ما أجمل الأنا لك يابغداد

ما أجمل الأنا لك يابغداد

السبت، 25 أغسطس 2007



مرة ثانية

ما بين المثقف العربى والسلطة



ابراهيم جادالله




الواضح أن المفهوم الأول لا ينفع وحده لأنه قد يحول المثقف إلى مجرد أداة يصنع بها كل شيء ولا تصنع شيئا· والتاريخ يحدثنا أن كثيرين من النوع الأول خانوا شعوبهم وأوطانهم وثقافتهم وموروثهم الحضاري· ومازال الواقع يحدثنا عن نماذج مشابهة· فالمثقف على رأي ديكارت ناقد اجتماعي يسعى إلى نقد الممارسات الاجتماعية انطلاقا من مرجعية نظرية محددة· وقريبا من ذلك ترى المدرسة الماركسية أن المثقف هو ذلك الذي يستعمل الفكر والثقافة سلاحا للدفاع عن الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها· فالمثقف حامل لمشروع مجتمع مبشر به· فهو على حد تعبير غليون آلة لإنتاج المجتمع· ومادام كذلك فلا شك أنه سيجد نفسه في صدام دائم مع كل الذين يرفضون ذلك· غير أن المثقف العربي وان امتلك كما معرفيا فهو لا يملك مشروع مجتمع ولا يسعى لتغيير الواقع نحو الأحسن، بل يوظف سلطته المعرفية والإبداعية لزيادة نفوذه الاجتماعي وتحقيق سلطة سياسية أنانية زائلة·
إن كثيرا ممن يصح إطلاق صفة المثقف عليهم إن هم إلا آلات يكفي شحنها بالطاقة اللازمة لتنفذ لك ما تريد وما تشاء· وآلاف من هؤلاء يسبح بحمد الحاكم آناء الليل وأطراف النهار وهم الذين يكونون وراء غروره وطغيانه وما يفتأ هؤلاء أن يتغيروا بتغير الحاكم نفسه· ألم تر أن جيشا من الصحفيين والكتاب والمبدعين تحولوا فجأة عن مسعكر بومدين إلى معسكر الشاذلي وهما خطان لا يلتقيان، بل ويمكنك أن تطالع في الكتب والصحف والمواقع الإلكترونية لمثقفين وأدباء بالأساس عرب وجزائريين كتبوا ممجدين إبداعات القذافي وصدام - ولست هنا بصدد الحكم على ما كتبه هذا أو ذاك من الحكام- لكني على يقين أن ما كتب عنهما إن هو إلا زيف وبهتان·
هذا الزيف وهذا البهتان هما اللذان خلقا من الحاكم جبارا طاغية يعتقد في نفسه ما ليس فيها ويصدق ما يقوله عنه هؤلاء المثقفون، فيرى نفسه أديبا مبدعا· وبعضهم لا يحسن حتى قراءة خطبة من ورقة كتبت له· وهؤلاء على استعداد أن يكتبوا نقيضه اذا تغيرت قناعات الحاكم أو تغير هو كلية· وهم على استعداد أن يترشحوا في قوائم الحاكم وان يفوزوا بمناصب في انتخابات مزورة، ولا حرج أن يتكلموا باسم الشعب أو أن يأكلوا أمواله بالباطل· قد يقول قائل ولا ضير في ذلك، لأن التاريخ يحدثنا عن أن كبار المثقفين والمبدعين كانوا يدورون في فلك السلطة ويعيشون من فتاتها في الشرق والغرب وذاك حق إلى حد بعيد ولكن الزمن تغير· إن ما أحدثه المفكرون والفلاسفة في أوروبا من تحديد للعلاقة بين الحاكم والمحكوم هي التي قلبت كل شيء· وهي التي دفعت بأوروبا إلى طليعة البشرية، وهي حرية وجديرة ولولاه لبقيت حبيسة العصور الوسطى· ويكفي أن تقرأ العقد الاجتماعي لجون جاك روسو أو الفصل بين السلطات لمنتيسكيو لتفهم كل شيء وتقتنع بكل شيء· فما الذي وقع عندنا؟
اعتقد أن أكبر هزيمة تلقاها المثقف العربي كانت يوم انتصر عمرو بن العاص على أبي ذر الغفاري، ويوم أراق طاغية كاليزيد دم الحسين أحدهما حاكم طاغية فاجر والآخر مثقف طاهر ترجم معارفه سلوكا وموقفا كما ترجمها من قبله أبو ذر الذي رضي بالفقر والنفي والغربة والموت معزولا عن الناس عن أن يصفق لأمر لا يقبل به ولا يرتضيه ولا يتفق مع طروحاته· منذ ذلك التاريخ والمثقف عندنا مجرد تابع أمين مهمته للأسف الشديد هي الرقص في حلبة الحاكم والترفيه عنه· وافتقدنا بعد ذلك إلى فكر جديد والى فلسفة جديدة تحدث ثورة حقيقية في مفاهيمنا التي ورثناها· وبالتالي فنحن لم نتغير ولن نتغير· ولذلك احتلنا الغرب ومازال يحتلنا· ولك أن تقوم بعملية حسابية تقارن فيها بين عدد جنود فرنسا الذين سيطروا على كل المستعمرات وبين مثقفي تلك المستعمرات، ناهيك عن سكانها إجمالا·
المثقف عندنا سلبي للأسف الشديد يمكنه أن يبيع ماء وجهه وماء عروقه وحتى ماء شرفه ليرضي الحاكم ولو كان طاغية جبارا· ولذلك مازال الحاكم في بلاد العرب يمضي في طغيانه دون الرجوع إلى الشعب ولا إلى طبقته المثقفة ومازال حكامنا يلتصقون بالكرسي العقود كاملة ليتركوها من بعدهم لأبنائهم وأحفادهم وفي أخف الأمور لابناء حزبهم ولا أحد يمكنه أن يؤكد أن المعارضة وصلت في أي بلد عربي للرئاسة· مازال المثقفون عندنا لا يكتبون إلا ما يرضي أسيادهم وإلا فإن إرهاب السجن والاقصاء لهم بالمرصاد· ولا يفوتني أن أقف احتراما للمثقفين الرائعين على قلتهم حين رفضوا الانبطاح ورضوا أن يعيشوا قناعاتهم ولو كانت مع شظـف العيش ولو كان بعدها القتل· ويكفي أن نذكر الكواكبي والأفغاني ومفدي الشاعر العظيم الذي عاش عظيما ومات غريبا فطوبى للغرباء·
حقيقة إن جهد المثقف يحتاج إلى جهد الاجتماعي والسياسي ولكن نوره الصادق المخلص سيصل إلى القلوب يوما ما وستعصف رياح التغيير على واقعنا العربي
·

ليست هناك تعليقات: