ما أجمل الأنا لك يابغداد

ما أجمل الأنا لك يابغداد

الجمعة، 20 يونيو 2008

حين تكون الكتابة انقلابا واعتراضا وحربا ( فصل من كنابى القادم / الإبحار فى ذاكرة الكتابة )



كلمات كلمات كلمات
حين تكون الكتابة انقلابا واعتراضا وحربا
ابراهيم جادالله



كنت قد احتفيت كغيرى من أصدقاء وعشاق الشاعر العربى الكبير – أنسى الحاج _ بصحيفة القاهرة يوم 18 مارس 2003 بصدور الطبعة الثالثة وربما الأخيرة من ديوانه الاول ( لن ) ، وقلت : ( فى ربيع العام 1969 أصدر أنسى الحاج ديوانه الأول ( لن ) عندما كان يمكن ذلك الرفض . ) .
وأنسى الحاج . لم يكن قد انقضى أربع سنوات على صدور (لن ) فى طبعته المذكورة ، حتى باشر كتابة ( كلمات كلمات كلمات ) ، و(لن ) حدث فريد فى الكتابة الشعرية العربية ، بل هو أحد كتب قليلة لا تمكن رؤية الثقافة العربية المعاصرة بدون العودة لها . ف (لن ) ذهب بالشعر العربى الى مواضع لا يزال يراوح فيها الى الآن و (لن ) بيان شعرى أنجب فيما بعد سلالة . هى سلالة الأقلويين المنشقين فى الشعر .
لم يكن الشعر بالنسبة لأنسى الحاج ، ولا الكتابة فى جملتها أدبا ، كانت انقلابا ، اعتراضا ، حربا ، لأنها أنها كانت شيئا يشبه الفعل ، وإن حمل كتابه عنوان ( كلمات كلمات كلمات ) هٌزء هاملت من الكتابة والكتب وزرايته لهما ، وإحساسه بلا جدواهما ، كانت كتابات أنسى مسكونة بالشعور بباطلها وهشاشتها . ولأنها كانت كذلك حتى فى ذلك الحين الذى كثر فيه الأنبياء المدججون بشعرهم وكلماتهم ، المسحورون بقوتهم وسلطانهم ، المباهون بعجائبهم وخوارقهم ، لأنها كانت منذ البداية طالعة من يأس جوهرى ، ومن خيبة كيانية ، لأن ضعفها ولا جدواها كانا فى أصل وجودها ، ذهبت الى أكثر ما يمكن من الوضوح ، الى أكثر ما يمكن من الحدة والقطع ، الى أكثر ما يمكن من الضجيج ، كأنها تستمد من يأسها وضعفها وانكسارها المحتوم عنادها وانتحاريتها وصراخها .
كتب أنسى الحاج ( كلمات كلمات كلمات ) فى زمن الأحلام الكبيرة التى نمت نموا خرافيا ، فى تلك الآونة التى سبقت الانفجار والسقوط . كان الليراليون قد أيقنوا أن لبنان على خطوة من الدولة الحديثة ، والمجتمع الحديث ، وكان اليساريون يظنون أنه على خطوة من الثورة ، هى خطوة واحدة ، كان الجميع ينتظرون ما بعدها ، وقد مشاها لبنان ، ولكن الى نهاية المجتمع والدولة ، والى اختناق الثورة
اما الذين يعرفون لبنان من الداخل ، فقد كانوا يكتفون بالإقامة فى هذا الداخل المعمّى ، تسترهم قواعده وتقاليده التى يعرفونها بقوة العادة والتوارث والخبرة الدهرية ، ويحدسونها بما يشبه الغريزة ، أكثر مما يسبرونها ويعرفون غورها ويتعقلونها . هؤلاء كانوا الكثرة الكاثرة ، لكنهم لم يكونوا بحاجة الى لسان ، كانوا يؤثرون الفعل المباشر الصامت على التصريح الطنان . لم يكن هؤلاء حالمين ، وليس بينهم وبين الحالمين آصرة أو قربى . فلهم كلام وسجال آخر
يسال أنسى الحاج فى تقديمه للكتاب : اذا كان العنف الدموى خرج من العنف الأدبى ، العنف الكتابى ، وهو يكشح عنه هذه الفكرة ، ويخصص جانبا كبيرا من المقدمة لذلك (( أبرّىء تبرئة تامة ، لا الآن بل من قبل ومن بعد ، ثورية الكتابة من دم الثورات )) رغم ذلك ، لأننا نشعر أن أنسى ونحن معه لايستريح ولا نستريح . لا نصدق أن كل هذا الدم خرج من أوراق أنسي وكلماته ’ ولا نشك لحظة فى أن التدمير الذى هلل له أنسى لا يمت الى الخراب الفظيع الذى قد كان آل اليه لبنان ’ بل نعرف ان أنسى فى _ كلمات كلمات كلمات ) كان يريد أن يذبح ويدمر ويقتل بلا دم ’ فدم الأحلام يبقى فى الأحلام ، بل يطهر من شهوة الدم ، لكننا مع ذلك نرتجف ، وما زلنا ، ونحن نقرأ : ( نحن الذين أتاحوا لهم أن يحكموا لبنان ونحن الذين سيذبحونهم ) . نرتجف لأننا نعرف أن آخرين كانوا يومها يسنون السكين , وكانوا يبحثون عن دم حقيقى . نرتجف لأننا نشترك مع أنسى فى قلق أن تكون أحلامنا تركت دما حقيقيا ، وهاهى والعياذ بالله قد فعلت .
( كلمات كلمات كلمات ) قرأناها من قبل بردود متضاربة ، كنا نحسب أنها ثورة من فوق ، ونخشى منها على( ثورتنا ).التى نصنعها فى السر وتحت الأرض ، كنا نظن أن فى هذا العنف الكلامى تطهير من العنف ، ، بينما نحرص نحن على تخزين العنف وتأسيسه وتنظيمه .
نقرأ ( كلمات كلمات كلمات ) اليوم كوثيقة ، كسجل أحلام كبيرة سجل حياة تتفتت من الأسفل الى الأعلى . لكن يراودنى خاطر فى أن كلام انسى الحاج فى ( كلمات كلمات كلمات ) اذا أُخرج من عنفه اللفظى قليلا بدا ممكنا آنذاك ، وهذا الإمكان وحده يثير حسرتى وحسرتنا جميعا ، فنحن لا نبتعد عن كلام أنسى ، بل نبتعد عن المطارح التى خرج منها هذا الكلام ، وبدا حقيقيا بالنسبة لها . الآن لم يعد المكان نفسه حقيقيا ، اننا نحاول أن نجده ثانية فى الكلام ، أن نبحث عنه فى الكلام . ان لمّ هذا الشتات فى ثلاثة مجلدات جميلة ، يشعرنا بأن شتاتنا المبعثر فى كل ناحية آن له أن يلتئم قليلا ، وان لنا أن نتكلم ثانية من مكان وشعب ومسار .

الكتاب/ كلمات كلمات كلمات
الكاتب/ أنسى الحاج
الناشر / دار النهار بيروت
سنة النشر1998

ليست هناك تعليقات: