ابراهيم جادالله
إن كل متتبع ومتابع لوسائل الدعاية والإعلام يلاحظ الكم الهائل من الأخبار التي تحاصر المرء بسيل من "المعلومات" ذات الصلة بالأعمال "الإرهابية". وأصبحت كلمة الإرهاب عادية الاستعمال شأن الكثير من كلمات الدعاية والإعلان. بل أنها تحولت إلى "الكلمة الحلوة" التي أخذت تزيح كلمات الثورة والانتفاضة والحرية التي كانت تطرب لها الآذان قبل عقود. وهو أمر يشير إلى تغير عاصف في المزاج الإعلامي من جهة، والى بروز ظاهرة مثيرة تجمع بقدر واحد العقل والجنون فى وعاء واحد من جهة أخرى.
فالإرهاب المعاصر يتحصن برؤية "عقلية" لا عقلانية فيها، تقوم أبنيتها شأن الكثير من النزعات العصابية، على يقين جازم بتمثل الحق والحقيقة. وهو الأمر الذي يجعل منها قوة شأن كل تيار جارف وسيل مخرب برغم ما فيه من مياه هي مصدر الحياة! وهي المفارقة التي تطبع في الواقع مضمون الحركات الراديكالية جميعا على امتداد التاريخ البشري.
فالعمليات الإرهابية المعاصرة التي تقدم أرواح "الشهداء" المعجون بدم الأبرياء (كما يجري في العراق على سبيل المثال)وأفغانستان قبلها ، وحاليا باكستان هي الصيغة الجلية لبلوغ العقل الماكر "تكنولوجيا" الخداع الأصولي. والقضية هنا ليست فقط في أن الأصولية بحد ذاتها وهم متكامل في منظومة العقائد العملية للراديكاليات الإسلامية المعاصرة، بل لرذيلتها السياسية القائمة في تحويل الهوس المجنون للعدوان إلى "عقيدة مقدسة". أنها تحول ما يسمى بتجاوز عقدة الخوف وغريزة البقاء وما شابه ذلك من تأويلات إلى"دليل" على ارتقاء "المقاومة" و"التحدي" إلى مصاف النموذج الأمثل للإرادة الإنسانية. هذا ما لاحظته من خلال تحليل نماذج كثيرة كنت أقترب منها بالحوار عبر الإنترنت ، وأنا بصدد كتابة روايتى المشتركة عن فعل المقاومة العراقية للإحتلال الأمريكى أنا وزميلتى العراقية كلشان البياتى، وهي تأويلات تتطابق من حيث مضمونها الفعلي مع واقع الاستخفاف بالعقل وبمعنى الشهادة والتضحية والإرادة الإنسانية.
وقد لا حظت بكثير من يقين أن القضية لا تقوم فقط على أن الإرهاب الأصولي يدفع فكرة التضحية والشهادة إلى الأمام ويجعل منها مضمون العقيدة المقدسة، بل لما فيه من استغلال بشع لرهينة الفتوة. وفي هذا يكمن سر "العقل المدبر" لجنون المآرب السياسية.
إذ أننا لا نرى ولا نسمع ولا نشهد زعيما سياسيا لحركة إسلامية تدعم العمليات الانتحارية قد اقدم على واحدة منها! أن ذلك لا يتضمن دعوة للقيام بهذا النوع من الأعمال، وذلك لانعدام قوة الدليل المنطقي فيها بحد ذاته، إلا انه مؤشر على فاعلية العقل الماكر في استهواء الروح الكفاحية والرومانسية العكرة في فتوة الشباب، أي كل ما يصنع ثقافة الموت الأصولية التي لا تعني الحياة بالنسبة لها اكثر من هبة قيمتها تكمن في التبرع بها "لرب الأرباب"! وهو تبرع يتنافى مع فكرة الخلق الإلهي والرعاية الربانية والرحمة الإلهية وفكرة المعاد والوعد والوعيد. باختصار أنها تتناقض مع مضمون الفكرة الإسلامية عن معنى الحياة وإشكالية الموت. لكن حالما تصبح الدعاية الأصولية ناطقة باسم "الحق المقدس" فان الله والقرآن والسّنة يتحولون إلى ألسن مهمتها البوح بالتأييد التام واليقين الجازم بصحة ما يجري!
إن انحدار الرؤية الأصولية صوب التطويع التام والشامل للمقدس هو عين الجنون السياسي الذي لا يمكنه تجاوز عقبة إلا ويصنع ما هو اشد منها. وهي عملية نتيجتها النهائية الاندثار الحتمي بعد أن تكون قد أرهقت المجتمع والدولة والفكر بتضحيات لا معنى لها. بعبارة أخرى، إن مفارقة الإرهاب الأصولي تكمن في تأسيسها فكرة الشهادة والتضحية التي لا تتعدى في الواقع سوى إعادة إنتاج القتل والتدمير والتخريب، بمعنى إفقاد العقل من كل أبعاده العقلانية عبر تحويله إلى إيمان متعصب عصابي عدائي. وهي النتيجة التي يؤدي إليها التطرف والغلو، كما انها النهاية الحتمية للحركات الراديكالية المتطرفة.
1. فمن حيث هو ظاهرة اجتماعية سياسية وأيديولوجية، يرتبط الإرهاب الأصولي ارتباطا عضويا بنفسية وذهنية التطرف والغلوّ. وهو ارتباط له نماذجه التاريخية العريقة والعديدة. إلا أن خصوصيته تقوم في كونه الرد الضيق على ضيق الأصولية السائدة أو "أصولية" الأنظمة الاستبدادية. وبهذا المعنى فان لكل أمة وثقافة في مرحلة من مراحلها مستويات ونماذج من التطرف والغلو، ومن ثم نماذج ومستويات من "الإرهاب الأصولي" المناسبة لهما. ذلك يعني أن "للإرهاب الأصولي" مظاهر على مستوى الدولة، وأحيانا على مستوى الأمم وأحيانا على مستوى الأحزاب والحركات والأفراد.
2. وبغض النظر عن تباينها الشكلي فان ما يجمعها هو جنون الإرهاب. بمعنى فقدان الأوزان الداخلية الصانعة فكرة الاعتدال وضرورته المادية والمعنوية للفرد والجماعة والأمة والدولة والثقافة. وليس مصادفة أن تنغلق الحركات الإرهابية مع مرور الزمن على نفسها وتتقوقع في هيئة كيانات مريضة أسلوبها الوحيد للاستمرار هو الاندثار أو الذوبان في أمراض معدية جديدة. من هنا طابعها الضيق وانغلاقها التاريخي وعجزها عن تقديم بدائل إيجابية. وليس مصادفة أيضا أن تجري إدانتها التاريخية والسياسية والفكرية والأخلاقية والقانونية. إلا أن قدرتها الحالية على البقاء ضمن "حضيرة الاسلام"، بل التأييد الهائل لها من جانب "الشارع المسلم" والمؤسسات السلفية هو النتاج الملازم لفقدان الاعتدال العقلاني في العالم العربي على مستوى الدولة والمجتمع والثقافة. وبالتالي انحطاط الدين أيضا بوصفه القوة الجارفة في تيار الأصولية المعاصرة وإرهابها المنظم!
3. لقد شكلت الرؤية الإسلامية في مراحل ازدهار الحضارة الإسلامية وسطا طاردا للغلو والتطرف. من هنا سيادة فكرة الوسط والاعتدال التي ارتقت إلى مصاف العقيدة الكبرى والجوهرية للإسلام بحيث جعلت من "الأمة الوسط": نموذجها الأفضل في الوجود. وفيها كانت تتجلى عقلانية الثقافة الإسلامية في موقفها من التطرف والغلو. وهي عقلانية وجدت انعكاسها المتنوع والمتباين في مختلف الفرق الكلامية والمدارس الفلسفية والاجتهادات الفقهية والسياسية. وهي اجتهادات كانت تسعى للبرهنة على أن المقصود بالاعتدال هو العدل. وهو الشرط الضروري الذي كانت المدارس والفرق العقلانية الإسلامية تضعه في تقييم الأفعال السياسية والاجتماعية للأفراد والجماعات والسلطة والدولة. وهي ذخيرة تبعثرها الأصولية الإسلامية المعاصرة في إرهابها الذي تتطاير في اغلبه جثث وأرواح المسلمين أولا وقبل كل شئ. وفيما لو وضعنا هذه الصورة الأدبية بعبارة سياسية صريحة، فإنها تعني ما يلي: إن الإرهاب الأصولي يحطم في أقواله وأعماله ونياته قيم العدل والاعتدال. وبالتالي فانه لا يصنع في الواقع سوى جثث فارغة، أرواحها هي عين الديناميت المتطاير مع صفائح الحديد وآلام الأبرياء وأحزان الأمهات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق