رغم كل شئ فأنا مازلت حائرا ، وحيرتي لابد أن أطردها وأزيحها بعيدا عن رأسي،ورأسي يصل ما فيها لقلبى وأنا جالس على مصطبة دكان حافظ الحلاق وسط العيال، والعيال كثيرون،وهم قليلون الليلة يجالسوننا،ولا أشعر كثيرا بهم . الا مندور وهو صاحبى الوحيد .لا نروح ننام فى بيوتنا آخر الليل الا ونهب مدفوعين بالشوق مرة أخرى،لنجلس كثيرا من الوقت وحدنا، تلعب فى رأسينا خيالات وخيالات،ومهجة بنت الشربينى أبو حلاة تحط فى حكاوينا المتخيلة،وهى أخرجهاأبوها من المدرسة.لم تكمل عاما سادسا معنا كغيرها،وهى تستلف منا كتابا وتردها بعد أن ترسم فيها عرائس وأشجارا وشمعات وورودا،والولد مندور قال الليلة إنها كانت تكتب له كلاما حلوا،وأنه رد عليها بكلام أحلى.قاله ولم يكتبه،وهى لم تعد تكتب له،هى عادة تقول ولا تكتب،وانا كنت أتعجب لما يختفي وأتعب من البحث عنه،وهو كان لايعرفنى بمكانه،وأمه لم تضربه،وأنا يهيأ لى ذلك،هى تحثه أن يعود دوما لدارهم ضاربا لا مضروبا.تحبه فاعلا لا مفعولا به أو فيه.هكذا أتصور دوما،وأمى تستدعى لى كل الشرور والأوبئةإن أنا جاهرتها بعصيان...تضربنى وتعضنى فى فخدى،ويؤلمنى ضربها وتحريضها أبى على.
هذا أنا،وهذاهو منذ زمن ولحد الآن أنا نقيضه،وهو ظلى وأنا ظله،هو صاحبى والعيال حوالينا يقتربون منا فى لعبنا ومشاجرتنا لما كنا نشن أو نفكر فى شن غارة ليلية بالكرابيج السودانى وأغصان خضراء رفيعةطويلة منزوعة من شجر الصفصاف على عيال حارة الجعافرة،ينضم الكل لنا لما كنا نتسلل فى قيلولات النهارات الصيفية لنلاعب عيال نفس الحارة الكرة التى كنا نصنعها من جوارب قديمة،كانوا يزاحموننا بالتأييد أو باللعب معنا،كان هو الذى يختار،ومن لم يصبه الاختيار يحتج ويعلو جعيره إن أنا تهاونت فى تأييد اختياره،وهو كان كذلك.
ولما عدنا للجلوس على مصطبة دكان حافظ الحلاق...كان القمر ينعس ورائحة التراب المبلل بالندى تملا خياشيمنا،وأنا صائم عن الكلام،يروح فى رأسى كلام كثير ويجئ،ومندور جالس القرفصاء،كوعه مغروزة فوق ركبتيه،وبالعصا التى بين أصابعه ينقر الأرض وشقاوة فى ملامحه وكلامه،وهو يدعك الوجع فى رأسى،وأنا وهو جالسان لوحدنا الليلة هذه لنقررأمرا خطيرا،هو رأسه ملآن بحاجات كثيرة علينا القيام بها،وأنا فى رأسى يدور وابور طحين قواديسه ضخمه وتكتكاته عالية،ودق داخل جبهتى كدق فأس فى مزود البهائم الصلب وهذه أول ليلة أسهر فيها مع العيال بعد انقطاع شهر كامل وسبع ليال كنت فيها نائماعلى ظهرى ليل نهار أشرب الينسون والبيض نصف المسلوق وعند كل آذان أمى تناولنى طاسة الخضة من الطاقة فوق رأسى وتسقينى مابها من ماء وهى تقربها من فمها وتقرأ عليها كلمات حفظتها من جدتى،وتقول جدتى عند كل آذان إن الروماتيزم الذى يأكل فى مفاصلها يمنعها من عمل ذلك بنفسهالى.
شهرا وسبع ليال ، والناس تروح وتجيئ يجلسون مع أبى يسترضونه ويرجونه أن يتراجع فى حق إبنه أنا. فنعيم مسكين غريب الأهل والديار،هو بلا أهل فى الصعيد هناك،وبلا ونس فى بلادنا،تلقفته الأيام والبلاد حتى استقر فى بلدنا منذ سنوات عند الأسطى بدران صاحب وابور الطحين وعامل التليفون الحكومى يرعى بهائمه وينظف الزريبة،وهو الذى طاردنى ليلا وقت صلاة التراويح فى الحارات وأمسك بى وداس على عظامى وبطنى بجزمته الميرى الثقيلة،ولما أحضروه ليتأسف لأبى قال:إن ابنك هو من رجمنى بالطوب ومعه العيال أصحابه.كل ليله فى المرواح والمجئ يسبوننى ويرجموننى بالطوب،وهل أنا إبليس؟ولما زهقت من أفعالهم جريت ورءهم قصد تخويفهم وإبنك سقط على الأرض،وسعدة بنت الجليلة لم تر شيئا،هى تهول من ا لأمور وتقول إنى دست على بطنه، هى لم تر شيئا،وأنا أعرف لماذا هى تفترى بالكلام على .
ولما كان نعيم يدخل دارنا فى صحبة الرجال يستسمحون أبى كانت أمى قد التقته عند الباب وضربته بالجزمة البلاستيك،وأابى نهرها وسب أباها وأمها وكاد يبطش بها لولا تدخل الرجال ، وأمى بكت ساعتها كثيرا،والأسطى بدران كان يسترضيها بإلحاح ولم ينفذ صبره،وكان يزورنا كل ليلة ويجلس مع أبى يتسامران،وكان يحضر معه الينسون والبيض لأمى لتسلقه نصف سليق لى حسب مشورات المسنات من نسوة حارتنا،وحمل معه مرة برتقالا وموزا حازت جدتى نصيبا كبيرا منه،وأنا كنت نائما فى الحجرة المقابلة أستمع أحاديثهم وأستسلم للذة الرقاد وأعرف خطيئتى وحجمها ولا أفصح عنها ،ومندور لم يزرنى مرة واحدة،وأنا كنت أنتظر حضوره كل ليلة، ولما استجوبته أمه خوفا عليه من بطش نعيم الصعيدى قال عنى إنى من حرضتهم وسبقتهم برجمه فتوعدته أمه إن صاحبنى مرة ثانية،وشهر بطوله وأكثر لم ير واحد منا الآخر،والعيال تفرقوا وخافوا من صحبتنا، وقالوا إنها تجلب المصائب عليهم،والولد على ابن الصديق قال وهو فى صحبة أبيه لنا: ليست لنا دعوة إذا كان الفالح فينا قد وقع، والولد على لئيم جدا،وهو الذى كان قد شتم نعيم قبلنا ورددنا خلفه،ورجمه وتبعناه وهو مدسوس وسطنا على المصطبةأمام دكان حافظ،وبما أنه قصير ودافن رأسه بيننا فهو قد لمح نعيم يهرول ناحيتنا فانفلت يجرى نحو دارهم القريبة وتركنا نواجه جهامة نعيم وغضبته لوحدنا،وكانت يد نعيم لم تطل إلا أنا،وعرفت بعدها أن امرأة محمد أبو يوسف شاهدت هياج نعيم وأنا أسقط تحت رجليه وكانت بسطح دارها،وهى نزلت ودلقت الماء على وجهى،وسعدة بنت الجليلة هى التى رفعت عقيرتها بالصراخ والعويل وكان الموقف ساعتها تحكمه النسوة.لأن الرجال فى الجامع كانوا يصلون التراويح،ونعيم رفل عائدا إلى دار الأسطى بدران.
ولما اجتمعنا الليلة والناس تبحث عن حكاية ثانية تلوكها ألسنتهم.كانت الحكاية نفسها مرمية فى خزانة صدرى تناغشنى كل لحظة،وأنا مازلت حائرا،وحيرتى لابدأن أطردها،أزيحها بعيدا عن رأسى،ورأسى يصل مافيها لقلبى.
الولد مندور ينتفض بين لحظة وأخرى ويقوم يجرى لقدام خطوات ثم يعود أدراجه إلى المصطبة،هو لأول مرة يستفيض فى حديثه معى فى تلك الليلة،وهو لأول مرة يخشى أمه وهارب منها،وهو كان يطرد خوفه ويغرق فى وصف لحظاته مع البنت مهجة...وأنا وجدتنى مشدودا له كالماخوذ خلفه نتسحب إلى الحارة،ولما تجاوزنا دار زهرة أم مالك وزام كلبها وقفنا على أمشاطنا نساند بعضنا.لو تقدمنا خطوة لاندفع خلفنا وكشف سترنا.هو هكذا ونحن اعتدناه،ولا مفرمن وقوفنا لحظات حتى يسكن وقد ينام، بعدها نواصل تسللنا فى الحارة والقمر يغطس خلف البيوت وينام،وظلمة مترجرجة تخبط عيوننا فتبربش الرموش ويرتعش جلد الصوت والعيون،والولد مندور قال وهو يلتصق بى.إنه سينادى على مهجة التى تنتظره من تحت شباكها.وستكون مستيقظة تحادث نفسها بما جرى اليوم،وستكون خائفة من أن تعرف أمها،اندفعت قطة من قدام بوز كلب زهرة أم مالك نحو فأر صغير سقط من حطب الذرة من السطح المجاورفازداد التصاقنا،وكنا ننقل الخطوات بتوجس ،ولما اجتزنا عتبة الدار المغلقة الباب إلى شباك فيها فى الجهة الثانية لها صدمتنا فزعة آدمى تدفعنا بخوف فسقطنا على مؤخرتينا ،ولمحناه وسط الفزع نحيلا،عمامته متكورة على رأسه.لا يحمل مثلها واحد من البلد،بعثرنا فى كل ناحية وهو يندفع وجزمته الميرى الثقيلة تطرق أرض الحارةفى ارتباك،وكان بأعلى رأسينا نافذة تنغلق على استحياء من الداخل وبحذر،وأنا كانت كل الأشياء غائمة أمامى وأعدو خلف الولد مندور الذى يصيح بصوت لم نكد نسمعه..ح ح.رااامى ياعم الشربينى ...ن...ن عي ي م. رااااامى
ولأن عند فوهة الحارة كانت صورته المندفعةقد تاهت فاختفى وقع قدميه بعيدا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق