه آخر نكتة ألقاها على حسين الصعيدى قبل ذهابه لتنفيذ رغبة ناظم
بجلب طعام لهم من مطعم تفوح منه رائحة شواء الشبوط والبني والكطان والجري والصبور
بالشواكة ، ولم يحرك لها سوى شفتين جافتين
- أهبل ليلة عرسه
مالقى موضوع يتكلم فيه قال لزوجته : أهلك عارفين إنك عندي؟
تفاجأت برد أكثر
سخرية نعتادها نحن المصريون، ولم يحرك شفتيه إلا عن ابتسامة باهتة.
- قديمة ياصاحبى ،
لكن ليست سخيفة
واندفعا لا إراديا
فى ضحك ممرور، وكان يهم بحمل لفافته التى تحمل كتبا وملفات راح يعدد له محتواها.
- محفوظة لدى لمعرفتهم بعدم الشك فى بأنى منتم
لهذه التوجهات بسبب رؤاى العلمانية كما يفهم عنى ، ولأنى ياصديقى مسافر قريبا إلى
البصرة فى استدعاء عاجل وصلنى بالأمس ، ولم أشأ ترك هذه الأشياء ببيتنا ، فهى قد
تجلب الأضرار لوالدى ولأهل البيت ، برغم أن الوالد أشار على بتركها وهو سيقوم
بمهام إخفائها
شعرنور بكثير من
مسؤولية تجاه هذا الصديق الذى تسرى محبة روحه داخل أنسجة روحه ، وكثير من امتنان
لأسرته وبخاصة والده الذى تأسره ملامحه القريبة الشبه بملامح والده الذى يضنيه
القلق لغيابه حيث هو بمصر الآن ، ولأمه ، تلك العراقية الجسورة الدافقة الحنان ،
التى ما أن تسمع من أحمد عن قصص حنين نور لأهله بمصر حتى تهدر دموعها على خديها ،
وكثيرا ما تستجدى أحمد وشقيقه إبراهيم أن لا يتركاه يشعر بالغربة مهما كلفهما
الأمر ، وأن قلبها ينتفض كقلب أم حقيقية ، وكأنه أتى من بطنها مثلهما ، وبالكثير
من مشاعرمرتبكة أحيانا ومندفعة إلى مجرى دم فى عروقه أحيانا لتلك الشابة التى تخضر
زروع نبوغها وتوقدات ذهنها يوما عن الأخر، سارة التى صارت تستحوذ كثيرا على
تأملاته .
لم يشأ سؤاله عن سفرته المقتربة إلى البصرة،
ولا عن أسباب استدعائه ، فقد تحصل على تثبيت لهواجس مرئية ، وشواهد ملاحظة بغزارة
هذه الأيام حين كان بزيارة الموصل بالأمس، فسرعان ماشعر ناظم بانتهاء حديثهما
الجانبى ، فهم إليهما طالبا تشريفهما له بمكتب والده الذى يحل محله فى الجلوس إليه
حتى يعود ، ولكى يلتم ثلاثتهم حول لفافات سمك المسقوف ( المسكوف) التى أحضرها لهم
حسين الصعيدى من المطعم ، ومصرا فى الوقت ذاته أن يجلس حسين معهم مشاركا الطعام
أيضا ،التفوا مقتعدين مقاعد خشبية مرتفعة قليلا ودائرية حول المكتب المستطيل ،
وأمام كل واحد مهم سمكته وبصحبتها الخبز ، فاندفع صوت حسين عذبا شجيا رجوليا كما
يعهد على أهل صعيد مصر ، ورفع عقيرته بأداء عراقى النبر وهو يبتسم فتبدو أسنانه
وكانها مطلية بالجير المصفر :
(يا صياد السمك..
صيد لي بنية.. قلبي بشبك صادوه وما حن عليه)
كانت عينا ناظم
تتابع القلق الذى يصحب ذبولا واضحا فى بريق عينى أحمد ، ومما كانت تنطق به نظرات
نور الشاردة التى كانت تلاحق فيما قبل عيون حسين الدامعة دائما ساعة غنائه ، ولاحظ
الرجل الأمر هو الآخر فصاح بصوته الضاحك من جديد:
- بِس الله يخيبك
جطة الحجوا ياجماعة الجطة راح تاكل السمك
اندفع الثلاثة فى ضحك مباغت سرعان ما توقف
وانكبوا على طعامهم ، ما أن فرغوا منه حتى قادهما عم حسين إلى داخل المخزن حيث
دورة مياه ضيقة بطرف قصى منه تتكدس أمامه رصات أخشاب أيضا ،لاتحوى غير جلسة صغيرة
لقضاء الحاجة ومبولة وحوض غسيل فوقه صنبور قديم تتقطع منه خيوط ماء رفيعة ، غسلوا
أيديهما بالكاد منه،وعادا لمجلسهم الأول حيث تناولا الشاى على عجل نزولا على رغبة
أحمد بضرورة العودة سريعا إلى البيت لإعداد أمر سفره إلى البصرة، وحين عانقه نور
بالخارج وهو يهم بركوب سيارته الفولفو الحمراء شعر للمرة الأولى بضربة مباغتة داخل صدره يهتز لها
ما بالقلب والذكرى والحب لهذا الصديق الرائع، ويرودة بأطراف أصابعه بينما كانت
دمعات تترقرق فى المآقى ساخنة تحشرجت على إثرها العبارات بحلقه ، فاستدار مسرعا
يقبض ناظم على كفه بحنو وعافية سرت فى جسده من جديد على إثرها قشعريرة اطمئنان .
عاد من جديد إلى داخل المخزن مصطحبا ناظم
ليودعه لفافة أحمد ، ومستأمنه على محتوياتها مقدرا أمر مداهمة مسكنه بما توافر
لديه من خبرات سابقة فى الملاحقات الأمنية التى هى هنا أكثر ضراوة مما كان يلاقيه
بمصر من رجال أمن الدولة ، بينما تابعه عينا حسين الصعيدى وهو أودعهما عند غروب
شمس هذا النهار ، وكان يستطيع تمييز ما ينطقه من حروف كلمات مبهمة متقطعة
- ياخسارة عليكى
ولادك يامصر
فى لحظة خاطفة رآه
نور يحتضن الملف نيابة عن ناظم ويختفى عن ناظريهما بالشوارع الخلفية