ما أجمل الأنا لك يابغداد

ما أجمل الأنا لك يابغداد

الأربعاء، 3 أكتوبر 2007


لم نعرف للطفولة زمنا

ابراهيم جادالله

تجلس بجوارى الآن رائق البال ، لأنك ياصديقى جاد فى تعاملك مع أبنائك . أما أنا ..فبالله عليك ، لك أن تتصور أن إبنى لا يريد أن يكبر أبدا ، يود العودة لطفولته ، هل تعرف ماذا يخاطره هذه الأيام ؟ . إنه دائم الاستفسار عن شعوره بأننى لم أعد أحبه كما كنت أفعل أيام كان طفلا .، أوكما يحب الآباء أبناءهم ، فالذين يشاهدهم من آباء أصحابه ، وآباء الأولاد فى المسلسلات التليفزيونية يحبون أولادهم بطريقة مختلفة ، يضم الأب إبنه ويحضنه ويقبله ، ويخاف عليه من الهواء الطائر ، ومن النسمة العابرة ، أما أنت. تخيل ياصديقى . يشير إلى صدرى بمشاعر باردة ويقول ( أما أنت )،يؤنبنى فلا أدرى كيف ؟ : منذ زمن لم تضمنى ، منذ سنوات طويلة لم تعد تسمح لى بالجلوس على ركبتيك ، وأن أرمى رأسى فوق صدرك كلما تعود من سفرك المتكرر ، .وأنت ياصديقى تسافر مثلىكثيرا وتغيب طويلا ، إنه يتفوه بأشياء أعجب كيف يحملها برأسه . يقول لى

:إنك ياأبى تعانقنى كما تعانق أخاك الأكبر . أو كما تعانق أصحابك الرجال ، أتمنى لو أجلس على ركبتيك وأضع رأسى على كتفك ، لماذا أشعربأنك تتضايق من اقترابى منك ؟ أأنا ثقيل إلى هذا الحد ؟ إذا كنت ثقيلا فلأذهب باحثا عن أب لا يحس بى ثقيلا

تضحك ؟. أم تسخر ياصديقى ؟ تصور أن يقول لك إبنك هذا الكلام ثم يلقى بنفسه فى حضن أمه ، فتحضنه وتشده بقوة كالهاربات بأطفالهن من طوفان الماء فى ( تسونامى) بأندونيسيا وسيريلانكا ، ماذا كنت ستفعل به ؟ هل تسمح بتلك الميوعة ؟ لقد صار الولد شابا ، فى مثل طولى أو يفوق قليلا ، ويرغب فى أن يظل طفلا يُحمل على الركبتين ، ويُطبطب فوق ظهره ، بالله عليك ألديك القدرة على حمل أحد أبنائك على ظهرك كما كنت تفعل حين كان طفلا صغيرا ؟
هل تذكر ماضينا ؟ هل تذكر أصدقاء ورفاق عمرنا ؟ أتذكر مرة واحدة مذ وعيت يناديك أبوك .ياحبيبى ؟ لا أعتقد ، وأنا لا أذكر آخر مرة لمَسَت فيها يد أبى رأسى ، وآخر طبطبة ٍبيده على كتفى كنا شيئا آخر غير هؤلاء الأولاد ، لن يتكرر زماننا ، كنا نصنع بندقية الخشب ، ونحفر الخنادق الصغيرة ، ونشكل فرقا لقضاء حوائج البيوت عندما تنطلق صفارات الإنذارأيام الحرب ، ولا يسمح لأحد بمغادرة المنازل المطفأة الأنوار ، أتذكر أنا كنا ننصِّب أحدنا زعيما لنقذفه بالطماطم المتعفنة ’ نرى فيه الخذلان القاسى لحلمنا الأخضر المتبرعم ، ونرجمه بكرات القش ونحن نصيح فى وجهه : بعت الشعب وأهل الدار / يابو رقيبة ياغدار ، ونصَّبنا آخر زعيما بلباسه العسكرى ، وأجلسناه فوق دكة عالية عند فوهة الشارع كى يصرخ فيه أحدنا بصوته الطفلى
: ياديوس ياديوس .. بعت الوطن بالفلوس
هل كان هذا فى حاجة إلى حضن أبيه وقبلاته ؟ ، وهل كانت تلك طفولة ؟
أقول له : ياإبنى . الدلع للبنات ، شقيقاتك هن اولى بذلك منك ، أنت شاب طولك طول النخلة ، وعليك معاركة الأيام . لقد كنا وكنا ،ولكنه لا يدعنى أكمل مقارناتى ، فيروح عنى غاضبا ساخطا . لينكسر قلبى لحزنه المصطنع ، تعرف أنه وحيد ، أول شقيقاته الثلاث وأكبرهن ، ولا يطيعنى قلبى بالغضب منه ، هو حلمى الذى تمنيته قبل مولده ، وحتى قبل الارتباط بأمه بسنوات ، وأسميته بإسم صديق فلسطينى مناضل . تشبه حالى حاله ،من اغتراب ومنافى بعيدة وقلق دائم ،هكذا تماما ، قل يا صاحبى ماذا أفعل ؟ إنه لا يطلب شيئا إلا ويحصل عليه ، كل أمنياته أوامر ملباة ، ، يلبس أفضل من أقرانه ، ويأكل ألذ الطعام الذى تخفيه أمه عن شقيقاته ، ويلعب ، ويقضى زمنا طويلا مع الكمبيوتر والأنترنت والرحلات والدروس الخاصة ، وكل ماحرم منه جيلنا يتوفر له ، هل تذكر زميلنا الذى عقد عزمه على كلية الهندسة ، ولم يفُتَّ فى عضده بخل أبيه عليه حتى بغطاء ثقيل .بديلا عن البطانية العسكرية الكثيرة الثقوب،.التى كان يخفيها تحت سريره ، وقت أن كان يزورنا غريب عنا بمسكننا أيام الجامعة ؟ لو توفرت لنا أيامها ما يتوفر لهؤلاء الأولاد الآن ،لكنا كسَّرنا الدنيا ، أقمناها وأقعدناها ، أليس كذلك
كم تمنيته جادا خشنا فى مظهره ، يجهر بالحقيقة التى يراها مهما كلفه صوته من مشاق ، كم تمنيته يقود تظاهرة ، يحرض أبناء جيله على توخى الحذر من الطوفان القادم . شقيقته الصغرى ثالث أيام احتلال جنين فى الضفة الغربية . حملتها زميلاتها ، وردات جميلات ،حناجرهن لاتتسع إلا لحبات السمسم ، زعقن خلفها بصوت لم ينضج بعد ، تستبدل رغما عنها حروف الراء لاماً، ليصل الصوت هادرا إلى طفل الأرض المحتلة المنهوبة
إرمى طوبة بعد طوبة
المعركة على طول منصوبة
يمكن طوبة تصح وتعد ل
كل الأوضاع المقلوبة
وجاءت مساء غاضبة متجهمة ، ولما سألتها أمها عن سبب ذلك . قالت : إنها لم تر عساكر يطاردونهم بالهراوات، ولا خراطيم مياه كالتى تراها فى التليفزيون تندفع فوق رؤوسهم كيف بالله عليك تنمو الجدية برأس شقيقته الصغرى ،وهو لايعبأ سوى بمباهجه الصغيرة ؟
انا لا أشكو ، لكنه اعتراف بالحقيقة . فماذا أفعل مع هذا المدلَّل الوحيد على شقيقات ثلاث . صغراهن تبهج الروح لذكائها المبكر وجديتها التى لا تناسب جنسها او عمرها ؟ . أمرى إلى الله وحده
n ياصديقى . استعن بالله -كما أنت - دائما على بلواك ،فأن تحلم بصوت مسموع فهى علامة عافية بنفسك ، إنها أحلام اليقظة . تلك التى حفظت لك توازنا فى بحر الحياة الهائج ، وما مصيبتك فى ولدك الوحيد المريض إلا وقود عزيمتك التى لم تلن ، وروحك التى لم يخب منها صهيل الأمل ، برغم عقدين من العمر مضيا ووحيدك فى المنطقة الرمادية مابين الحياة واللاحياة ، وانت بها قانع وصامد خلف زوجة تقودك إلى رضى وطمأنينة لا تنطفىء أبدا ، وافرح بصغرى بناتك التى تراها تعيد سيرتك الأولىإن كنت هكذا تريدها

///////

.* الأبيات لشاعر مصرى صديق وردت على صدر ملصق كبير أسفل صورة طفل فلسطينى يرمى لصوص داره بطوبة ، والملصق معلق على شباك سرير صغرى بناتى الثلاث .

ليست هناك تعليقات: