قمر للزمان المستحيل
ابراهيم جادالله
يوم أن صاحوا بها باكين مفزوعين ليخبروهاأن ساق إبنها البكر قد بترت فى مستشفى الجامعة منعا لتسرب لعنة المرض إلى بقية الجسد،وأنهم جاءوا بها ملفوفة مكفنة لتدفن فى مدافن البلد،أن حبة العين وفلذة الكبد وماء القلب حالته بين اليقظة الباهتة والإغماءة الرمادية بعد بتر الساق،وأن لعابه باسمها كان يجرى على شفتيه بين الحالتين، لم يهتز منها بدن ،ولم يرتعش فى وجهها جفن عين. بل ظلت على حالتها.يضرب منجلها الصلب المشحوذ حديثا وهى جالسة القرفصاء فى أعواد القمح فتتمايل فوق راحة يدها اليسرى،وتنتظم خلفها كومات من تلك الأعواد الصفراء اليابسة،وواصلت انكفاءتها،وما فى صوتها من هم،وما بصدرها من كدر كان نسيجه ذلك الإصرار والدأب من اليدين اللتين بدتا مرتعشتين تقبض إحداهما على المنجل والأخرى على ربطة أعواد القمح الصفراء المحشوشة،وواصلت وكانوا خلفها يتمرغون فى صمتها وحزنها ودأبها،ولما قاربت النهاية،ناولت منجلها لأحدهم،وفكت ربطة ثوبها الأسود من فوق خصرها،وأجهشت لداخلهاوهى تتقدمهم نحو الدار.
ويوم أن كان زفاف إبنها الثانى،ولم يتبق غيره وبنات ثلاث متزوجات،وقد كبر الولد راضعا سيرة أخيه وذكراه وحكاوى ألمه المغروزة فى غضون وجه الأم وكرمشات لحمه،ذهبت صغرى البنات تصحب فى يدها يتيمة الأب والأثيرة لدى جدتها،وكانت ساعة غروب،والشمس هناك تنحدر نحو أفق بعيد،والقمر من ناحية أخرى فارشا بياضه على الغيطان،والمياه التى تتسرب بالأرض حولها وهى منتصبة بقامتها الصلدة وسروالها المبروم على خاصرتها،وصاحت بها صغرى البنات،وتبعتها حفيدتها اليتيمة الأثيرة أن تخرج إليها فى مشورة.أحنت ظهرها وراحت ترفع وتزيح قبضات طين لتوسع مجارى للماء وتسهل لها جريانها لتغمر البقية الباقية،وكان قد وصل إليهما صوتها مجيبا فانتظراها على مضض.
ولما مدت يدها داخل سيالة قميصها المدفونة بسروالها لم تشعر باطمئنان،وصدق حدسهما.
أخرجت الأم لفافة جنيهات وناولتها صغرى البنات وطبطبت على كتفيها،وأخذت اليتيمة بين عضديها،وقالت إنها ستلحق بهما لما يكتمل رى الأرض،وأن عليهم شراء كافة مايطلبه الطباخ لطعام العرس شريطة أن تكون السمن من أجودها واللحم من أثمنها.
كان تسرب الماء فى الأرض الشراقى بطيئا.إذ قل وضعف منسوبه فى الترعة،وهى مرة من مرات قليلة تقف الأم فيها موزعة بين حالتين..أصوات الطبول وغناء النسوة والصبايا يأتى من بعيد قريب تكاد تميز غناء بناتها وبقية الأصوات،ورى الأرض الذى يقرب على الإكتمال،وراحت تستحث النتوءات،وتسوى بها البقع المنخفضة بيديها أمام بلل الماء الضعيف وأصوات الطبول والغناء فى عرس وحيدها الباقى تلعب فى الرأس،والقلب يتعالى وجيبه هذه الساعة،وأنفاسها تعلو وتهبط،والقمر يدخل دائرة المنتصف . فبانت الأشجار والسكك والقنوات والبيوت غير البعيدة،ولما داست بقدميها،وأحكمت ري أرضها .أطبقت بكفيها على خاصرتها متوجعة ولاحت فى عينيها حصيرة الماء تفرش استطالة الأرض وسط غيطان الجيران الذين يكابدون إتمام ري أراضيهم لا يزالون .فغمرها رضى وامتنان،واتسع قلبها للخاتمةالمريحة.
غسلت وجهها وقدميها المبللتين بينما كانت الأصوات المغنية ودقات الطبول غير البعيدة تتلاشى شيئا فشئا مع تقدم خطواتها نحوها كان مقدم العجلة اللبانى بنت الجاموسة الكبيرة ( وش الخير ) والتى فى مقتبل عشارها ، وتحظى بمكانة حميمة فى القلب بشرى طيبة لنزولها من بطن أمها دون عناء ، ولم يستدع الجساس مفشى الأسرار ككل ولادة بينما تظل العائلة كلها محبوسة الأنفاس ، قابضين على قلوبهم كى لا تفط من صدورهم خوفا وهو يكابد ليلة بطولها وسط بركة من الروث المخلوط بالبول والقش لإخراج وليدها منها ، قاموا من ليلتهم فجرا ، وقد أيقظتهم الأم فرحة باشة تصيح فى البنات أن يدسسن بفوهة الفرن دريسا جافا ليحمص ، ويشحذون سكينة الدار الوحيدة كى يقلموا حوافرها ، وكانت الجاموسة الأم يتدلى من مؤخرتها خيوط مشيمتها ، وتلعق جسد وليدتها المبلل والراقدة على أربعيتيها فى استسلام ، وتدفعها ببوزهافى حنان كى تساعدها على النهوض.
ولما حان عشارها وشبت . خرجت من نن العين حين كان يسحبها تاجر المواشى من مقودها خارجا بها من الزريبة بعد أن أجبرت الأم على بيعها درءا للحاجة ، ولاستكمال نفقات عرس إبنها الذى غافلها وشب عن طوقه وصار جديرا بالتأهل للزواج، وكانت هى ملهية عنه بتدبير الأمور سنوات طوال بعد ولدها البكر وزوجها الذى اعتلت صحته ورحل ساخرا من قساوة الدنيا وغلبتها ، ولما باغتها إبنها بالبهجة ،وأن أبنة أخيها هى المراد ومنتهى الأمل له . قالت : - هو المراد من رب العباد، ورخص الغالى من أجلهما ، وفوضت الأمر لله ، وعقدت الأمل على ( وش الخير ) الجاموسة الكبيرة. فمن نسلها تزوجت البنات والغالى الذى رحل ، ومن لبنها يبيعون ويطهون ويشترون ، وهى الأحق بالرعاية ، فهى عكازهم وقت الضعف ، ودليلهم وفرجهم عند الضيق ، ولما قالوا لها نزرع أرض الحوض الغربى فولا نلمه أخضرا ونبيعه يوميا فى سوق المدينة القريبة. قالت بالصوت الحاد الجارح :- سنزرعها برسيما لوش الخير شتاءا ، والبطن الأخيرة منها نحشها دريسا ليكون علفها صيفا ، فرضخوا لها قانعين ، وأصبحت الجاموسة الكبيرة المحظية بكل رعاية واهتمام وحدب من أهل الدار تبعا للأم ولما انبلج نور صبح جديد ، قام الصغار يتململون ويمددون أعضاءهم ويتثاءبون ويدعكون عيونهم إلى غرفة جدتهم الموارب بابها قليلاوالمطفأ ضوؤها فأحدثوا جلبة تمغط على إثرها بقية من بالدار ، وكانت سحب دخان تتسلل من النوافذ المطلة على الزريبة
هرشت البنات بأظافرهن شعر الرأس وقاومن لذة عسيلة النوم ، وانسل الإبن من جوار زوجته إلى الزريبة مخمنا الأمر حيث كومة حطب تأكل النار من جوفها وتطقطق بها حصى الملح الغليظة ،والأم تجلس القرفصاء فى المزود الإسمنتى العالى أمام رأس الجاموسة ( وش الخير ) تدعك بحجر صغير قرنيها المقوسين وهى مستسلمة لها فى خدر لذيذ وتلعق بلسانها الذى يسيل اللعاب من تحته ، بينما يتدلى من مؤخرتها خيوط بيضاء غليظة ، والزريبة جافة تحت أظلافها الأربعة ومتربة ، ورائحة الدخان تعبىء الأركان ، رثى الإبن لحالها ، وأشار عليها باستدعاء عبد الرازق كلاف المحطة الخبير بولادات البهائم ، لمع فى عينيها أسى غريب وعتاب لا يقاوم ، قفزت من المزود بخفة شابة فى العشرين ، مشمرة الأكمام والسروال ، ورابطة طرف الثوب الأسود حول خصرها ، وراحت تدعك براحتيها ظهر الجاموسة وفخذيها وكفليها غير مبالية بقوله ، بل صاحت فى يتيمة الأب وقدميها تغوصان فى الوحل أن تحمص دريسا فى الفرن، وأن يقف هو عند رأس الجاموسة وبين ذراعيه المقطف الصغير وبه ردة ناعمة دافئة وفولا مدشوشا لتلعق بلسانها فيه ، بينما صارت هى خلفها تماما تضرب براحتيها على كفليها ، والجاموسة مرفوعة الرأس قلقة. حدقتاها مفتوحتان عن آخرهما ، تنعر وتزوغ نظراتها الواسعة الشاردة ، أدخلت الأم يدها اليمنى عن آخرها فى رحمها وهى تكز على أسنانها بعد أن بسملت وحوقلت وصلت على النبى المختار ، وفى ظلمة جوف الجاموسة الغائرة كان ساعدها يروح ويجىء ، بينما تضرب الجاموسة الأرض بخلفيتيها واحدة تلو الخرى وترفع مؤخرتها القلقة فى تشبث وألم، والأم تؤازرها بالصياح ، تروح وتجىء مع حركاتها القلقة ، ولما أطلقت الأم صرخة حائرة ولم يدرك الملتمون من أبناء الدار كنهها : - العجل مقلوب فى بطن أمه يا ولاد".
اندفع إبنها يفتح باب الزريبة على مصراعيه، وأطلق ساقيه راكضا كالمحموم وصدره يكاد يقفز كمه شىء ورائحة الندى المخيم على الغيطان المطلة على البيوت يملأ خياشيمه ، ورائحة النوم لا تزال راقدة داخل البيوت المغلقة الأبواب وسرعان ماعاد متقدما خطو عبد الرازق كلاف المحطةالمبروم الشارب والمستقيم القامة وطاقية الرأس ، وكانت الأم لا تزال تكابد فى خلفية الجاموسةالمفتوحة الرحم والتى تروغ وتنوش بذيلها وتضرب برأسها فى المزود الإسمنتى أمامها وآلام مخاض عسر تطفح على جلدها عرقا يغسل الجسد المنتفض ، أفسحت له الأم مكانا وتكومت متعبة أمام كومة الحطب الكامنة بها نيران تصهد على وجهها ، وراحت تجدد التماع النيران وطقطقات حبات الملح الغليظة ، وكان جيران فى يقظة صباحهم قد خمنوا الأمر فتوافدوا معاتبينها، بينما عبد الرازق ينزع ساعده المشمر من رحم الجاموسة المنتفخ وذعر مفاجىء يصبغ وجهه.
:- الجاموسة لازم تنقلب على ضهرها مرتين أو تلاتة
قالها وهو يشد وثاقها على رجليها الأماميتين مع وثاق آخر فى الخلف ، وزعق زعقة واحدة فيمن التم حوله من رجال . على إثرها انقلبت الجاموسة على ظهرها ، والأم ملهية فى إذكاء نيران الحطب مستغرقة فى هم كبير وقلبها يتصاعد فقراته بداخلها ، والرجال يتكاتفون فى طرح الجاموسة مرات على ظهرها وأقدامهم تغوص فى روثها ، بينما يدخل عبد الرازق ساعده مرة أخيرة وطرف حبل بأطراف أصابعه ، راح يتلوى يمينا وشمالا وقوفا وجلوسا وركوعا خلفها ولسانه قد استراح فوق شفته السفلى ، وناول الحبل لمن حوله .
:- شد على مهلك ، وقول يا ام العواجز ، ياسيدة زينب ، ياطاهرة .
أطل رلأس صغير جاحظ العينين وهو يسحبه بحنكة ودراية حتى صار ظهر الوليد محشورا من منتصفه بالرحم المجهد ، فهبت الأم من تكومها أمام النار مذعورة تضرب صدرها بحسرة.
:- عليك العوض يارب .. ميت ؟
واندفعت تطوق رأس الجاموسة بذراعيهاوتمسح عنها كفليها ورقبتها وتمد لها يدا جافة خشنة تلعق بها ، وقد أرخت رأسها بين قرنى الجاموسة المقوسين ، وكانت الدموع تترقرق فى حبتى عينيها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق