ما أجمل الأنا لك يابغداد

ما أجمل الأنا لك يابغداد

الأحد، 16 سبتمبر 2007

الاعتدال العربى ، والأزمة فى بعدها الثقافى


انهم وديعون جدا

العرب وهم يعيشون يوما بيوم
لم يطوروا نظرية إيجابية أو مبادرة تؤكد اعتدالهم

الإعتدال العربيّ


الأزمة في بُعدها الثقافيّ


عاد مصطلح "الاعتدال العربيّ" بقوّة الى ساحتي التداولين، السياسيّ منهما والإعلاميّ، بعدما كان قد ظُنّ، في التسعينات، أن العرب جميعاً غدوا "معتدلين"، أو أنّهم في سبيلهم الى "الاعتدال".
ففي 1993 وقّعت منظّمة التحرير الفلسطينيّة وإسرائيل اتّفاق أوسلو، وبعد عام وقّع الأردن وإسرائيل اتّفاق وادي عربة. بعد ذاك كرّت اتفاقات جزئيّة بين الدولة العبريّة وعدد من الدول المغاربيّة والخليجيّة. وغنيّ عن التذكير بأن مصر كانت، منذ أواخر السبعينات، هجرت عالم الحرب و"التطرّف" بتوقيعها صلح كامب ديفيد. حتى سوريّة، افتتحت العقد بمشاركتها في مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 بعدما كانت ساهمت في التحالف الدوليّ ذي القيادة الأميركيّة، لتحرير الكويت، كما قمعت، بتفويض عربيّ وغربيّ، تمرّد العماد ميشال عون في لبنان. لكنّها أنهت العقد، عشية رحيل رئيسها حافظ الأسد، بمفاوضات شيبردز تاون مع إسرائيل برعاية أميركيّة. ولئن لم يحالف النجاح الطرفين المذكورين، بقي أن دمشق كانت تتكشّف، صادقاً كان سلوكها أو مخادعاً، عن سلوك غير مألوف ولا متوقّع من "قلب العروبة النابض" و"قلعة الصمود والتصدّي".
واقع الحال ان التسعينات كانت، في وجهها الآخر، عقد إشهار التعب العراقيّ والإيرانيّ بعد حرب مدمّرة بين البلدين استغرقت الثمانينات. فهاتان القوّتان "المتطرّفتان" كانت إحداهما قد استنفدت ما بقي لديها من طاقة في ضمّها الكويت وما أعقب الضمّ من تحرير شارك فيه العالم بأسره. أما الثانية فاتّسعت للتجربة الخاتميّة التي شرعت تغاير الشرعيّة الخمينيّة ولو من داخلهاوهكذا حين يغدو الجميع "معتدلين"، أو مرشّحين لـ"الاعتدال"، لا يعود ثمّة معنى للكلمة هذه، أو أن الاعتدال ينتصر ويتعمّم الى الحدّ الذي يزول معه اسمه
وهو ما يوحي أن انبعاث التعبير في الآونة الأخيرة دليل على ضعف "الاعتدال" ووهن حضوره. فقد أطلّ "التطرّف" من جديد على صهوات إيران النجاديّة والحركات الإسلاميّة الأصوليّة في فلسطين والعراق وإيران، واختارت سوريّة أن تبارح نزوعها التوفيقيّ بين طهران من جهة والرياض والقاهرة من جهة أخرى، حاسمةً أمرها لمصلحة الانحياز الى الأولى. وتساقط رموز كان "الاعتدال" شرع يتشخّص فيهم، فتداعت تجربة إياد علاّوي العراقيّة وترنّحت، وتترنّح، تجربة محمود عبّاس الفلسطينيّة. أمّا رفيق الحريريّ، في لبنان، فانتهت تجربته وحياته على نحو بالغ المأسويّة. هكذا عدنا نتحسّس "المعتدلين"، إذ "الاعتدال"… مُهدّد.
في هذا التحوّل يمكن إدراج 11 أيلول (سبتمبر) ومفاعيل "الحرب على الارهاب" في أفغانستان والعراق، وفشل الصيغة الباراكيّة-الكلينتونيّة لتسوية النزاع الفلسطينيّ-الاسرائيليّ وانفجار الانتفاضة الثانية، فضلاً عن انهيار التسويّة السوريّة-الاسرائيليّة. ويمكن، في الخلفيّة، أن نعرّج على حماقة بوش والهدايا التي قدمها طائعاً مختاراً للإيرانيّين، وعلى قسوة شارون وأولمرت، والضغط الاقتصاديّ والديموغرافيّ في الشرق الأوسط، وطبعاً الثقافة السياسيّة والدينيّة العربيّة لجهة استعدادها الخصيب للقطع والغضب
بيد أن شيئاً واحداً يبقى مؤكّداً، هو أن "المعتدلين" العرب لم يطوّروا، أكان في عهد ازدهارهم أم في طور انحسارهم، نظريّة إيجابيّة ومبادرة عن "اعتدالهم". فهم عاشوا ويعيشون يوماً بيوم، منفعلين بجدول الأعمال الذي يضعه غيرهم، حكمتهم الرائدة البقاء في السلطة وإبقاء الأمور على ما هي عليه.
أبعد من هذا أن "الاعتدال العربيّ" شارك "التطرّف العربيّ" يقينيّاته ومنطلقاته الإيديولوجيّة، فلم يُنتج، لأسباب تاريخيّة عدّة، ثقافته التي ينهض عليها في تمايزه حين يسعى الى أن يتمايز. والمثَلان اللذان يحضران في الذهن هنا اعتمادُ الدين مرجعاً، مطلقاً أو بعيد النسبيّة، للشرعيّة السياسية، والخلط في معنى الدولة-الأمّة وطبيعتها. ففي خصوص المسألة الأولى، يُلاحَظ كيف أن حركات "التطرّف" أقدر بلا قياس من حركات "الاعتدال" بالنسبة الى استثمار الدين وتوظيفه جماهيريّاً، لا سيّما في أزمنة تشوبها إحباطات كالتي نعيشها راهناً. أمّا في خصوص المسألة الثانية، فيؤدّي العزف على أوتار العائلة والقبيلة و"الأمّة العربيّة" و"الأمّة الإسلاميّة" دفعة واحدة الى إضاعة المرجعيّة السياسيّة والدستوريّة التي تسند حكومةً ما وتبرّرها. هكذا يتكاثر الشركاء المنافسون للدولة ممن يصدرون عن الروابط المذكورة أعلاه، أكان منها ما هو "سابق على" الدولة (العائلة، العشيرة، الاثنيّة الخ…) أم ما هو "لاحق" (العروبة، الإسلام…).
وفي الحالات جميعاً، يؤول هذا السير "الفكريّ" في موازاة التطرّف الى تقويض مرتكزات التنوير والتحديث الممكنين، فلا يتبقّى منها إلاّ القمع.
وقصارى القول، والحال هذه، ان ما يُسمّى "الاعتدال" العربيّ يفتقر الى مضمون فكريّ فلا يبقى منه في السياسة إلاّ أنه "مع" الولايات المتّحدة. وهذا، في أغلب الظنّ، لا يكفي لمحاربة "التطرّف" ودخول عالم أحسن ولو قليلاً

ليست هناك تعليقات: