ما أجمل الأنا لك يابغداد

ما أجمل الأنا لك يابغداد

الأحد، 1 يوليو 2007




مواسم الضنى

القسم الثانى


ب
واشتعلت حرائق كبيرة
تمهيدا لحريق أكبر



وقفة قبل المنحدر



فى عز حرارة الصيف اللاهبة ، وحرارة الأحداث الأكثر لهيبا ، بدت كل الأشياء ساخنة تقبل الاشتعال ،وإعلان الحريق إن تطاير أدنى شرر ، حينها تطير غربان مشتعلة الأجنحة الشوكية ، تحط على أفاريز الشبابيك وأعالى الدور الحبلى بالغضب ، وفوق أسطح فتحت مسامها للدخان ، فتأتى ريح فى غير موسمها دائما ، تدمدم وتزوم ، وتلم فى عنفوانها كل مشعلات الغضب ، ويدوى الكون بالخراب الذى يسعى .

1/ شوقى بين امرأتين وصبيين

كان خبر سقوط شوقى ابن بدير من فوق عامود الكهرباء مدويا ، ارتجت القرية كلها له ، مابين شامت مقدر أنه الجزاء المستحق له عند رب العباد ، وما بين مرتجف لعواقب الخبر مما يشاع عن تربص صبية يناصرون مرشحا آخر به وأزاحوا السلم الذى يرتقيه للصعود فوق العامود فسقط وقد سمعت طقطقة عظامه ، وما بين ملتاع حزين ،وهم أهله وناسه ، ولكن زينب برقوقة أم فتحى ، الصبى الذى انتهك شوقى ابن بدير مؤخرته، لما أتاها خبر سقوطه ، وأن عظام حوضه قد تكسرت ، وأنه كان يعوى من الألم كذئب مريض ، رفعت عقيرتها ، تملأ الحارة ابتهاجا وفرحا ، ولم تمتنع عن إطلاق زغرودة تدوى ، وراحت تجرى كالذى أصابها مس تطير الخبر فى كل الحارات والأزقة وبين الجالسين على المصاطب وأمام فوهات الحارات وعلى رؤوس السكك ، وكأنها قد تخلصت من فأر أو ثعبان داخل سروالها ، وكانت تصيح : ربك بالمرصاد ، ربك المنتقم ،
وعلى غفلة منها ، بينما هى تهرول كالمهووسة ، تلقفتها يد فوقية أم شوقى ابن بدير ، وقد كانت متوارية خلف باب دار شقيقتها القائمة عند مدخل الحارة التى تسكنها زينب ، واندفعت اليها تجرها من شعر رأسها الأكرت القصير ، وقد اندلقتا فوق أرض الحارة ، ينحسر ثوباهما عن أفخاذ بيضاء ملفوفة ومنحسة ضامرة ، وتمزقت قمصان فوق الصدرين وقد صارا عاريين ، وبان ما بان ، ما جعل عيونا تلاحق المشهد غير خجلة من تلصصها ، والتمام النسوة يتراجع عن فض هذا الاشتباك ، وعهد أمره لرجال يتابعونه ، وقد قبلوا به راغبين طائعين
. .
2/هيثم مقتله امرأة

لم يكن فى وسع هيثم ابن رأفت سوى أن يدور دوراته المعهودة فى شوارع البلد ، وبخاصة هذا الذى يحزمها من المنتصف ، فيقسمها ، صرة ملمومة يدور حولها الشارع ، وهى وسط البلد وحارات الجعافرة ، والجامع ، وأمين ، والسعادوة ، وأطراف تدور باستدارته وتسيجها الغيطان من كل ناحية ، يتقدم رتلا من سيارات نصف النقل ( التويوتا ) والجرارات الزراعية التى تقطر مقطورات يملأ صناديقها صبية يرفعون صور المرشح صغير السن وحيد أبويه ، والبعض يدق دفوفا وصاجات بين الأصابع ، وكثيرون يرددون الهتافات خلف الواقف يتوسطهم يزعق بصوته المبحوح ، بينما كان هيثم يترجل فى المقدمة ملوحا بسيف خشبى طلاه بالبرونز فصار يلمع تحت أضواء أعمدة الضوء الشحيحة ، وهو يمنى النفس بجولة ترضى هذا الشاب الثرى الذى أتاه خبر بذخه عن يقين .
كان عليه الاستعانة بشقيقه الأصغر الذى يتوافق معه فى كل صغيرة وكبيرة دون اهتمام منهما لاستنكارات متكررة من أشقائهما الآخرين لأفعالهما ، وما أن هم بارتقاء كتف شقيقه ليكون فى متناول الأبصار ، وهو يحدو الصبية والسائرين بموكب آخر من مواكب الدعاية ، حتى داهمت الموكب امرأة ، ثلاثينية ، ربعة ، بيضاء ، شعر رأسها الناعم معقوص بمنديل وردى خلف رقبتها الملفوفة اللامعة ، فى عينيها غضب يلتهب ويتوقد باقترابها منه ، وهى تخترق كومات الصبية والرجال والجمع المرافق للموكب كانت تنخر بمنخاريها كذبيحة ، ، وما أن التقطت طوق قميصه ، حتى ألقت به أرضا بين رجليها المدبدبتين ، وألقت بجسدها المدكوك باللحم ، وكانت تخمش وجهه بأسنانها .
ولما كانت عجيزتها الضخمة الممتلئة الثقيلة قد ثقلت فوق جسده الهزيل ، ولما لم يستطع هو منها حراكا أو الافلات من قبضتها رهبة وحذرا من إيذائها ، فقد دفعها الأمر لتناول حذاءها ( اللميع ) وانهالت به على رأسه ، وهو أسفلها لا ينتوى حراكا خشية من يراقبون الأمر ، وكى لا يفتضح أمرهما ، ولم يستطع شقيقه المضى فى تجاهل الأمر ، فراح يمتطيها كما يمتطى الرجل بغلته ، ويقبض بساعديه على رقبتها ، مطوقا ، ومحتضنا ثدييها من الخلف ، وكانت تلك العجيزة المدملجة هى سيدة الموقف فى تلك اللحظة وسط دهشة من يراقبون بعيون شبقة


.
3/ عبوده يطارده شبح

كان الزقاق الرطب دائما ، والضيق لصغر البيوت الراقدة واطئة على جانبيه ، والذى تنام فى نهايته دار عبودة ابن جبر القريشى مظلما تماما ، والليل قد انتصفت قامته ، ولم يدخلها عبودة بعد من رحلته المدفوع اليها دفعا من زوجته بصحبة شكرى نبوت وآخرين .
ولما كان شكرى نبوت قد وقع فى حرج بالغ أمام صهره المرشح فى بدء تلك الليلة ، بسبب ما أعلنه عبودة من جهل بالصفة الانتخابية لصهره ، ـأهو عن العمال أم عن الفئات ، فقام باسترداد ما أنقده عبوده من عشرة جنيهات مقابل تجنيده مع عشرات من أمثاله يتبعون صهره المرشح فى جولاته بالأصوات الهاتفة ، وكان عبودة يمنى نفسه بطريق عودته إلى داره بليلة تنعم بها زوجته عليه بعد طول هجر وصد ، ولما تحل ذكرى العشرة جنيهات التى فقدها ، وقد كانت بين يديه ، يشعر بغصة وحسرة تملأ كيانه ، وكان إحساسه بالشبع وامتلاء معدته بعد العشاء الذى لم ير له مثيلا قبل ، يزول على الفور ، وهيأ حاله المرتخية لملاقاة زوجته ولسعات لسانها ، فسار وحيدا يقطع الحارات وظلال البيوت النائمة صامتا واجما محتميا بصمته.
فى ظلام الزقاق الضيق شعر وكأن روحه تنخلع منه ، حين دفعه شبح لم يميز له ملمحا ، وكان مندفعا خارجا من داره ، لما دق على بابها دقات رهيفة ، كان الباب الخشبى القديم حينها مواربا ، تقف زوجته فى عتمة محتجزة خلفه ، فانتفض منه البدن ، وغرزت على التو وساوس كثيرة أسنانها فى رأسه وصدره ، لم يفق منها إلا وتلك الرؤوس المطلة من بين أفاريز النوافذ الضيقة حوله ، نسوة متثائيات ، ورجال يهرشن الرؤوس المخدرة من نوم مبكر ، بينما راح عبودة يدق بقبضتين واهنتين مرتعشتين فوق صدره تارة ، وفوق الباب الذى فتح عن آخره تارة أخرى ، وارتفع صراخ منه يفتك بسكون مألوف فى تلك الساعة من ليل البلد ، وقد التم على الفور جمهرة من صبية وشبان ونسوة تحيطه ، لم يفكر لحظتها من أين أتوا ، وكانت أفوه مندسة تبصق فى الفراغ ، وهمهمات بحروف تتجمع فيها أمنيات أن تتطهر الحارة والزقاق من عبودة وزوجته ، وكانت الهمهمات تبدوا واضحة الحروف فى مسمعه
.


4/ الحاج رضا وسيف المقاطعة

راح سوس الشقة والخلاف ينخر فى عظام العائلة الكبيرة ، والتى بدت متماسكة طوال تاريخها المنتسب لياقوت العزازى ، العبد القادم من بلاد الجنوب الأسمر على يد أحد الأغوات ، لم يفتتت تجانسها المشهود طوال حقب كثيرة سوى تلك النزعات المتهورة والانحرافات التى ظهرت على الجيل الأوسط منها ، والذى يعتبر الحاج رضا أحد البارزين منه ، هذا على غير عادات أبيه الذى رحل عن الدنيا منذ سنوات قليلة ، وكان محط أنظار القرية كلها ، والتفاف أسرته حوله برغم المآخذ الكبيرة على تصرفات كانت مخجلة للبعض من شبابها الذى طرق أبواب المدارس والجامعات ، وكانوا يتبرمون منه علانية .
لما طار اليهم خبر الجلسة الغاضبة أمام دار راشد ابن محمد أبو دراع اليهم ، أخذتهم الغيرة العائلية ، وحنق واشمئزاز من تصرف ابن كبيرهم الحاضر ما يزال داخلهم ، فأصروا على حضوره جلسة عائلية لاستيضاح الأمر منه ، وما تلفظ به من كلمات كانت مثار الاستهزاء والسخرية منه ومن كل أفراد العائلة ، حين تفوه راشد ابن محمد أبو دراع بملء فمه له: طالع لأبوك ، دايما مادد إيدك .
لكن الحاج رضا أحذته حمية هو الآخر ، رافضا الانصياع لمرتدى البنطلونات ، وساخرا من غيرتهم المزعومة ، وأن أكبر ما بينهم مايزال يأخذ مصروف جيبه من أمه ، وكيف لصغار العائلة أن يعقدوا له محاكمة ، ليلوموه على كلام أو تصرفات ، وأن آباءهم لا يستطيعون الشرب من القلة بدون إذن نسائهم .وواصل إصراره على تأكيد ما دار فى تلك الليلة ، وأنه يناصر الحاج فايز بكل ما يملك من قوة وعزيمة ، وأنه عنده أبقى من أكبر عمامة فى عائلته ، وأن راشد أكثر أبناء البلد شهامة ووعيا ، ولم يؤازره فى تلك الساعة غير نفر قليل من أبناء العائلة ، ما بين متهرب من الخدمة العسكرية ، أو عاطل يلوذ به فى مواسم كهذه ، أو ممن ينتمون لأفرع ضعيفة وفقيرة من العائلة .
كان الغضب قد ملأ النفوس الهائجة من العائلة فى صباح الغد ، وصارت بيوتها المتناثرة فى كل حارات البلد مغلقة على جلسات حنق وغضب على الحاج رضا ومنه ، وحضر بعضها ابنه البكر العائد قريبا من بعثة دعوة دينية ببلد أفريقى ، وهو أحد المستنكرين فعال أبيه ، وتحرش به أحد الصبية موجها كلامه إليه : هوا أبوك كان راح يحج إمتى ؟ مش خسارة نقول له ياحاج ؟ .
وكان ثمة إصرار قاس على مقاطعته فى كل صغيرة وكبيرة من أمور حياته ، السارة والضارة ، وكان أن تبنى غالبية أبناء تلك العائلة مساندة المرشح الذى ينافس الحاج فايز ، واعتبروه الرد الأنسب ، وكانت تلك هى القشة التى قصمت ظهر العائلة
.

5/على ابن خالتى حسينةيسترد دينه؟"

لم يكن على ابن خالتى حسينة ، وهو مااشتهر بتلك الكنية فى البلد لولادته وحيدا لأمه بعد خمس بنات وبعد موت أبيه أن يقدر للأمر قدرا أبعد من أن فرصة لاحت أمامه الآن لاسترداد الألفين من الجنيهات التى غابت عنه عامين كاملين ، فقد الأمل فى استردادهما من سعد المكباتى.
ولما توجه مع صاحب اللحية الطويلة الخشنة والعمامة المدلاة الطرفين على قفاه ، ليركب بجواره بسيارته الزرقاء الجديدة اللامعة يتقدمون رتلا من سيارات النصف نقل والجرارات الزراعية الملأى بالصبية يهتفون باسمه مناصرا للحق وشرع الله ، كان يسرق لحظة خاطفة من ضغط على ابن خالتك أمينة عليه ليخرج ساعده مشمرا عنه كم جلبابه الواسع محييا لمن يروحون ويجيئون فى طريقهم ، لايستوقفهم أمر مكرور ملول ، صارت تلك المظاهر شيئا ثقيلا على نفوسهم ، فكان من الأوفق لهم عدم اللامبالاة فى ملاقاتها ، لم يكن على ليعد للأمر أكثر من استرداد الألفى جنيه التى اقترضها من زوجة أبيه ، وسلمها راضيا مرضيا عنه للمكباتى منذ أعوام ثلاثة ليحقق رغبته بالسفر ، ولم يكن لتساوره شكوك لحظة واحدة بعد رحلة مضنية مطالبا إياه باعادتها ، وقد كان واقعا بين فكى رحى يهرسان أيامه ، فلا هو بالمسافر ليسكت إلحاح زوجته أن يسافر كأخيه من أبيه ، وليشترى ميراث شقيقاته فى الغيط والدار ،ولا هو بقادر على إرجاء تهديد زوجة أبيه بمقاضاته بالشيك الموقع أدناه بخط يده أكثر من ذلك ، ولم يكن يحدس أن لعنة ما ستصيبه ثمنا لعودة فلوسه إليه
عند فجر هذا النهار الذى ولد ساخنا ، كانت الحارة المكنوسة من أتربتها قبيل غروب الأمس والشوارع المزروعة حولها قد امتلأت بجنود مدججين ، ورتل متراص بتساو من عربات مصفحة وناقلات جند بصناديقها الزرقاء العالية المغلقة من الجهات الثلاث عند مدخل الشارع الرئيسى الذى يحزم القرية ، وعيون مخذولةيملؤها فضول ورعب مباغت ، تتلصص من خلف نوافذ مغلقة ، كان على ابن خالتك حسينة بملابس نومه وقد بللها عرقه وبوله الذى تسرب رغما عنه لفزع أصابه على التو ، معصوب العينين ، والخوف الذى يحتويه ، وصراخ زوجته ، وقد تبعتها لكمة فى فكها لم تدر من أين أتت ، فخرست على إثرها تلملم أطفالها وهم يدعكون حبات عيونهم بأصابعهم
كان قد وجه إليه تهمة . حاول الضحك منها ، لكن آثار الخوف المصحوبة بوجع فى الكتفين من ضربات من اصطحبوه حيث مركز الشرطة ، فسئل عن إيصال الأمانة الذى وقعه سعد المكباتى دينا له عليه نظير انتمائه لتنظيم تورط سعد فى الانضمام إليه ، ولما سئل عن بقية من يعرفهم من المنضمين معه ، لم تشفع له تبريرات كان يسردها بتلعثم ، ولم يكن باستطاعته الاستحواذ على جرأة كانت أداته فى الضغط على المكباتى لإقراره بذاك الدين ، خذلته قدراته فى التحايل على الواقع ومجريات الحياة ، فظل صامتا يطوى انكساره بداخله ، وكان مأخوذا بكليته للأمر .
وبعد أسبوعين كاملين قضتهما شقيقاته الخمس مقيمات بداره ترقبا لعودته ، وكأن حجرا ثقيلا يجثم على صدورهان، عاد مشعث الشعر مغبر الهيئة غائر العينين وكأن حجرا ثقيلا يعلق بقدميه ولسانه ، على عتبة داره يقضى ساعاته شاردا وأثقالا يتزايد رسوخها على صدره. لم يعد بمقدوره إزاحتها كسابق أيامه ، صارت رأسه كخرابة مهجورة. أو كعش زنابر مهيجة فى عز قيلولة صيفية ، أما بقية ساعات ليله فالأشواك تنبت له فى كل رأسه المزحومة ، أو تدمى جسده الذى هزل
. بيه له بمقاضاته بالشيك أكثر من ذلك ،
ولم يكن يتصور أن لعنة ما ستصيبه جراء عودة الأفى جنيه إليه



6/ما حك جلد الأمير غير ظفر الحاجة

وبعد أن أتم الأمير سحب آخر أنفاس دخان المعسل من قصبة الجوزة النحاسية ، شعر بميل لحجر معسل آخر . فأعقبه بتكاسل ، وكان قد بدأ فى استعادة قليل من تذكر لأحداث الليلة ، فنفض بصابيص النار الذاوية بحجر الجوزة فوق المعسل المحترق وقد استحال كتلة سوداء متفحمة ، أزاح بيده المعروقة طاجن الفخار الذى يلم بصابيص نيران القوالح ، وحاول أن يمدد أعضاءه ، ففرد ساقين متخاذلتين ، وأغلق عينين مقروحتين ، وكان يضطجع على جهته اليمنى مطبقا ذاراعه تحت رأسه فوق حصيرة جافة على أرض حجرته ، لكن الخواء الذى عشش ساكنا داره وقد كثفته الظلمة المهيمنة بعد انقطاع الكهرباء منذ عشاء هذه الليلة ، وغياب أنفاس زوجته وطفليه ، أدخل هلعا إلى نفسه . على إثره حاول استنهاض عافيته ، فأصابه هلع أن شعر بحكة فى صدره وظهره تؤلمه ، ولما لفحته حرقة شديدة جراء حك جلد ظهره بالحائط ليزيل آثار الرمز الانتخابى للحاج فايز المنقوش عليه ، شعر بميل جارف أن يصرخ بعلو الصوت الذى كان مخنوقا ، وهو يلف ويدور داخل حجرته كمن أصابه مس .
غالب وجعه الذى تحصل عليه من لفه ودورانه تلك الليلة بشوارع وحوارى البلد عريانا نصفه الأعلى ، وعض على حرقته ، وهم ، يرتدى جلبابه ، مسلما نفسه لظلمة الحوارى والأزقة وعتمة روحه ، وكانت البيوت والقرية كلها تغط فى نوم عميق ، ولا تدرى اقتراب فجر آخر ليوم جديد آخر .
التقاه كمال شقيق زوجته عندباب داره حين هم من نومه مفزوعا على دقات يد الأمير المرتبكة عليه ، زام فى وجهه غاضبا ، وقد طلعت اللعنات والشتائم مندفعة بينهما ، لتوقظ النيام من أهل الدار وقد عادوا أدراجهم غير آبهين بما يدور بينهما ، ولم تنس زوجة الأمير أن تبصق أمامها فوق عتبة الدار وأما م وجهه وهى تستدير داخلة ، تحاول أن تجر شقيقها من ساعده لتدخله ، وتغلق الباب عليهما ، بينما طفلاها يتململان تحت غطاء رث فقير .


7/راشد، ومن يكبح جماح هذا الشطط

الملفت للأمر فى هذه الحالة ، ولكنه لا يدعو لعجب وتعجب العارفين بأمر وأحوال راشد ابن محمد أبودراع وتقلباته ، هو فهمى ابن وجيه، فبرغم صلة القربى بينهما ، بانحدارهما لفرع رقيق الحال من عائلة كبيرة العدد ، متنوعة ،أصاب الكثير منها أخيرا رغد عيش ، إلا أن كلا منهما لم يكن ليهنأ بمجلس واحد يجمعهما ، وهذه الحالة الحاصلة الآن ، استثنائية ، ولكنها لن تمر هادئة ككل التمنيات المخبوءة بالنفوس .
وضع فهمى شروطا قاسية أمام أنصار الوزير المرشح ، فى أن يساندوا بقرية الوزير مرشحا يناصره فهمى وراشد برغم استياء الكثيرين منه فى القرية ،ومن كل المحيطين به ، وراح فهمى يشدد من شروطه وكأنه القابض على كل الأمور فى القرية ، فأتت كلماته عنيفة لحد الوقاحة ، ما جعل أنصار الوزير المتفاوضين يعلنون استياءهم من مقترح فهمى بإرسال بعض من أنصار الحاج فايز إلى قريتهم لمتابعة درجة تأييد الوزير وأتباعه للحاج فايز فى قريتهم الكبيرة العدد ناسا وأصواتا انتخابية ، ولما اعترض أحدهم بأن ذلك خروجا على أساليب الحزب الحاكم فى البلد والمترشح عنه الوزير ، وأمل أن يكون الأمر فى إطارمن السرية والكتمان ، جذب راشد من بين شفتين غليظتين نفسا من سيجارة مائلة عند زاوية من فمه ، ولما دمعت إحدى عينيه من دخان تسرب اليها ، أغمضها وهو ينفض رماد هابأصابع متوترة ، وكان ملفوفا داخل عباءة بنية اللون ، غامقة ، برغم العرق القليل الذى يلمع فوق الوجوه والأبدان بفعل حرارة أيام الصيف ولياليه ، وطفت على ملامح وجهه علامات بشر للأصوات الطالعة المختلطة المتوترة والمشحونة بتلك الفوضى التى يطرب لها وهو يراقب ما يدور بين فهمى وأنصار الوزير بشغف ، تلقوها هم بكثير من حذر وتوجس .
و الملفت للنظر من الأمور فى هذه الليلة أيضا، ولم يقف أمامه غير العارفين براشد وتقلباته ، هو إعلانه تنظيم مؤتمر حاشد للوزير فى القرية نهاية هذا الأسبوع ، وقبل الإنتخابات بثلاثة أيام ، معلنا بضخامة صوت أنه أوفر المرشحين حظا فى الحصول على مقعد البرلمان هذه السنة ، وبالرغم من علامات الضجر البادية على وجوههم ، فقد أدركوا للحظة أن هذا المؤتمر الحاشد لن يقوى على اكتماله راشد ابن محمد أبو دراع ، ولما يشأ أحد أنصار الوزير المجتمعين به أن يذكره بليلة الأمس التى كان يتصدر موكب المؤيدين لأستاذ الجامعة المترشح عن حزب معارض شديد البأس فى مناهضة سياسات الحزب الحاكم، حزب الوزير ، وخايلت الجميع ممن حوله صورته ليلة الأمس محمولا على الأعناق بالساحة المواجهة لترب القرية، يهتف لمرشح الحزب المعارض، ومعلنا بملء فمه تزكيته له وتفضيله على كل ما عداه من مرشحين ، وقال كلاما كثير ا لعب بخيال المرشح المعارض ، ونال عجبه وإعجابه ، ولكن إعجابه زاحمته صورة يحفظها جيدا لشاكر وتقلباته وأهواءه .
وأسرً راشد لفهمى إبن وجيه المحاصر فى موقع مدرس اللغة العربية منذ خمسة عشر عاما لم يتزحزح للأمام قيد أنملة لسبب وحيد ، وهو كثرة تجاوزاته الخلقية مع زملائه وتلاميذه ، مما عرضه لكثير من العقوبات الوظيفية عطلت ترقيه ، أسرً له بأن فرصة نجاح الوزير هى الأفضل لأنه مدعوم من أهل الحكم وذوى النفوذ ، وفى نجاحه فرصتهما الأخيرة ، بإزاحة عقبة العقوبات من ملفات فهمى الوظيفية ، كى يسهل ترقيه ، ومساندة راشد فى الانتخابات الفرعية لنقابة المعلمين ، التى يتجاوزها طموحه إلى النقابة العامة ، وأنه سيكون خير داعم له فى تحقيق طموحه الذى يشاغله صورة هلامية عنه منذ طفولته البائسة ، وأن يكون له شأن وسط أهله ، وأسر له أيضا بأن دعم طموحهما لا يتأتى سوى عن طريق المباعدة وبذر الشائعات وإثارة الفرقة بين أنصار الوزير السابقين فى البلد من الدورة الماضية قبل سنوات خمس ، وممن كان يرى فيهم عقبات أحالت دون تحقق طموحه .، وأن يستحوذا وأتباعهما على نصرة الوزير المقرب كثيرا من رؤوس نافذة فى الحزب الحاكم.
كيف له ذلك ، وهو الذى لا يقدر على اصطفاء خلان له ؟.فاستدفأ بالكثرة التى تتبعه لحاجة فى نفس كل واحد منها ، ولكنه كان كطاحونة تسمع منها ضجيجا عاليا ولا ترى من قادوسها طحنا ، فالتفافهم حوله برغم الأهواء المتناثرة كان وسيلة لمجابهة فوضوية هذا المشهد المعتاد كل عدة سنوات فى القرية ، والبعض منهم كان يجمعهم هوى الحضور فى الصورة فقط ، وآخرون لإعلان المكبوت من ثارات نفسية مع آخرين .
وكان قربان المودة مع الوزير وأنصاره ، هو هذا المؤتمر الذى اقترحه راشد ، وسيعمل على إتمامه بكافة الوسائل ، واحتار أنصار الوزير فى امر كتموه عنه ، كيف له أن يدبر أموالا لإقامة سرادق يستوعب هذا المؤتمر ، وبكل ما يلزمه من مقاعد ومكبرات صوت وكاميرات تصوير فيديو وفوتو غرافيا ، وجريا على عادة المرشحين الموسرين ، فلابد من وجود كاميرات تصوير للفيديو ، وهو الذى تسبقه حكايات عن عدم رفضه مايقدم له من هدايا مادية أو عينية ، وليس بخاف عليهم ، كما هو ليس بخاف على أهل القرية كلها حكاية كيلو اللحم الذى كشف امر حصوله عليه من مقاول الرصف المرشح ، حين سمعهماهيثم ابن رأفت يتهامسان بجوار سرادق العزاء الذى أتاه المقاول للمجاملة والدعاية لنفسه ، فتطوع على الفور وقد فاجأهما أمره أن يوصله إلى دار راشد الذى وقع فى يده ساعتها ، ولم يجد بدا من السماح له بذلك ، وما أن قبض هيثم على لفافة اللحم ، حتى جاهر بالأمر ، عالى الصوت ، ولف ودار بالخبر ، ولم يستطع راشد مواجهته طويلا ، حتى استقر الأمر بينهما إلى مشاركةى فى الأمور المشابهة. يقاسمها مع راشد رأسا برأس
وصار أمر تجهيز هذا السرادق وتكلفته طى الكتمان بين راشد وفهمى ابن وجيه، وقد أخبره راشد أن لابد من تحمل القرية كلها نفقات هذا السرادق ، فتجمع حوله من يتوافقون فى هواهم مع الأمر ، وراحوا يطوفون بالقرية ليل نهار يجمعون المساهمات ، بالحيلة مرات ، ومرات بالترغيب ، ولم يجدوا له عسرا فى الأمر ، فغالبية مازالت تعلق آمالا فى رجل الحكومة والوزير الحالى ، أملا فى إنجاز المعهد الدينى والمدرسة الإعدادية لأبنائهم بديلا عن معاناتهم فى السفر يوميا إلى المنصورة أو القرية المجاورة ، وما هو ناتج عنه من مشاكل ومشاحنات بين أولادهم وأولاد هذه القرية ، وتحرش مستمر ببناتهم ، هذا غير مصروفات يلتهمها الأولاد و لا يمكن التهرب من أثقالها ،.
قبيل صلاة العصر لليوم الذى يسبق الإنتخابات بيومين، كان السيد ابن عبد الجواد وأخوته الصغار قد شدوا الأحبال بالعروق الخشبية الطويلة ، وقد ربطوا بأطرافها أقمشة السرادق الذى انتصب لمرة واحدة وارتفعت جوانبه التى سدت من جهات ثلاث بأقمشة مزركشة كأقمشة السقف تماما ، وكسيت فى معظمها بصور الوزير المرشح ، وتدلت عقود لمبات النيون ، ورصت بباحته المستطيلة الواسعة أنواع ثلاثة من كراسى ، الثلاث صفوف الأولى جلدية خضراء حرسها عند رأس الصف الأول فهمى ابن وجيه ، وأشقاء راشد المهتاجون لأدنى محادثة ، والمتحفزون فى عصبية لا تدرى لماذا هم على هذه الشاكلة هذا اليوم بالتحديد ، تلتها صفوف أكثر عددا بكراسى خشبية ذات مقاعد جلدية ، بينما استكمل فضاء السرادق فى المؤخرة بصفوف من كنبات خشبية جمعت من الدور والمضايف والوحدة الصحية المجاورة ،وتصدرت السرادق منصة عالية فى المواجهة ، مرتفعة قليلا ، يعلوها يافطات تأييد ومبايعة للوزير المرشح وصوره ، وعبارات توحى بالصلة الوثيقة بينه وبين الرئيس ،.وعبارة من الرئيس ، قالها فى مناسبة لا يذكرها أحد ، لكنهم يصدقون أنه قالها ، وفى هذا الرجل بالتحديد ، فقبل توليه الوزارة كان الطبيب الخاص لزوجته ، وما يزال مستشارها فى هذا الشأن ،.
قبيل حضوره إالى السرادق كانت القرية تعج بالغرباء ممن لاتختفى ملامحهم ، والتى يدرك الصغير والكبير على الفور أنهم مخبرون ، ولأنهم كانوا كثيرى الحركة هنا وهناك ، ويتبادلون أطراف الكلام مع عساكر يحيطون السرادق ، ويصطفون على جانبى مدخله ، والبعض منهم كان يتضاحك مع ضابط شاب يحمل فى قبضته جهازا لاسلكيا ، يصدر أصواتا متقطعة بين الحين والآخر ، مما جعل الكل يخمن بحضور شخصيات ذات نفوذ ، إن لم يكن محافظ الإقليم وبعض من وزراء غير مترشحين ، ودار همس قوى بأن شخصية هامة ، وهامة جدا ستحضر هذا المؤتمر لتزكية الوزير والضغط المتواصل على المنتخبين الفاقدين الثقة فيه ليعطوه أصواتهم .
وبينما اكتمل اصطفاف العربات النقل الكبيرة المصفحة الزرقاء الناقلة للجنود المدججين بخوذاتهم وعصيهم الغليظة ، وصدحت مكبرات الصوت داخل السرادق وخارجه بأعلى الأسطح المحيطة ، كانت المقاعد الخشبية قد اكتمل الجلوس عليها ، واحتشد المئات من فضوليين وقليلى الحيلة ومن ليس لديهم شاغل يشغلهم فوق الكنبات بمؤخرة السرادق ، وكانت عينا راشد المترجل بين الصفوف بالسرادق شاهرا عنفوانا هشا وخيلاء ساذجا وكبرياء طفوليا بليدا ، زاغت عيناه فوقعت على وجوه تجلس بين الصفوف الأمامية ، تابعهم بقلق ، وراح صدره يعلو ويهبط ، وأنفاسه تضطرم كضجيج ماء يسقط من بوابة قنطرة ، ورحت برأسه تلعب علامات الغضب الذى يمور كلما لمح منهم تحفزا هيىء له ، فلم يستطع وقف تربصه المختزن تجاههم وصلفه الذى لم يقو على اخفائه فى تلك الساعة التى يأمل إنجازها بسلام ، ليقدم نفسه للقادم ومعه مناصريه من رجال الحكم والإدارة كصاحب دور لا يقارن به دور فى القرية ، وانه بكسبه له كسب لتأييد الغالبية ، لحظتها خرج العفريت الذى بداخله ، وهبطت كل رغبات التسلط عليه طائعة ومستجيبة ، قبض على مكبرالصوت ، وراح يعدد من مآثر له كانت تستحضر على التو ضحكات عالية وساخرة ، وأفضالا على الصغير والكبير بالقرية ، وأنها ستستمر إن هم أعطوا الوزير أصواتهم ، ولأنه سيكون الوسيط ولا غيره بينهم وبينه فى إنجاز كافة
المشاريع المبتغاة فى البلد، وأنه لا مكان للمغرضين والفاسدين بيننا ، وارتفع صوته ساعتها ، وحمى وطيس زهوه حين امتلأ السرادق عن آخره يالمتطلعين والفضوليين والمترقبين أن توزع عليهم عطايا المرشح الوزير كما اشاع وعلى عجل شعبان ابن بدرية ، وقد حسب راشد هذا الحشد من نتاج جهد وألفة بينه وبين الناس .
طارت فكرة مباغتة للتو الى رأسه ،لم يدعها تختمر فى الرأس ، فأمسك بالمكبر الصوتى من جديد ، وأشار بيده المعروقة التى ترتعش أطراف اصابعها دوما ، وأعلن : أن على الحاضرين جميعا ، ونيابة عن أهل البلد جميعهم أن يرددوا خلفه قسم الوفاء للسيد الوزير والتأييد بأصواتهم يوم الانتخاب، لكن السرادق المشغول بأشياء اخرى لم يكن ليستوعبها أبدا لولا هذا الصفير الطالع من جانبى السرادق فى المؤخرة ، حسبه استجابة لمطلبه ، فارتفعت عقيرته بالهتاف وبالقسم الذى طرأت كلماته على التو فى رأسه ، فلم يجد صدىلذلك .سوى قلة من صبية يتجولون فىشوارع البلد خلفه تمضية للساعات الفارغة فقط.
ساعتها انبرى من بين الصفوف الأمامية واحد كانت عينا راشد لا تتوقف عن ملاحقة تحركاته فى مجلسه ، اقترب من صدر المنصة العاليةومحاولاالاقتراب من مكبر الصوت الآخر الملقى فوقها ، تتردد كلمات مترجرجة فى حلقة ، لكنه أطلقه بصوت خفر ، أن علينا أن لا ننقادأو نصغى لهؤلاء الخفافيش المرصودون للظلام ، وممن لا نرى فيهم غير دعوات للهياج فقط ،
ولما كان القمقم قد خرج من صدر راشد ، فانطلق يرغى ويزبد ، تتطاير الكلمات من فمه المبلل الشفتين دوما ، وأشار بأصابع ترتعش فى وجه الواقف أسفل المنصة، مستنهضا سندا من الحضور المشغول عنهما بأشياء أخرى .، فتطوع حسن الموافى تاجر المواشى بجذبه من طوق قميصه لإنزاله من فوق المنصة . لم يكن من امر يحكم الموقف سوى فوضى عارمة ، وصراخ نسوة فوق الأسطح المحيطة تذكر أصواتهن خلف ميت اوغريق اوحريق اشتعل فى احدى الدور بينماالسرادق يختلط فيه السباب باللكمات والآهات بالدم الذى ينفر من رؤوس عاريةوغبار وفوضى ، لم تستطع العربة الزرقاء ذات الصندوق العالى المحاط بجنود مدججين ومن جاءوا لحراسة المحافظ وعلية البلاد لمناصرة الوزير المرشح ، وحماية مناصريه من اصحاب الشأن ،وقد انفرط منها جنود آخرون يملأون السرادق منتشرين فى كل جنباته، ولما لم يكن بمقدور أحد فض الفوضى ،تطوع جندى مدرب بقطع حبل الكهرباء الواصل من الماكينة التى تطقطق غير بعيد الى السرادق، ومارس الآخرون مهام أخرى يتقنونها ، فكان الصوت الطاغى ساعتها هو للقيود الحديديةالمصطكة بالمعاصم


ليست هناك تعليقات: