ابراهيم جادالله
فى الصباح
مط تثاؤبه وظهر يده على حنكه المفتوح عن آخره ، فخرج الصوت عواء، قطع الصالة إلى الحمام مخدرا ببقايا نعاس ، أخرج ما فى جوفه واغتسل ، أحنى رأسه تحت حنفية الماءالتى تقطر ليل نهار فأيقظ الماء البارد المتفق فوق الرأس كل حواسه ، ملأ بطنه من جديدوشرب شايا ودخن سيجارته باستمتاع ، ومسح حذاءه بخرقة قديمة ، ونظر فى المرآةفرأى وجها حليقا وأسارير منبسطة وعينين بهما كل التيقظ ، وخرج.
فى الظهيرة
جاء دوره ، ناقش ، وتحمس وانفعل ،وقال كلاما كثيرا ، حاور وناور وتهدج صوته أحيانا ، لف ودار واحتوى كل الآراء، تعبت أحبال صوته ، ودوى فى الرأس تصفيق وصفير ، سقط أمام العينين لوم وعتاب ونظرات لا يسبر أغوارها ، نفض عن رأسه ما يشوب بهجتها من استقامة كلامه مع ما يعتقده ويراه، صافح وشكر وأثنى على من أدار جلسة الحوار ، لم يقرر المواجهة بعد، فلأصوات الأخرى لا تحمل رغبة جديدة تجعله يقاوم،أفلت من الدائرة المتحلقة حوله وإبر الألسن’،وخرج.
قبل الغروب
حرك أعضاءه ومددها،وبرم جسده على السريربرمات متعاكسة وهو يطارد ثقل الرأس ووجعها وهواجس تنخر فى دماغه لم يستطيع إزاحتها وقد حالت بينه وبين شهيته فى الغداء ،حرك ساقيه وفرد طوله وأشعل ضوء الحجرة وخرج.
فى المساء
راميا رأسه بين كفيه مغمض العينين على صور النهار المتلاحقة ،تكلست الصور فى مرآةعقله .صور لعيون منتفخة جاحظة وأسنان غليظة شرهة فى وجوه شرسة ،وبنادق وخوذات وأرديةسوداء ،وأجساد متصلبة متحفزة .صور لوجوه قليلة يألفها بتأنقها ووقارها وشغفها بجديته ، ووجوه كثيرة ،لم يعتد رؤيتها .ثعبانيةالنظرات ،فيها قساوة وخبث ومراوغة ،لم يجد لكلماته وانفعالاته أية ردود أفعال منها . بينما التصفيق وعبارات التأييد صاخبة فى الوجوه القليلة، تناول عشاءه مرغما حائلا دون إلحاح زوجته ، وشرب شايا بفتور ، وخرج .
بعد المساء
عاد من مجلسه على قهوة الزفتاوى حذرا متوثبا ، وهو يضع مفتاح باب شقته فى ثقبه، اصابه فزع سرعان ما تلاشى ، وكأنه يضع سلكا عاريا فى "فيشة" الكهرباء ، عندما دلف بجسده داخل الباب دارت به الأرض من صمت داخلها ، مد يده ليشعل الضوء فارتفعت أنفاس بناته الثلاث وزوجته فى منامتهن ، غمرته رعدةمفاجئة مضافة بددها بخطوه نحو غرفة مكتبه الضيقةا بأكوام الكتب ورصاصات الصحف القديمةورائحة راقدة لتبغ محترق .
عند انتصاف الليل
إثنتا عشرة دقة من ساعة الحائط العتيقة بالصالة المستطيلة،قال لنفسه :-هذا يوم جديد يولد !! ولكن الولادة دائما مصحوبة بالنور ، وما زال مركب الليل يزحف نحو ظلام آت.
إقشعر جسده وارتعشت روحه لخاطر أن يصير الكون والوجودإلى حالة واحدة. أن تتوقف حركة الزمن عند هذه اللحظة الفاصلة ، واجه رصات الكتب ، وأكوام الصحف العتيقة التى تفوح منها رائحة لا يميز دونها ، وواجه نفسه فرآها تنفلت من أتربة على أارفف غير متناسقة قدم وظزاجة عناوين ، وآثار جلوسه على مقعد لازمه منذ صباه ، وأعقاب سجائر بالمنفضة المتخمة ، عاودته من جديد رائحة الكتب ورائحة العمر المنصرم ، شعر بجوع يجرى منه لعابه وتخذل أوصاله وتغيم الرؤية فى عينيه على إثر نفضة صراع ، فاطفأالسيجارة التى لا يعرف رقما لها من منتصفها ، وخرج .
فى زمن الفجر الكاذب
عب آخر جرعة من كوب الشاى الثقيل ومعها امتلأ شدقاه بدخان طازج ليس له حرقة أو لسعة ، لما تجشأ للداخل ، تحسس بطنه العادىء صراخهافشعر باستعادة الكثير من توازنه ، ، إنسلت زوجته إلى غرفة بناتها غاضبة محتجة لفشلفها إدراك سبب قلقه ، أ غلقت الباب من الداخل ، وبعد قليل يسمع صوت أنفاسها، قال لنفسه وهو مشدود الأعضاء يتحسس قوة فى روحه تسللت إليه من داخله:- الآن أستطيع تلقى أى شيىء يدخل من شباك العمرالمرتقة، أبد ا لن تثقب قواى، فها أنا أصلبها بأعواد من شجر روحى.
عاد لمقعده ومكتبه الصغير المكدس على الجانبين برصات غير متناسقة، سبحت عيناه فى سطور كلمته التى ألقاها بالأمس فى منتدى للصفوة فامتلأ بالعامة الذين هم بالحقيقة صفوة الصفوة ، وضع هلالين حول كل الجمل والعبارات التى أثارت وهيجت الماء الراكد فى بحيرات عقول،والأخرى التى بانت أنيابها وضربت أظافرها فى أرض العقول فخمش وجه الكسل فيها ، تناوبته حالات الانتشاء والكدر، الاستشراف والتوجس، الطمأنينة والحذر ، وكان يكابد كل حالاتهم ويهم بالخروج.
عند الآذان .
كانت كل الهواجس والظنون والمخاوف والقوة التى بداخله وتجارب الأيام الفائتة قد صنعت خيوطا عنكبوتية لم يعرف كيف الخلاص برأسه منها ، راح يعيد قراءة كلمته التى ألقاها ظهر الأمس ، ملأها من جديد بالأهلة والأقواس والخطوط، هى إذن قنابل وأعاصير ورياح خماسينية ، وهكذا قدرها هو، فعلها كثيرا من قبل ، تخطى معظمها ، ووقع فى شرك البعض منها ، حاول تأمل داخله وما حوله مرات أخرى ، وكانت أنفاس بناته وزوجته تلاحق هذيانه الداخلى ، ورأى نفسه يتخاذل أمام بعضها للحظات ، سرعان ما يرتد عن تلك الهواجس ويعيد شحذ بصيرته واستعادة بعضا من ذاته التى سواها بارادته الجادة ، لأول مرة يرى نفسه وأشياءه أمام أسئلة الخوف ، ويلمح إجابته فى مربعات ضوء معتم ، بحسه الفطرى الخالص شعر بقرب ولادة نهار جديد . لكن الظلمة لا تزال باقية ، والظلمة ساترة ما بنفسه ، وخافية عن الكون الراقد حركات مبهمة غلافها الأسى والمكابدة ، ساعتها كانت أصوات ترتفع من فوق المآذن. أفصحها آت من مئذنة الجامع الشهير فى الميدان البعيد المسمى باسم صاحبة المقام والضريح ، وكانت طرقات عنيفة مسعورة على باب شقته ، إختفى على إثرها صوت أنفاس بناته وزوجته ، لملم ما بداخله واحتوى أشياءه ، هواجسه وظنونه والقوة التى بداخه وسؤال الخوف ، وكانوا كثيرين ، ملامحهم قاسية وصلدة لكن يشوبها كدر ما ، تلفهم مربعات ضوء معتم كتلك التى يقع فى ثناياها سؤال الخوف ، تلقفته الأيدى فجر الباب خلفه، وخرج
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق