مقولة الخصوصية والثقافة
:ابراهيم جادالله
العالم ثقافات.. ثقافات تتلاقي وتتفاعل وتتلاقح، ولكن أيّاً منها لا يلغي خصوصية الأخري إلا إذا كانت المشيئة غير الثقافية تهدف إلي احتواء ثقافة ما تمهيداً لإزاحتها عن الحضور في ميدان الفعل الثقافي، وهي إزاحة تقصيها ولا تفنيها لأن الذاكرة الجماعية تمثّل مناعة ثقافية ضد الفناء.والثقافة ثقافات.. لا تلغي إحداها خصوصية الأخري حتي لو دارت جميعها في فلك قومي واحد، لأن الفضاء الثقافي القومي وعاء كبير تتنوّع في مداراته الخصوصيات التي تتمايز مع تقادم الزمن وتفاوت التفاعلات.ولنستذكر معاً التعريف الأكثر شهرة لمفهوم الثقافة والذي جاء به أي. بي. تايلور: الثقافة هي الكل المعقّد الذي يتضمّن المعرفة، الإيمان، الفن، الأخلاق، القانون، الأزياء، وأية عادات وتقاليد أخري تحضر في حياة الإنسان كعضو في المجتمع .وإذا ما دققنا مفردات تعريف تايلور وإسقاطها علي الفضاء القومي العربي نجد كثيراً من هذه المفردات تختلف من بلد عربي إلي آخر، الأمر الذي يستدعي ضرورة الإقرار بوجود خصوصيات ثقافية في كل بلد عربي، لأن اختلاف مفردات المفهوم مع واقع الحال يستدعي بحثاً عن مفاهيم أخري أو استخداماً آخر للمفهوم.ولنبدأ من حقيقة أن الثقافة هي ثقافة المكان في المقام الأول، وثقافة الزمان في المقام الثاني. فالثقافة في جغرافيا صحراوية غير الثقافة في جغرافيا جبلية، وفي مناطق ساحلية غيرها في مناطق برية، وفي مناخات جليدية ليست كما في مناخات جافة. أي أن لكل مكان ثقافته التي تتشكّل خصوصيتها من عناصر طبيعة هذا المكان دون سواه، وإذا ما أضفنا إلي ذلك كون الزمان متبايناً في بلداننا العربية فإن الخصوصية تأخذ عمقاً أكبر. فالمكان يفرض مواصفات ثقافية محدّدة في التعاطي الإنساني مع الذات والموضوع. والزمن يخلق - بالقطع - ثقافته، لأن الزمنية تقع في صلب عناصر تشكلات الثقافة. كما أن الزمن الحضاري يلح في استنبات ثقافته، والزمن البدائي لا يأتي بما يتبدّي في الزمن المدني، والحضري غير البدوي.ومن هذا وذاك: العراق غير مصر، ولبنان غير السعودية، وعُمان غير تونس، والجزائر غير اليمن، وسوريا غير السودان، والمغرب غير قطر.. وهلم جرا. ففي بلد مثل العراق يُستشكل القول بثقافة عربية: (الثقافة العربية في العراق)، لأن في ذلك تحديدين تعسفيين:أولهما: تحديد الثقافة العربية في العراق بمعزل عن المكونات الثقافية العراقية الأخري، وهو تحديد غير ممكن في أجواء وظروف طبيعية (علي أساس أن الحرية هي الطبيعة) لا يتسيّدها عنف الاحتواء والإقصاء والشوفينية.ثانيهما: تجاهل الخصوصية العراقية التي يشكّل فسيفساء ثقافتها تنوّع حضاري وقومي وعرقي وديني وطائفي، وهو تجاهل يقود بالضرورة إلي الاستبداد الثقافي اللاهث خلف الاستبداد السياسي.وأعتقد أن من العبث والتعسّف أن يتم تجاهل التداخل الثقافي بألوان مختلفة في نسيج المجتمع العراقي: من عرب وكرد وكلدان وآشوريين وفرس وشبك وسواهم، ينحدرون من مشارب دينية مختلفة: إسلامية ومسيحية وصابئية ويزيدية ويهودية، يتفرعون في طوائف دينية عديدة: سنة وشيعة وبروتستانت وأرثوذكس وسواهم، ينقسم سنتهم وشيعتهم إلي مذاهب.إن مثل هذا التشابك يفرز بالضرورة ثقافة أخري هي غير ثقافة بلد عربي آخر، غالبية سكانه مسلمون سنّة ولا يوجد فيه مسيحي واحد. كما أن الإرث الحضاري السومري والبابلي والآشوري والكلداني للعراق وتفاعله مع الجوار الفارسي والتركي يهيّئه لئن يتبلور ثقافياً علي غير ما يكون عليه المجتمع المصري - علي سبيل المثال - الذي يستند في حضوره المعاصر إلي حضارته الفرعونية. هذا إضافة إلي ما تخلّفه التغيّرات الكبيرة في العصر الحديث من انعطافات في مجري تبلور الخصوصيات الثقافية طبقاً لمستوي التفاعل مع هذه التغيرات.ونعود لنقول أن الحضارة العربية (الإسلامية) هي الفضاء الأوسع الذي تدور في فلكه خصوصيات كثيرة، لا تتنافر مع هذا الفضاء ولا تنسلخ عن فرادتها الثقافية.وإذا تحدثنا عن الوسيط و المحمول فإن اللغة العربية، في هذا السياق، تمثّل وسيطاً لنقل المحمول الثقافي بجميع خصوصياته، مثلما هي الحال بالنسبة للغة الانجليزية. واللغة العربية - كما هو معلوم - وسيط حضاري لنقل ثقافات أخري لأقوام غير عربية مثل الكرد (في العراق) والبربر في الجزائر، حيث تعيق ظروف معقّدة كثيرة، ذاتية وموضوعية، اللغتين الكردية والأمازيغية من الانتشار الثقافي كوسيطأما الدوافع السياسية لقراءة الظواهر والأشياء والتمظهرات الثقافية هي - كليّاً - غير عناصر القراءة الثقافية. وما يُراد له أيديولوجياً أن يرسّخ تماسك البلدان العربية ككتلة ثقافية واحدة تحت مظلّة "الثقافة العربية" هو غير ما يفرزه الواقع من خصوصيات ثقافية في المنطقة العربية .وليس مشيناً علي الإطلاق القول بثقافةمصرية وأخري لبنانية وثالثة عراقية، ومغاربية لأن القول بذلك ليس تطاولاً علي العروبة أو الإنسانية ، وإنما هو تصنيف واقعي للثقافة: في هذا المكان بالتحديد.. وهذا الزمان بالتحديد.نقول ذلك رغم إدراكنا لانهيار الحدود الثقافية في العالم أجمع وزحف الثقافات الكبري المتمكنة من وسائل الاتصالات والإعلام والتكنولوجيا. وبدلاً من أن تكون الجغرافيا القومية فضاءً ثقافياً تتحرك فيه ثقافات كثيرة، أصبح العالم كله فضاءً عولمياً تتزاحم (وتتصارع) فيه مختلف الثقافات، تدافع كل منها عن خصوصيتها،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق