عربى فى بغداد
المتنبي التمثال
والمتنبي شارع المواجهة الثقافية
ابراهيم جادالله
فى ليلة الجمعة التاسع من نوفمبر الماضى عام 2012 التى وعدنا فيها منظموا مؤتمر الترجمة الدولى الثانى ببغداد فى بزيارة شارع المتنبى، صعدت إلى غرفتى بفندق المنصور ميليا أهيىء روحى للقاء الغد الذى تعاقبت عشر سنوات على غيابى عنه
كنت أتمنى ، وحاولت أن أصفه قبل الطوفان، والحرائق، قبل البطش والقمع والتذويب، قبل التهجير والتنكيل، قبل أن تحترق خيمة الشعر والشعراء، قبل المناسي والمنافي، قبل عولمة التاريخ والدين واللغة والشعر الحكومي، قبل عولمة تحسين الأخلاق والجنس ، قبل كل هذا وذاك، كنت أريد أن أصف "المتنبي" شارعا، ثقافيا، رائعا على مستوى المكان ، أصفه ذاكرة معرفية، وحضارية لبغداد بدءا من أنكيدو مخلصا وإلى المتنبي شهيدا ووصولا إلى الرصافي مشردا والجواهري الراحل في منفاه وحتى السياب غريبا يقف المتنبي النصب، شامخا مرفوع الرأس، قبالة وزارة الحربية، قامة شعرية جمالية وأخلاقية، يقف، ممتشقا سيفه، حاميا، وراءه قاعة ابن النديم المفهرِس ،قائدا جيشا من الشعراء والكتاب والفلاسفة ، المتنبي مالئ الدنيا وشاغل الناس، وبعد أكثر من ألف عام تجده اليوم يقود هذا الجيش العظيم من الآداب والمعارف والفنون ومن مختلف جنسيات المعمورة، يقوده من داخل فضاء المكتبة الوطنية العراقية قبالة وزارة الحربية تماما!!
مواجهة حقيقية بين الكلمة والرصاصة بين القصيدة والمدفع بين اللوحة والدبابة مقاربة غريبة من نوعها، ليس على صعيد العراق أو الوطن العربي بل على صعيد العالم.
غير أن المشهد الأكثر غرابة هو اختيار نصب المتنبي تمثالا في مكان لم يدر في خلد المتنبي، وأيضا لم يرد في خطابه الشعري إطلاقا انه سيكون قبالة ديوان دار الحربية تلك الدار التي اغتيل المتنبي بإحدى آلاتها في النعمانية جنوب بغداد.
بالقرب من المتنبي قائدا لدار الكتب وقبل أن يحرق جيشه بوحشية قل نظيرها في زمكانية المعمورة، بإمكانك ان تمر على "ساحة الميدان" ساحة تعاقبت عليها حقب ومحن، خطا على أزمنتها وأمكنتها، جنرالات كبار يتبعهم عساكر صغار، موظفون مسلكيون مهندمون بعناية، عمال عاطلون، مشردون، تعساء، مجانين منقطعون، صبايا حالمات، نساء خذلتهن العنوسة، ملكيون متقاعدون مقامرون حاذقون، محتالوا التحف المزيفة حلاقون وحلوانيون، أكاديميون، وفنانون، شعراء "قريضيون وتفعيليون" الرصافي، الزهاوي، الجواهري، البصير، السياب، سليمان العيسى، نازك الملائكة، عاتكة الخزرجي، مظفر النواب، البياتي، لميعة عباس عمارة، حسين مردان، سعدي يوسف، بلند الحيدري، حسب الشيخ جعفر، فاضل العزاوي، فوزي كريم، هاشم شفيق، شاكر لعيبي.. وغيرهم من الشعراء والمثقفين العراقيين والعرب ، وكان لى شرف مشاركات بينهم ثمانينات القرن الماضى.
كنت أتأمل رصيدا من ذكريات باذخة لساحة الميدان التى تقودك عبر مدخل "شارع الرشيد" الممتد حتى "شارع أبي نواس إلى مقاه، شكلت محطات ثقافية ومعرفية فاعلة وناشطة في ذاكرة الرشيد شارعا، وفي ذاكرة بغداد عاصمة ، وفي ذاكرة الأجيال الأدبية المتعاقبة إبداعا متوهجا
"الزهاوي" أول المقاهي الثقافية ـ من حيث الترتيب ـ في شارع الرشيد من جهة ساحة الميدان، هدوء مفعم بالكلاسيكية الصارمة يملأ فضاء هذا المقهى، الذي ما زال ماثلا في ركنه الهادىء، مقهى كان يمكن أن يراه الزائرون اليوم مطبعة تجارية لعلب الأحذية والزيت والحلويات وبطاقات التهنئة، والأعراس لولا، كان رواده المخلصين من الملكيين والجمهوريين الوطنيين وشعراءه العموديين من المحامين والقضاة وكتاب العدول وأكاديميي الجامعات قد تداركوا الكارثة في إزاحة المقهى وطمس هويته الأدبية والثقافية خلال عقد الثمانينيات من القرن المنصرم، معتبرين فكرة الإزاحة إلى ما هو تجاري مسخا، متعمدا لإرث مكاني، ثقافي وحضاري من عمارة الفكر الثقافي العراقي.
لقد أنقذ أولئك الرواد وعاشقو ومحبو القصيدة الخليلية وفرسانها ومخلصو الزهاوي الشاعرالفيلسوف
أقول لقد تمكن أولئك المخلصون من إنقاذ المقهى من كارثة الإزاحة والانهيار ، وبعد مرور أكثر من عشرين عاما، على تلك المحاولة الكارثية، مازال الزهاوي المكان محتفيا باستقبال رواده وزائريه ومحبيه ومودعا اياهم بخشوع وهدوء صوفيين مفعمين بعبق التاريخ والشعر ، وما زال الزهاوي الشاعر بـ "سدارته" البغدادية يتطلع من داخل إطاره بالأبيض والأسود بعينين سادرتين، إلى تلك الحركة اليومية الدائبة. لأكثر العواصم في الدنيا مقاهيها الثقافية، مقاه كانت تبدو في أنظارنا كبيرة وعظيمة، لكننا حين نكبر تضيق الأمكنة وتقصر المسافات لنكتشف، بل، نصطدم بالكارثة من جديد، إذ إن جزءا واسعا من جغرافيات المقاهي/ المكثقافية، قد زحفت عليها حداثة العمارة الإسمنتية أوإن البعض منها، تعرض للإزاحة القسرية لدواع وبواعث، مادية أو لدواعي الخوف من اتساع هذه الجغرافيات وما تشكله أنشطتها وفعالياتها من نتائج مقلقة لدواوين السلطة، ولأن هذه الأمكنة أيضا تعبر حدودها الجغرافية لتصبح مثل الضوء بلا حدود.. في شارع الرشيد الموازي للماء ماء كالفضة النقية ماء آت من الشمال ومتحدر نحو الجنوب إنه نهر دجلة، نهر نبيل يمر بالمدن ويشطرها إلى نصفين مليئين بالسحر والجمال العميقين في ذلك الشارع ستجد الزهاوي/ المقهى، الصغير ذا الواجهة الزجاجية شاخصا مهيبا في أحد تقاطعاته المقهى، الذي كان الزهاوي الشاعر يؤمه مع جموره المخلص ومن خلال الواجهة والضوء الحاد لأشعة الشمس اللاهبة في صيف بغداد القاسي كان بإمكانك أن تتطلع إلى وجوه المارة نساء ورجالا يعبرون الطريق بوجوه صامتة قلقة، وما أن يراك "الجايجي"* قد جلست في مكانك يتقدم إليك ببطء ورزانة ليسألك "ماذا تشرب شايا أم حامض"، وإن تأملته وهو يقدم إليك ما طلبت، بأدب واتزان مثيرين لتصوراته جزءا من تاريخ وعمارة المقهى بدونه سيفقد المقهى بعضا من جماله وروعته وهيبته، وهو لا يتوقف عن حركته البطيئة بين زبائنه اليوميين يعرفهم ويعرفونه، علاقة حميمة رائعة تملأ فضاء المقهى حوارات وتنظيرات وسجالات ساخنة في الخطاب الشعري العربي القديم والمعاصر على حد سواء في الفنون والسرديات وفي القضايا الانسانية العامة الاخرى.
كان الزهاوي/ المقهى فضاءا هادئا وحالما، كائناته قلقة جميلة تدخل فضاءها لتعيش قلقها وجمالها العميقين من خلال تجلياتها الروحية الخاصة، إيماءاتهم ورؤاهم، مسكونة بالحنين إلى الماضي بكل قيمه ومثله المتألقة، لكن دون أن يتقاطعوا مع مثل وقيم الحاضر.
سلاما أيها المتنبي شاعرا وشاهدا على حرائق بغداد الحضارية..
سلاما أيها الشعراء والمثقفون العرب الطيبون وأنتم ترون كل ذلك.
رأيتنى أخطو مخلفا الزهاوي/ المقهى ورائى باتجاه "ساحة الرصافي" وفي منتصف المسافة بينهما، تماما أصل متشوقا إلى مقهى "حسن عجمي" أكثر مقاهى بغداد قربا من روحى ،مقهى عتيق زاه وكان ملتقى لفرسان القصيدة الخليلية ورواد قصيدة التفعيلة على حد سواء إضافة إلى رجالات الآداب والصحافة والفنون الأخرى، مقهى عتيق ومليء بالذكريات، ذكريات المدينة وهي تؤثث عماراتها وتاريخها "قهوة حسن عجمي هي من أنظف مقاهي بغداد وتقع في الحيدرخانة بجوار مدرسة شماش اليهودية من جهة الجنوب ودكان الحاج زبالة بائع الدندرمة من جهة الشمال، ولا عجب فإن حسن عجمي نفسه كان أنيقا في ملبسه ومحترما في تصرفاته وكان يقتطع زاوية المقهى أيام الصيف للتلاميذ ليذاكروا دروسهم ويمنع لعب الطاولة أو الصياح قرب التلاميذ حتى ينتهوا من مذاكرتهم.
يطل هذا المقهى بذاكرته على شارع الرشيد والذي يفضي من على جانبيه إلى منعزلات ومناس اجتماعية اهترأت بفعل الزمن الذي مر عليها، وعلى مخلوقاتها التي لم تغادر مناسيها والتي قد لا تتصل ببعضها لأيام طويلة، مخلوقات تحيا لمساءاتها اللذيذة الخاصة، وغالبا ما تحاول تبديد وسامتها خاصة عندما تجدها مرمية في مقاه قريبة، كئيبة، وقد تتصل هذه المنعزلات أيام المحن، خاصة ببعضها بقوة وحدها تعيش أو تموت لتكتشف في نهاية الأمر، وهنها، وهي تخطو وئيدة تحت ضوء القمر المنسرب بين شناشيلها المهترئة والمتكئة على بعضها من أعاليها، لكنها تظل مأسورة بمناخاتها البغدادية العذبة، فهي قد أحبتها بدفء وعمق إنسانيين ورأت فيها خلاصها مثلما أحبت الحياة نفسها، تظل تجوس منعزلاتها ومناسيها وتعيد بين مرة وأخرى تشكيل أمكنتها الممتزجة وفق ذائقتها وتصوراتها القيمية البسيطة لمفهوم المكان، مشى العمر ومشت مخلوقات تلك المنعزلات نحو كهولتها وأفولها اأبدي وما زال الرشيد/ الشارع، تلك المسافة المرمية بروية وتأن بين الخطوة الأولى للشارع من جهة "ساحة الميدان" والخطوة الأولى من جهة أخرى شارع "أبي نواس" بعد عبورك تماما من تحت جسر الجمهورية، الآن جسر الملكة عالية قبل أن ينقلب المقلوب بقيادة الجنرال عبدالكريم قاسم على النظام الملكي في العراق إبان الصبيحة التموزية القائظة النهار من عام 1958م.
وكنت ومازلت واقعا تحت تأثير عشقى لشارع الرشيد الذى يعود تاريخه إلى أيام خليل باشا حاكم بغداد وقائد الجيش العثماني حيث "بدأ بتهديم أملاك الفقراء والغائبين ومن لا وارث لهم وأصبح الطريق ممددا واسعا تسلك فيه وسائط النقل بسهولة وسمي "خليل باشا جادة سي" وكانت اللوحة المعدنية المؤشرة على ذلك معلقة على جدار السيد سلطان علي الى ما بعد الخمسينيات من هذا القرن حسب المؤرخين ، وسمي عند أهل بغداد باسم "الجادة العمومية" ثم سمي "الشارع العام" وأخيرا عندما اجتمعت لجنة تسمية الشوارع والمحلات في بغداد اطلق عليه اسم "شارع الرشيد".
حين كنت أدلف إلى مقهى سيد "حسن عجمي" يأسرنى فضاؤه وحتى لو بدا في نظرى للوهلة الأولى مكانا كلاسيكيا تقليديا فإنه سيبدو غير ذلك عندما كنت أتأمله بعمق من الداخل وخاصة بعد أن أحتسي "استكان" ** الشاي المقدم الي بصمت من "شايشيها" أبي داود المخضرم بإدراكه النظامين الملكي الذي يكن له الاحترام والتقدير والجمهوري الذي بقي متحفظا منه حتى وفاته بعد رحيلى عن بغداد بسنوات قلائل كما أخبرنى أحد الأصدقاء، وما زال هذا المقهى محتفظا بأثاثه من "السماورات" و "النراكيل" و "التخوت الخشبية" و "الحصران"و "استكانات الشاي" يتوزع رواده منكفئين على مساحة ذات سقف عال وتاريخ ثقافي عميق على ثلاث مجموعات غير متجانسة.. مجموعة مدخني "النركيلة" ومجموعة مقامري "سباق الخيول والدومينو" ومجموعة اللأدباء والكتاب والصحفيين والفنانين والكثير من أولئك الاحبة كانوا عراقيين وعربا وفى أحيان أخرى ضبوفا غير عرب ، لم يتناس المقهى "حسن عجمي" جلساتهم وحواراتهم وسجالاتهم ومزاحاتهم العذبة.
هاتقتنى رائدة جرحيس القادمة من ويسكونسن خصيصا لتلتقى بى على أرض عشقناها معا / زكقهى ترضت أرواحنا فيه ، وقد نزلت ضيفة على بعض من أهلها البقيت بالرمادى . أنى حين نلتقى فى الغد لنذهب لحسن عجمى المقهى الذى عشقنا فعلى أن لا أنزعج نظرت الى فضاء المقهى الموحش والخاوي، وأنى لابد يسائل . أين غادر كل أولئك اللأحبة، وبإمكانى ان أتساءل، أية كارثة حلت في أفق وأبنية وكائنات الرشيد/ شارعا/ وأية كارثة حلت على فضاءات ومخلوقات مقاهيه؟ الرشيد/ شارعا يوازي ضفة دجلة لائذا، ضفة تاريخ وليال طوال وضفة حروب ومآسٍ وغيابات مجهولة، في ذاكرة الرشيد/ مكانا، جنوبيون وشماليون ومنقطعون من مدن عراقية قصية أخرى. اهترأوا من الصعلكة والجوع والقهر والتشرد ومن الوحدة المعذبة في مناسيهم الرطبة في غرف بائسة داخل أبنية مليئة بكائنات أكثر غرابة وألما وبإمكانك أيضا أن أتملي الصمت الإبداعي للرصافي/ الشاعر يقف مطلا على جسر الشهداء.. ومعاهدة بورتسموت التي أشعلت وثبة يناير/ كانون الثاني 1948م ومعركة جسر الشهداء يوم 27 منه إذ سفحت الدماء الزكية يقف في عراء الساحة الصاخبة بعينين مجردتين جاحظتين ووجه نحاسي صامت ومتصدىء، كأنه لم يعد يعنيه أن ينقب في ذاكرة بغداد طقوسها الصوفية، مباهجها، همومها اليومية، مساءاتها العذبة، مقاهيها المكتظة، تاريخها الخاص المميز، يقف هناك في مواجهة دجلة المحزون مثلى عندما شاهدته بعد دقائق من هبوطى على أرض بغداد ،يملؤه الاسى ومرارة الموت، ينظر إلينا بعينين جامدتين أكثر من جمود الحياة نفسها..!!
بين مقهى "حسن عجمي" ومقهى "البرلمان" أقل من مئتي متر،كنت غالبا ما أذرع تلك المسافة رواحا ومجيئا فى ساعات متأخرة من ليل بغدادى صيفى ، وهومقهى مهيب يقع في ركن من "درابين" شارع الرشيد قبالة "جامع الحيدرخانة"، الجامع الذي ألقى في باحته الشاعر الكبير الراحل الجواهري قصيدته في تأبين أخيه الشهيد جعفر أحد شهداء معركة الجسر ،ويعد هذا المسجد بزخرفته الفنية الرائعة أحد أهم معالم الفنون الإسلامية المتميزة في شارع الرشيد بما يحمله من أداء جمالي فني راقٍ ومعبر سواء على صعيد الزخرفة بأشكالها الهندسية والمعمارية أو على صعيد الخط العربي الذي زين واجهة الجامع من الخارج، خط عربي، أبدعته عبقرية هاشم الخطاط البغدادي.
في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي تعرض مقهى "البرلمان" لأبشع كارثة إزاحة عرفتها المقاهي الثقافية في العراق، مقهى ثقافي وميدان نزالات شطرنجية كبيرة وملتقى الأدباء والمفكرين والمثقفين من العراقيين والعرب والأجانب ينمسخ إلى محال مهنية متعددة، إسكافي يرمم أحذية الفقراء المعطوبة، ومطعم للوجبات السريعة وقرطاسي حالم بأرباح مجزية سريعة، لقد ضاع مقهى "البرلمان" أيام كنت ببغداد كما قيل لى ،ولم يبق منه شيء سوى ذاكرته الثقافية وشريط من الأسماء الأدبية والفكرية والمعرفية الغائبة، غيابات أبدية، غيابات زنازين وغيابات وراء الحدود إلى مناف قصية إخضاعية كل ذلك اختفى لكن المكان ابتنى لنفسه ذاكرة حية تنشط عبر الأجيال بهدوء وحيوية وجمال وهكذا كانت روعة "البرلمان" كمالحقت بأيامه الأخيرة.
وهكذا فبدلا من أن تواصل بغداد ازدهارها الذي بدأ في الخمسينيات وتصاعدت وتيرته في السبعينيات انتكست كما انتكست أوضاع سائر مدننا العربية ، وكما انتكست قرى وأهوار العراق أيضا وبدلا من أن يزداد الاقتصاد العراقي تقدما تراجع وصار العراق مكبلا بأعباء الديون والتعويضات وتكاليف ما جرى هدمه ، وبدلا من تعزيز السياحة فقد أكثر معالمها وأسسها وصار العراق تحت الوصاية الدولية (الأمريكية) وبدلا من استمرار الإنتاج والابداع الثقافيين والفنيين والعلميين هاجرت مئات الألوف من المثقفين من أصحاب الكفاءات لتواجه (ما عدا أقلية) مشاكل الغربة ولكن بعيدا عن القمع الشمولي".
كانت المقاهى/ المكثقافية المتألقة في بغداد وبخاصة في شارع الرشيد، لها مظاهرها الخاصة ، فهي جزء مهم من الحياة العراقية بشكل عام والبغدادية بوجه خاص، وأولئك الذين كانوا قد اعتادوا التردد عليها مثلى يبدو عليهم أنهم كرسوا ساعات من اسابيعهم لها، هي ساعات تواصل اجتماعية وثقافية ومعرفية مع المعارف والأصدقاء من الأدباء والعلماء والمفكرين والفنانين ومحبي الأداب والفنون والمعارف، بل أصبحت هذه المقاهي أشبه بالمعابد الروحية التي تمارس فيها أبهى طقوس العبادة المعرفية والحضارية، كان يأتي أولئك الرواد لكي يستبدلوا ساعات من العمر مقابل لقاءات فكرية وثقافية باحترام واعتزاز شديدين، وغالبا ما يتواعدون بعد منتصف نهار الجمعة من كل أسبوع ـ يوم اللقاءات المنتظم ـ عائدين إلى بيوتاتهم المتفرقة، المتباعدة في حواري ومدن بغداد المترامية.
وبين مقهى "البرلمان" المطموس الهوية ومدخل البورصة المعرفية والثقافية ـ شارع المتنبي ـ أيضا اقل من مئتي متر "كانت مدرسة الصوفية التي ارتادها جميل صدقي الزهاوي بعد أن يكون خادمه قد ربط حمارته الحساوية البيضاء المسرجة والملجمة جوار المعهد العلمي ويبقى في الجامع مدة ساعتين ثم ينصرف إلى حمارته يركبها بمساعدة خادمه ورجلاه تتدليان وبقدميه الكالة الإيرانية الحرير البيضاء وبعدها شارع الأكمكخانة "المتنبي" والأكمك باللغة التركية تعني الخبر
كان المتنبي" شارعا ضجيجه جميلا وأليفا، ولا يشبهه أي ضجيج آخر، كائناته هادئة وجميلة صامتة، يتوافده عراقيون وعرب وأجانب غرباء، يبحثون عن طائر المعرفة المحلق دائما يمتلىء الشارع ـ احين تكون في داخله ـ من جهتيه: الكتاب والكتاب وأبنية تضم تاريخها إلى واجهتها العتيقة الصامتة بقوة وحنين، حياة وتاريخ، حياة تشع من العيون والأبنية والإيماءات من الكتب واللوحات وكاميرات التصوير. يأتي مخلوقات البورصة الأسبوعيون، فرادي وجماعات، يتجولون متطلعين بعيون فاحصة، شائهة إلى تلك العتبات النصية ـ أعني العناوين باعتبارها أحد عناصر تلك العتبات ـ متأرصفة بانتظام على جهتي الشارع يتجمعون أمام منتظمات رائعة من العتبات خلف واجهات زجاجية، نظيفة ولامعة، يتزاحمون، منحنين فوق كتب الرصيف برؤوس متلاقية وجباه مضاءة وعيون باسمة وهم يصيخون السمع بصوت "نعيم الشطري" الصادح، ذلك الجنوبي الرائع، عراب بورصة المتنبي وغالبا ما يكون صوته أعلى من جلبة تلك المخلوقات، يعلو رنين صوته، معلنا، افتتاح مزاده الأسبوعي، مزاد للدوريات والمرجعيات والمصادر في مختلف أنواع الآداب والفنون والعلوم!! عناوين مغرية بأسعار أكثر إغراء ـ
كان في ذاكرة شارع المتنبي رجلان ظريفان هما حسين محمود الفلفلي وأحمد كاظم ـ كانا يعرضان مجموعة من الكتب المستعملة في المزاد العلني ـ تمتلىء المساحة الصغيرة قبالة مكتبته ـ مكتبة الشطري للمزاد العلني ـ بالمشترين والفضوليين المتطلعين إليه برؤوس مشرئبة ، كان أحد المشاهد العجيبة والغريبة ، مشهد يستحق بجدارة عناية الملاحظة والتأمل والتوثيق السردي المدون. كنت ترى مجالسي الكتاب وندماءه المخلصين ـ خير جليس في الزمان ـ يفارقون هذا النديم الجميل وهم مجبرون على تلك المفارقة، وبين أولئك نسبة كبيرة من الأدباء والكتاب والفنانين، يفارقونه بيعا أو مقايضة غير عادلة فيما بعد الاحتلال سدا لرمق الحياة , فقد واجه مثقفو العراق وبقية الشرائح الاجتماعية الأخرى ما لم يواجهه أي شعب في الدنيا، واجهوا حصارين مدمرين، قاسيين، قذرين ـ استثني منهم كتاب وأدباء وفناني ومنتفعي الزي الزيتوني ذوي الحظوات والعطايا والهبات والمنح اليومية والأسبوعية والشهرية والمناسباتية المعلنة وغير المعلنة ، وقد وقع لى الكثبر من بعضهم لولا رفقة مخلصة كان تحمينى ـ حصار القمع والقهر والخوف ولقمة العيش من الداخل وحصارا شاملا لا مثيل له في تاريخ البشرية العاقلة, من الخارج، خارج لا إنسانية العولمة ونظامها الجديد.
بعد التجوال الروحى وأنا مستلق على سريرى بفندق المنصور ميليا منتظرا هاتفا من صديقتى رائدة جرجيس لتأكيد موعد الغد ، وبعد التبضع المبتغى واللقاءات العابرة التى أتهيأ لها، وجدتنى مستريحا في (مقهى الشابندر) ومستمتعا بمشاهدة معرض فوتوغرافي دائما لمدينة بغداد القديمة ـ معروضا من خلال جدران ذلك المقهى الرائع فقد كانت بعض المقاهي في بغداد خلال العقود الأولى من القرن المنصرم أشبه ما تكون بالمنشآت الثقافية أو مدارس للموسيقى والغناء وأصول المقام العراقي الأصيل حيث كان يتردد عليها، عباقرة الغناء والطرب وموهوبو السرد الشفاهي ومغرمو المقام العراقي كما هو الحال في (مقهى المميز) آنذاك المطل على دجلة، قريبا من جسر الشهداء والملاصق لجدار "جامع الأصفية" الذي تم التصدي من منارته لوثبة الطلاب عام 1948كما يقول المؤرخون .
ولكن هاتف رائدة يصلنى عبر وسيط مشترك على رقمه الخاص , بؤكج أن لامناص من من إلغاء موعد الغد الجمعة , حيث لامكان لأمن متاح ، فى ذات الأمر رفضت اللجنة الأمنية المكلفة بمرافقة أعضاء الوفود فى المؤتمر عدم السماح لى بالخروج ، حتى وإن تعهدت بصوت باك مشروخ ، أن حياتى أكثر أمانا فى دروب بغداد لأن رائحة روحى ماتزال عالقة بها
حل عصر الجمعة وأنا زاهج فى الطام والشراب والنوم ، وكنت أرى الهدوء المهيب يشيع في شارع المتنبي المنفتح من نهايته على تقاطعات متعرجة، منحدرة من بداياتها، نحو نهر دجلة الذي تفصله عنها أبنية ومساجد تاريخية لها طعمها الجمالي الخاص، هدوء في نهاية اليوم يلتجىء إلى ليل شارع المتنبي الموحش.،والمتنبي التمثال الذى كان مائلاً برأسه في ساحة البلاط ولكنه اليوم بلا راس ، وكنت أشعر برأسى تطير نحوه
فرحماك بغداد
سأعود إليك قريبا موقنا أن صدرك مايزال مستعدا لدخولى لأعماقه
_________________________
الهوامش:
* تسمية تطلق على النادل الذي يقدم الشاي لزبائنه في المقاهي العراقية
** قدح زجاجي صغير انيق الصنع يقدم به الشاي في المقاهي والبيوت العراقية الى اليوم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق