ما أجمل الأنا لك يابغداد

ما أجمل الأنا لك يابغداد

الأحد، 8 يوليو 2007



نوافذ الملح ، واللعبة الحرة فى الكتابة


حتى الأمور التافهة لها علاقة بالثقافة، وكذلك المواد البخسة الثمن ك<<الملح>>. فنحن نتصرف دائماً على أن الثقافة أرفع من أن تتحدث عن مزبلة أو مياه نتنة أو مواد رخيصة.

هي تحكي قصة الذهب لا الحديد مثلاً، وقصة الإنسان لا الحيوان، وقصة الشجر العالي والغريب لا قصص الطحالب والطفيليات

تتحدث عن بطل يطول رأسه السماء أو، على الأقل، السقف، لا عن شخص هزيل مشرد خسيس ونكرة بين البشر
قال لي صاحبي: كيف تعكف على قراءة كتاب بهذا الحجم عن <<الملح>>. أي فائدة تجنيها من ذلك؟
لم أستهجن استخفاف صاحبي بالوقت الذي أصرفه على قراءة أكثر من خمسمئة صفحة عن مادة الملح، فهي، في الأساس، مادة بسيطة التركيب علمياً، وسهلة المنال والاستخدام في أيامنا، وواضحة إلى درجة أن لها لوناً واحداً أبيض (وإن بدرجات) وشكلاً واحداً (وإن اختلف حجم الحبة منها).

أنا، نفسي، استهولت أمر قراءة مثل هذا الكتاب، إلا أن حشريتي العلمية هي التي سحبتني إلى القراءة بعين متفحصة متنبهة، حتى أدركت أنني أمام كتاب ثقافي بامتياز، اتخذَ من الملح محوراً يدور حوله حجرُ رحى الحضارات العالمية
رحت أجذّف في الكتاب بمتعة، نادراً ما تحل بي أثناء قراءة كتب الحضارات

أجذف ومركبي الملح، وإذا بي أخوِّضُ في تاريخ العالم والحضارات، من دون أن يذوب صبري أو يذوب قاع المركب، ترافقني لباقة كاتب، هو مارك كورلانسكي، استطاع، بالفعل، أن يفتح في قلعة تاريخ الملح نوافذَ على فلاسفة العالم ومؤرخيه وعلمائه ومجتمعاته وعاداته وتقاليده، من بدء الخليقة حتى اليوم.
ما أردت أن أقوله، بكل بساطة، أن كتاب <<الملح>> يشكل درساً لمهنتنا في الصحافة الثقافية. يعلّمنا أن أي شيء يمكن أن يكون مادة مقالة ثقافية أو تحقيق ثقافي أو ريبورتاج صحافي، أو موضوع كتاب. كل مادة في هذا الكون تحمل تاريخ الخلق. إذ يمكن أن تعوم الثقافة فوق قشة خفيفة، أو فوق مركبة فضائية، لا فرق. كل مادة يمكن أن تحرك الأفكار، وكل فكرة يمكن أن تحرك مادة

إنها اللعبة الحرة في الكتابة، التي لا حدود لها، ولا كوابح، ولا قوانين، ولا أخلاق. ولا فرق، في أفق الكتابة، بين شيء من يومياتنا أو شيء من أيام الخلق السبعة، أو عجائب الخلق السبع
إنها اللعبة التي تستطيع أن تلغي الحدود بين التافه والمجيد، أو تضيء الحدود بينهما، اللعبة التي تفتح أمام الكلمة الصغيرة فضاءات لا حدود لها، أو أمام المادة الحقيرة أفق دورات ودورات من حياة صاخب

ليست هناك تعليقات: