ما أجمل الأنا لك يابغداد

ما أجمل الأنا لك يابغداد

الأربعاء، 12 مارس 2008

المثقفون العرب بين حجرى الرحى

المثقففون العرب بين حجرى الرحى

ابراهيم جادالله


مازال المثقَّفون العرب يعيشون في "أبراجهم العالية" المعزولة، بعيدًا عن طبول الواقع ومُصاب الحالة وصخب الجماهير؛ لا بل ينهمك أولئك المثقفون في الكتابة عن مشكلات وقضايا فرعية مستهلَكة تمامًا.
كيف يمكن للمثقف العربي أن يلوذ بالصمت إزاء هذه المصيبة التاريخية القادمة؟ العالم، في العواصم كلِّها، ومن العرقيات والديانات جميعًا، تظاهَر من أجلنا – نحن المدجَّنين المحبَطين، مُدمِني الخنوع والتبعية. أين نحن من هؤلاء الأمريكيين الذين حضروا إلى بغداد، على الرغم من أنوف حكوماتهم، ليقولوا: نحن دروع بشرية أمام الآلة العسكرية الجبارة التي تقودها حكومتهم؟! هل نعيش احتضار "دول الطوائف" على الطريقة الأندلسية؟!
كانت مصر بمثقفيها تهز مضاجع بريطانيا في الأربعينات – وهى الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس؛ وكانت الجزائر بمثقفيها – قبل مجاهديها – ترهق فرنسا، من باب الواد وحيِّ القصبة حتى الإليزيه. أسئلة كثيرة هامة...
هل تمَّ بالفعل إخصاء الخطاب الثقافي في العالم العربي؟ وهل فقد المثقف دوره الرائد العظيم؟ كيف استطاع الخطاب الإعلامي المدجَّن والخطاب السياسي العاري من الشرعية والمصداقية أن يعبثا بوعي شعوبنا؟ مَن الذي يخصي المثقف العربي؟ أصبحنا مجرد حالة فاقدة الفكر والتعبير، يتصرف فيها الآخرون، يهدِّدها بعضهم، ويدافع عنها آخرون – بينما نحن لا نملك من أمرنا شيئًا، وكأننا جثث قومية هامدة!
تتسابق الأسئلة، وتعدُّد الصيغ يصيبني – كغيري – بالإحباط كلما فكرت في دور المثقف في صياغة إدراك أمَّته ووعيها وتفعيلهما، وفي مسؤوليته الباهظة عن احتلال هذا العقل في غياب فاعلية الثقافة والمثقف. فالمثقف مسؤول، ولا شك، عن مصيبة احتلال العقل العربي وتغييبه، وعن انتشار الخطاب المدجَّن، في الساحتين الإعلامية والسياسية على السواء، وعن تبرير الخنوع والذل بالعجز عن التصدي للزيف والغيبيات.
لا شك أن الفجوة تزداد اتساعًا ما بين المثقف التنويري وبين القاعدة العريضة من الجماهير، التي هي مَن يملك مفاتيح تغيير الواقع الذي تعيشه – وذلك لعدة أسباب: إن هذه الجماهير مغيَّبة تمامًا بفعل السلطة التي حاصرتْها في دائرة البحث عن قوت اليوم، ومعزولة تمامًا عن التفكير في أية حلول مستقبلية لأزمتها؛ كما أن هذه الجماهير فقدت ثقتها تمامًا في كافة المشاريع السياسية، وفي المثقفين التابعين لها. ولا أبالغ إذا ما قلت إن الجماهير العربية فقدت الثقة في مجرد التفكير في التعبير عن الذات!
ويقف المثقف المحبَط ما بين حَجَرَي الرحى: ضغوط السلطة وتكميم الأفواه وقمع الحريات وغياب الديموقراطية والليبرالية الفكرية، من ناحية – لذلك لا يملك هذا المثقف المحاصر الوصول إلى جماهيريته المفترضة، ولا يستطيع التأثير فيها. كما أن الأنظمة والحكومات في مجتمعاتنا العربية، من ناحية ثانية، تتبارى وتتنافس على فكرة تهميش دور المثقف وإبعاده عن دائرة التأثير. لذلك يبدو المثقف مثل طائر صغير مربوط بخيط ينتهي في يد الحكام؛ وهم وحدهم الذين يمتلكون تحديد طول الخيط، ويملكون استرجاعه في أيِّ وقت أيضًا، وحبس هذا الطائر في السجون والأقفاص متى شاءوا.
لكن يظل على المثقف دور لا يجوز له التنحِّي عنه؛ وتبقى دائمًا محاولاته للقول النقدي، وإعمال العقل، والتمرد على السائد والمألوف، من أجل إحداث التغيير أو تحقيق الطموحات التي يحلم بها هذا الجمهور اللاواعي بما يدور حوله.
ولكن، على الرغم من إدراكنا لاتساع الفجوة بين المثقف والمتلقِّى من الجماهير، ولانتهازية السلطة وأساليبها القمعية في التعامل مع المثقف، فإننا أيضًا لا نستطيع أن ننفي "ازدواجية" هذا المثقف في أحيان كثيرة، وعدم قدرته على المواجهة الحقيقية. فهو، في الغالب الأعم، موظف للسلطة في نهاية الأمر. وهكذا يحمل داخله هذا الكمَّ الهائل من التناقض، ما بين انتقاد السلطة والتبعية لها، ما بين هجومه على ما يعارض السلطة ومهادنته لما يعارضها ويختلف معها. هكذا كان المثقف العربي على مدار تاريخه الطويل – وربما يستمر كذلك لوقت طويل!
إن مثقفي اليوم ليسوا غير قادرين على المواجهة وحسب، بل إنهم فقدوا تمامًا القدرة على خلق حالة من حوار المواجهة. فالثقافة، في عالمها وثوبها الجديد، جعلت المثقفين يتحولون إلى كائنات خارقة، تطير عبر الإنترنت في محاولة للخروج من عزلتهم إلى كلِّ مكان في العالم. وبالتالي، فإن المثقف وَجَدَ في الفضاء السيبري متنفَّسًا يمارِس فيه كينونته وذاتيَّته. إنه مكان الأثير، مكان اللامكان.
وهذا ما يدعونا إلى أن نتساءل عما إذا ما انتهى دور المثقف، وهل حلَّ المفكِّر مكان المثقف. بمعنى آخر، إن المثقف الموسوعي قد يكون أسطورة رحلت وانتهت، لتنشأ حالٌ جديدة بدلاً منه، هي حال المفكر "الاختصاصي" الذي يتناول مسألة محددة الأبعاد الاتجاهات؛ ومن ثم لم يعد هنالك مثقف بالمعنى الاعتيادي، وإنما صار مطلوبًا مَن يناقش مسألة بعينها دون أخرى. وهذا يمثل، بطبيعة الحال، تقهقرًا لدور الثقافة عمومًا، لأن المفكر الذي لا يمتلك رؤية "شمولية"، بمعنى ما، للحدث أو للأحداث التي يعايشها فإنه يكون قاصرًا كذلك عن امتلاك رؤية لما يحيط به مباشرة.
بتعبير آخر، إن حقبة المثقف التقليدي قد تكون ولَّتْ. وهذا ما يجعلنا نشعر، مع مرور الوقت، أنه لن يكون هناك أفضل مما كان، وأن ما سيأتي هو "أثير" لا يمكن لنا الإمساك به، وأن علينا أن ننشئ حالاً جديدة، بمفاهيم حديثة، بآراء متطورة، بأدوات معرفية أشد تأثيرًا، لكي نبنى جسورًا بيننا وبين الجماهير.
****************************************

ليست هناك تعليقات: