ما أجمل الأنا لك يابغداد

ما أجمل الأنا لك يابغداد

الجمعة، 24 أغسطس 2007


من أدب المقاومة العراقية

الأمير أبي عبد الله


كلشان البياتي



ُادخل إلى غرفة صغيرة وٌأوصد عليه الباب ، ركل بالقدمين ركلات عديدة كانت أشدها تلك التي صدرت عن الساق اليمنى.
نزل من ٌسلمٍ كان ٌسرف درجاته واسعة، كبيرة للغاية ، أوجعت قدميه ، وزادت من سرعة خفقان قلبه،بدأ باللهاث الذي أشعره أن العمر قد تسلل من بين أصابعه وما بقي منه أقل بقليل من الذي مضى.
خطوات أقدام توقظ الرهبة في نفسه،تدنو الخطوات وتتعالى أصُداءها في ٌأذنيه،يتبلور شعور خفي ينتفض من بين أحاسيس مبعثرة: - أنت ميت لا ٌمحال.
خطوات أقدام تقترب بهدوء من الباب ، يتراءى له أحدهم حاملاً سكيناً حاداً كتلك التي تستخدمه زوجته أم علي في تقطيع اللحم استعداداً لشوائه على النار، يخيلٌ له أن ذلك الخروف الذي قام بنحره في عيد الأضحى المنصرم لازال يترنح تحت يديه متوسلاً .
في الليل الذي لايعرف مداه وإلى أية ساعة قد بلغ ، يلمحُ رأسه الذي نحر مثل الشاة ملقاة في ركنٍ قصيّ من الغرفة ، أو يتخيله معلقاً في أحد أسواق القصابة تماماً مثل رأس تلك الفتاة الذي كان غارقاً بالدمِ والحياءِ متدليا بخيطٍ غليظٍ في باحة أحد دكاكين اللحم النيئ.
بعد أن اقتادوه وصديقه إلى غرفة التحقيق، أخبروا صديقه أن الجماعة قرروا الرفق به وإطلاق سراحه مقابل فدية مالية تقدر بعدد من الدفاتر بينما قيل له أن مصيرك منوط إلى الأمير أبي عبد الله وهو الذي يقرر ما سيؤول إليه أمرك.
دفع صاحبه الفدية بينما ركن هو في إحدى زوايا الغرفة مهملا، منبوذا لايتردد إليه أحد سوى أحد الخاطفين الذي أوكل إليه مهمة تقديم وجبات طعام شهية في أوقات محددة من اليوم.
تثير الوجبات التي تقدم له استغرابه وتوقظ دهشته: طبق من اللحم المشوي عند الإفطار مع أبريق شاي، وجبة لحم مشوي عند الغداء والطبق ذاته في العشاء مع صحن من الفاكهة التي يحبها ويحرص على اقتنائها لأسرته بشكل يومي.
ٌسحبَ علب الدخان من بين يديه وٌمنع من ممارسة التدخين بأمر من الأمير أبي عبدالله الذي لم يتمكن منذ وقوعه في قبضتهم أن يتوصل إلى ملامحه ويكونّ له رأس ووجه بسيماء معينة سوى أنه شخص طويل القامة، كثيف الشعر واللحية، يرتدي جلبابا ابيض ، يبدأ جمله وينهيه ٌ دائما بعبارة واحدة (السلام عليكم).
وتخيل الأمير شخص قصير القامة ، ممتلئ الجسم ، دائري الرأس ،حاول إيجاد تشبيهات له مرة شبهه بعدنان بائع الخضار في الزقاق ، ومرة شبهه بجاره آبي لطيف ، وكونّ له ملامح مشابهة لفراس ابن شقيقه عبد ، وكثيرا ما يتخيله شبيها بالممثل الذي مثلّ دور الخليفة هارون الرشيد في المسلسل التلفازي .
قال للخاطف الذي قدم له وجبة الإفطار إنه مستعد أن يدفع لهم المال الذي يريدونه مقابل إطلاق سراحه والإبقاء على حياته إلا أن الخاطف شزره بنظرة سرعان مافهم مغزاها: أن ما بحوزتك من المال يعدٌّ من اُلمحرمات ، أنت تعمل لحساب قوات الاحتلال ،أنت مرتد.
في الصباح الذي تخيل أن ملامح الأمير مقارب جدا من ملامح أحد أبنائه الثلاثة سوى اختلافات طفيفة في لون البشرة،طلب من الخاطف أن يتحدث إلى أبنائه حمزة وحسام ومهند الصغير ليطمئن عليهم وليودعهم قبل رحيله المؤكد بعد أن تيقن أن الخاطفين يملكون معلومات كاملة عنه وأن الإبقاء على حياته صار حلماً مستحيلاً وضرباً من الخيال وتأكد أنّ الخاطفين ليسوا عصابة سلب اختطفوه لأجل ماله ، بل أنهم جماعة مسلحة تعمل لطرد قوات الاحتلال من البلاد.
وقال له خاطف آخر أنّ أمر نحر رأسه من جسده أمر واقع لامحال وأن التأخير في تنفيذ العقاب به ما إلاّ فرصة منحت له ليعلن توبته قبل أن يلتحق برب العرش العظيم وليزيد من الصلوات التي فرضت عليه منذ اختطافه.
كل ليلة ، قبل أن يأوي إلى الفراش ، يأتي إليه أحد الخاطفين ويطلب منه أن يكثر في صلاته الليلة هذه لأنها الأخيرة قد لايستقيظ في اليوم الأخر ولن يرى وجه خاطف آخر.
مضى عليه قرابة شهرين وهو على حاله هذا ، لايعلم عن مصيره شيئا، يقدم له وجبات الطعام ويفرض عليه الصلوات الخمس كل ليلة ويسمح له بالاتصال بأولاده والاطمئنان عليهم.
يأتي الخاطف ويحدّ السكين أمام عينيه ويطلب منه أن يكثر من الصلاة على النبي ويقرأ الشهادتين ثم يتركه وينصرف دون أن ينحر رأسه.
يسترقون النظر إليه من النافذة فيجدونه جالسا على سجادة الصلاة والدموع تترقرق من عينيه واثأر الخشوع على جبينه ، يقتحم الخاطف غرفته ويسأله هل تبكي جزعا من رأسك الذي سينحر كما تنحر الشاة في بيتك أم انك تبكي ندما على ما اقترفته يداك من جرائم.
- أنت مرتد..!
يلتزم الصمت حانياً رأسه، الخاطف بكبر ابنه مهند أما الأخر فسنه يقترب من حسام لكنه يجهل عمر الأمير عبد الله الذي لم يتمكن من رؤيته لحد اللحظة وعجز عن تقدير عمره.
بعض الليالي ، ينتابه القلق والأرق ويشعر أن التوبة الصادقة التي أعلنها أمام الخاطفين لن يمحى الإثم الكبير الذي اقترفه بحق نفسه وأولاده ، وآلامه أن العار سيلاحق أبنائه حتى بعد نحر رأسه عن جسده ، وخيل ّ له أن أبنائه يشتمونه ويبالغون في الشتيمة كلما عيرهّم أحد بأبيهم المرتد :
- والداكم كان مرتدا.. !!
في الليلة التي واظب فيها على الصلوات الخمس بانتظام ، اقتيد إلى غرفة الأمير أبي عبد الله وهو معصوب العينين ،ٌمقيد اليدين ،شاحب الوجه،أنهكه الأرق وتخيلّ ملامح الأمير وشكله وسماته ، واثق أن مٌنيته قد دنت وستدنو ما أن يصل باب الأمير ويقف عنده مذلولاً،مهاناً ،لن يجرؤ على رفع بصره ويتمعن في عينيه بعد أن تأدب على يديه وصار أنسانا مستقيما غير مرتد..
حين ُفك الوثاق عن يديه ولاح لعينيه ضوء الشمس وهجا برتقاليًا مزيجًا من الشعاع الأصفر الذهبي ، تنفس الصعداء وهو يخطو خطواته الأخيرة في رسم ملامح وجه الأمير آبي عبد الله الذي كان قريبا جدا لا يختلف عن ملامح وجه اصغر أبنائه .
كلشان البياتي
كاتبة وصحفية عراقية
Golshanalbayaty2005!@yahoo.com


ليست هناك تعليقات: