مقدمة للموت
أمه تقول له:-فى الظلام المتكون. الملموم بجوار أبواب البيوت،والظلام الذى يسكن منتهى الحارات،والظلام المفروش فوق السطوح،والظلام الذى بداخل الناس.. عفريت كبير.يتقافز دوما.ينسخط ويتشكل من جديد فى كل مرة. مرة يبدو فى شكل مارد ضخم، الرأس فيه صغيرة.محلوقة .بل صلعاء،العضلات فى الذراعين القويين متكورة كالبطيخة،والأظافر فى أصابع اليدين والرجلين كسلاح محراث جدك الذى يبقر بطن الأرض ويمزقها.
أمه تقول له:-فى الخرابة المهجورة الواطئة عن ارتفاعات الحارات والأزقة،وفى زقاق الطاحونة القديمة. يسكن العفاريت والمردة والشياطين،ومحمد بن رومية فى النهار تراه يركض،ويركض.زوايا فمه تهرأت لكثرة الريالة،ذقنه وصدره يلمعان بسيل منها،وما قدم منها تجلط على ثيابه.فوق المقابر الماربة فى طرف القرية خلف صغار الكلاب والحمير والماعز يتقافز مثلهم حول الشواهد الحجرية الصغيرة.
أمه تقول له:- إن محمد بن رومية درويش..لكن لكل درويش طريقة،هو لايرتدى عمامة خضراء ملفوفة حول طاقية البفتة البيضاء كخالك سيد أحمد.أو ثوبا أبيض،ولا يمشى تحت ساريتين متقاطعتين فى مولد النبي كل سنة.أو مولد سيدي على العراقي،وخلفه المتمايلون والذكيرة والدفوف والصاجات الملتهبة والمنشد الضرير يزعق ببردة البوصيرى ،فالولد تدروش وأطلق نفسه على باب الله ولخق الله.
أمه تقول له:- إن محمد ابن رومية كان صغيرا مثلك يلعب بعرائس الطين خلف الأربع غنمات،وكان يتسلق شجرة التوت،أرسله أبوه مرة فى الليل يشترى له باكو معسل ماركة المشبك من دكان شفيقة أم الغريب.رأى مولدا وكلوبات وذكيرة ومزيكة حسب الله وطبلا ليلا تحت شجرة التوت قدام دار الطنطاوى مبروك،لحظتها فرح وطرب وتاه عن دكان أم الغريب وسقط من تذكره المعسل ماركة المشبك فاندفع يجرى والهيصة والمزيكة والذكيرة وأضواء الكلوبات،وكل الأشياء تهرب .بل تندفع فى الهرب تبعا لاندفاعه نحوها.
أمه تقول له:- من يومها وهو يجرى ومازال لحد هذه اللحظة.
أمه تقول له:- الأرانب التى تتقافز بالأجران فى ضوء القمر وأمام فوهاتأفران الخبيز خلف البيوت.عفاريت لكنها وديعة تؤنس رحلاتنا وجولاتنا الليلية بحارات وشقوق البلد.لكن لا تقترب منها.الإنسان صحيح هو سيد المخلوقات.لكن تجاوز الحد سلاح ذو حدين،مسموح لعيوننا أن ترى أن تبصر أن ترمش أن تدمعلإ التحديق،ومسموح للقلبأن يرتعش.فلا تداعب أرانب الليل فى أجران القرية،ولا تعانق الصبية الكثيفةالشعر المجدول الشجية الجمال التى تهب عليك فجأة من ماء الترعة أوالنهر وأنت تقضى حاجتك على حافتها أو تستحم بها.لا تغازلها،ولا تنبهر بها.بل كن فى حالة انزعاجك واضطرابك.
أمه تقول له، وما يزال كتاب قولها مفتوحا..متراص الحكاوى:- فى النهار ساعات ظلام تلك التى تنسى فيها ذكر الله وأنت تقضى حاجتك فى بيت الراحة أو بالدار أو الجامع،وفى الليل المقمر ظلام.أن تهزمه فلك أن تقبض على ورقة صفراء فيها آيات من كتاب الله، ففى الظلام الكائن الملموم بجوار أبواب البيوت، والظلام الساكن منتهى الحارات ، والظلام المفروش فوق السطوح، والظلام الذى بداخل الناس عفريت.
ويكبر الظلام فى رأس فؤاد الصغير الطفل.الصبى.الشاب..لم يسأل أمه مرة واحدة،ولم تغلق أمه فمها،ولا كتاب حكاويها المكتوب بماء العفاريت..كان مأخوذا دوما..موصولا ومشدودا إليها بخيط أسطورى له وقع كهنوتى رهيب يلف عنقه وصدره وكل كيانه،كانت تؤلمه حكاوى أمه.ترعشه، تلوع قلبه وتروعه.لكنه لم يطق النوم أبدا أو يقوى على استحضاره ،هذا المستعصى أبدا عن الاستحضار بدونها.أصبحت همه الأوحد ،طربه الموجع،وألمه الشجى.
والأم لاتتوقف عن بذر بقع الظلام فى أرض حكاويها،وفؤاد لايتوقف عن نزف رغبته فى التهام ماتحكيه أمه.أصبحت عذابه اللذيذ ولذته المعذبة.
هى مفتتح الجنون
كان الصراخ ثقيلا داكنا ومتفشيا باستطالة الترعة النصف ممتلئة بالمياة الشتوية الباردة. خمن كل من يسمع الصراخ متصاعدا إلى مايتسرب من ذاكرته التى هى ذاكرة القرية،وما يتسرب من الذاكرة كثير..لكن القرية بأكملها ،وكما هى العادة خرجت . صغار فى المقدمة ،والنساء ثم الرجال.حبو العجائز جاء متتابعنا بطيئا هو الآخر .
كانت قطع سحب فى السماء تتجمع وتتفرق وتتلاحق ،غيمة صغيرة تعتم مساحة من الفراغ الأخضر حول الجمع الزاعق .رجال نصف عرايا يتسلقون شاطىء الترعة المشعب يحملون جثة امرأة فى كامل الثياب .عيناها زائغتان بل جاحظتان،فكاها مطبقتان على قطعة منهوشة من ثوبها، شعرها غارق فى طين لزج واليدان والساقان متصلبتان باردتان،الوجه ممتقع ينضح بشاعة،طار فضول غزلته حكاوى الليالى المعتمة فى حجرات النوم الدافئة..الرؤوس المتمايلة المتهامسة ليست بشكل كامل للحدث.,موت امرأة بتلك الصورة أمر يدفع مراكب الأحزان النائمة فى حنايا صدور الناس لأن تقلع،وحين يتوهج الشجن فى حلوق الناس فإن ماضيا طويلا وعريقا منه يتواصل مع صورة الحاضر الآنية،ولكن هذة الجثة المحتقنة الملامح والمرمية على العشب الشتوى تغرز رعشة فى الملامح الفضولية،وحرقة شفقة فى العيون المبحلقة.
لكن شابا يدفع بفضول محموم الأجساد المتلاصقة المتراصةالملتفة حول الجثة،وفجأة تتسع المسافة مابين مركز إبصاره وبين الجثة المطلية بالفزع،والوجه الموشوم بالرهبة.قطع ثلج غليظة تنحشر فى تجويف حلقة الداخلى، يرقد لسانه فى قاع فمه.أسنانه القوية تعض على إبهامه بقسوة وهو لايدرى،وحين ربتت بعض الأكف على كتفيه كان كل الحشد ينتفض،وأشواكا حادة تلتصق به.تملأه، ينفر من حولها لهبا يتصاعد إلى الرأس الذى تصفر فيه ريح عاتية،وكأنه صحراء شاسعة تتسطح جغرافيتها ولا تحد،كان يمد يديه والأسى يأكل من عينيه مايأكل،يهم بأن يلقى بنفسه فوق الجثة..لكنه بنفس القدر يبتعد عنها..تغيم كل المرئيات فى عينيه،الترعةالنصف ممتلئة ينحسر مابها،وتظهر شقوق واسعة وخشنة فى قاعها.تصفر الأعشاب الشتوية اليانعة على شاطئيها،وتتجمر الأتربة الرتبة تحت قدميه،.ينتصب فى القاع صورة هلامية لصبية كثيفة الشعر المجدول خلف ظهرها،تتغضن ملامحها ويتساقط شعرها الذى تحول إلى بياض كتانى خشن،ويتناسل من بين فخديها.عشرات،مئات،آلاف الصبايا المتشابهات.
يشهق فؤاد شهقة عالية غليظة مشروخة فتفزع الأجساد المحيطة به تحاول الإمساك به،تهدئته.0لم يكن يبكى أوينتحب.كان كالمأخوذ،كانت عشرات.مئات.آلاف الصور التى شاركت عمره تندفع إلى رأسه وتهرب فى نفس اللحظة.لم يستطع الإمساك بهاوالسيطرة عليها.كان يود أن يقبض عليها بصدره،يرتمى فيها بجوار أمه.الجثة التى يسيجها البعض.لم يستطع،لم يعد يرى وجه أمه،وجوه الناس،الصورة الهلامية،لم يعد يرى سوى رأس بيضاء الشعر ووجه متضخم الملامح. تحقق من تلك الملامح فوجدها تشبهها تماما ، فزعق بأعلى الصوت الذى لم يكن ليسمعه ،واندفع يضرب الطريق الموحل برجليه فى اتجاه معاكس للريح الشتوية الباردة،وأحيانا يلف معها،ويصفر لصفيرها.حتى صار.
نقطة
بعيدة
غائمة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق