ما أجمل الأنا لك يابغداد

ما أجمل الأنا لك يابغداد

الجمعة، 14 سبتمبر 2007

شهب من وادى رام


(شهب من وادى رام))


هل تستعير بشرى أبو شرار من حياتها لرواياتها ؟

الأمكنة والأهل أولا ، والباقى لها


ابراهيم جادالله


نتعامل مع هذا النص الأخاذ ( شهب من وادى رام ) للكاتبة بشرى أبو شرار الأديبة العربية ، الفلسطينية المولد ،والمقيمة بالأسكندرية حيت تعلمت ، وتعيش وتعمل وتبدع ، من زاوية ارتضيناها ، قانعين بكثرة الزوايا وتعدد الرؤى الفنية فيها ، فحضور الامكنة والشخصيات فى مجمل كتاباتها ليس اختياريا أو إراديا بل هو موجود في أساس مجيئها إلى الكتابة.
لم تكن لديّ بشرى أبو شرار، في الأساس، رغبة في أن تكتب بشكل مستقل عن هذا، وأنا أستغرب أن يكون الروائي قادرا على الكتابة بعيداً عن أهله وأمكنته وحياته.وأحسد من يستطيع الكتابة خارج هذا الموضوعات. لذلك يقال عن الروائيين العرب أنهم ما زالوا يكتبون رواية غنائية وذاتية ولا يستطيعون كتابة رواية موضوعية.
عندما يكتب الروائى رواية أو قصة فهو يكتب انطلاقا من ثالوث المكان والأهل والسيرة، وهذا ظاهر كإشكالية فنية في معظم روايات بشرى أبو شرار ، وعنوان روايتيها<<شهب من وادى رام >> و <<من هنا وهناك >> بل ومعظم نتاجها ، الذى تحصلنا عليه ، شهادة دامغة على تورطها في ذلك. في الوقت نفسه يطرح هذا كله جدوى أو منفعة أهلها وحياتها وأمكنتها إذا لم تستطع أن تكتبها بشكل جيد.
في بداياتها كتبت بشرى، عن موضوعات مرتبطة بأمكنة وشخصيات قريبة منها. وهو ما وضح تماما فى ( القلادة ) و ( أنين المأسورين) و ( اقتلاع ) و ( أعواد ثقاب ) ، وهى كلها أعمال هامة وذات صوت خاص ومتميز فى الكتابة الإبداعية المترافقة مع الفعل النضالى ، آمل بفسحة من عمر لإيفائها حقها الواجب ، وكنت أتساءل ما نفع كل كل تلك الموضوعات المرتبطة بالأمكنة والشخصيات القريبة منها ، وهل يمكن تسويق الأهل والحياة الشخصية في أمكنة بعيدة، وقد كان هذا الاختيار هو من جعلها تؤمن بأهمية إخراج ما تعيشه إلى العلن وأن يكون ذلك مهما للقارئ.
في ما كتبته بشرى كانت دائما مضطرة لمعرفة ورؤية المكان الذي تكتب عنه. فإذا لم يحدد الكاتب المكان لا يمكن الكتابة عنه. وهى تكتب عن بيت أو غرفة أو مكان أليف ومعروف أو فضاء مطلق من الوطن الحاضر الغائب.
أعتقد ان هذا يعكس نمط حياتنا وعلاقاتنا، وبدون مكان معروف من الروائى شخصيا لا يستطيع الكتابة. يجب أن يعرفه حتى لو كتب شيئا لا يحدد بدقة المكان الذي يكتب عنه، يجب أن يعرف أجزاء منه على الاقل. وهي أماكن وتضاريس ملموسة عرفتها الروائية بشرى أبو شرار وعاشت فيها او زارتها على الاقل. وغالبا ما يتبلور المكان في عملها قبل الشخصيات.
والأهل موجودون ولكن حضورهم انتقائي ومختزل وخاضع لمونتاج، فقد تتواجد صفات منهم في بعض الشخصيات، وهى لم تأخذ شخصية كاملة من أهلها بل استثمرت أهلها حين كانت تفرض عليّها الرواية أن تكتب عن أشخاص شبيهين بهم. أو نثرتهم كالدررفى دهاليز سردها المتنوع
وبرغم ذلك فبشرى أبو شرار هى الأكثرحضورا في كتابتها.، وبخاصة فى روايتها ( من هنا وهناك ) التى تكسر تلك المقولة التى رصدناها ،.
ولكن حياتها بأفعالها وتفاصيلها الملموسة كثيرا ما تظهر في الرواية، ولديّها، طبعا، أجزاء أو نتفا من حياتها تدخل أحيانا إلى الرواية لأنها في النهاية مؤلفة فيها ولا بد أن يظهر فيها شيء من ذاتها.
المكان والأهل وهى، وضعت الثلاثة بهذا الترتيب بادئة بالأكثر حضورا في ما تكتبه ومنهية بالاقل ظهورا.
أشخاص لم تعرفهم لكنهم يشبهونها

الكتابة عملية غير متعمدة. هناك كمية من الارتجاج والغبش بين ما تقتطعه من الواقع وما تؤلفه. ليست هناك حدود واضحة، على سبيل المثال، بين المكان الواقعي ومكان الكتابة، ولكن هناك أمكنة تحضر كما هي في الرواية.
عندما يعود المتابع المدقق إلى رواياتها يستنتج أن هناك أمكنة تشبه المحطات التي يتكرر رجوعها إلى الكتابة من دون أن تكون مدخلا للتذكر، في الحقيقة تكرار حضور هذه الأمكنة، التي هي ليست أمكنة كاملة بل أجزاء من أمكنة، لا أعرف بالضبط ما هي وظيفته داخل تركيبة السرد، إذا أردنا أن نميز بين أسلوبين روائيين مختلفين الأول يعتمد على الذاكرة لإعادة تأليفها والثاني يؤلف من ذاكرة عمياء، سنقع على أسلوبين لوظيفة المكان أو العامل الشخصي. لو أخذت مثلا كتابة حنان الشيخ وكتابة بشرى أبو شرار سنجد طبيعتين مختلفتين لعمل الذاكرة، وحتى ان الروائي نفسه يمكن أن يتفاجأ عندما يطرأ عليه مكان ما ويتخذ موقعا له في السرد لأنه لا يكون قد افترض لهذا المكان أية أهمية في حياته.
رواية التأليف تدعي دائما أنها لا تتكئ على الذاكرة لكنها في النهاية موزاييك من العناصر الصغيرة التي تطرأ على الكتابة اعتباطيا وبدون برمجة لتشكل أقساما أو أجزاءً ل<<البازل>>.
لإبداع في النهاية لا يتحمل التحليل النفسي الذي قد يدرس أسباب احتلال هذه الجزئيات لمواقعها في المشهد العام، أو لماذا هي تتكرر.
مثلما تكلمت عن الأمكنة أستطيع أن أتكلم عن موقع الأشخاص في الرواية.
الجزء الأكبر من تركيب الشخصية الروائية، مهما ابتعدت ظاهريا عن الذات، فإنها نابعة من الداخل. من الهواجس، من التصورات والاستيهامات، من قلق ما أو من ذكريات غير واضحة تعود الى الروائي. وأنا شخصيا لم أشغل بالي في البحث عن أصول شخصياتها الواقعية. الشخصيات التي لها مرجع واقعي في رواياتها هم غالبا أشخاص لهم أهمية روائية. كتلك الشخصيات ( الشهب ) ( فدرة وشقيلة وهجروومرمرة ، وحتى هريدية ، لماذا لا ؟ )
أغلب شخصياتها مركبة. شخصية <<سهيل الأب >> في <<شهب من وادى رام >> شخص حقيقي وكأنه صديقا لها أو لأبيها وهو يحضر في الرواية بحجمه في الواقع. وكما شخصية ( هريدية ، زوجته ، التى ليست أما لبناته المشكًلات شهبا من وادى رام ، ولكنها غيّرت حقيقتهما الواقعية. بعكس الشخصيات الرئيسية التي تمثل أشخاصا لم تعرفهم أبدا. ولكنهم في الوقت نفسه يشبهونها، رغم أنهم قد يكونوا رجالاومن طوائف وشرائح اجتماعية مختلفة.
لقد حزنت كثيرا بعد فترة من انتهائها من رواية <<شهب من وادى رام >>، كما قالت لى فى رسالة عاجلة، حزنت على حالها كيف خرجت من أحشائها شخصية كئيبة وسوداء وعنيفة مثل هريديةا.
في <<شهب من وادى رام >> ترسخ لديّها إحساس أن تاريخ قريتها، الذي لم تعشه طويلا، لا تستطيع كتابته بشكل نوستالجي أو حنيني، ولكن الفراغ الذي انخلق في حياة الضنى والألم والقهر والإستلاب الروحى والجوع الحقيقى كان يشكل لها قلقا وسؤالا مستمرا: ماذا يحدث هناك؟ وكأنها تشعر بأن تاريخ قريتها كالجلطة في جسد ما،. كأن الفراغ يستدعيها للتفكير
هل تتحايل الرواية على هوية الأشخاص والأمكنة ؟
اجد السؤال مثيراً أكثر لو طرح على الشكل التالي: كيف يتحايل الروائى اثناء رسم شخصيات رواياته الطالعة من تاريخه وحياته وتجاربه ومعارفه؟ كيف يتحايل ويلعب بها ويحورها كي لا تنكشف الهوية الحقيقية لأصحابها.
بالطبع لا بد ان يكون ما يكتبه الروائى طالعا من حياته ولا اقصد حياته بمعناها الضيق. الامر يتعدى ذلك ليشمل قراءاته وأفكاره ومشاهداته ومن القصص التي سمعها وقرأها، ومن تجارب غيره التي كان شاهدا فيها، على الاقل، او جارا، او حتى عدوا.
فقد كتبت بشرى شخصيات علقت في رأسها منذ الصغر والشباب، شخصيات ألبستها عادات جديدة وحملتها على قول اشياء لم تقلها في الواقع ابداً.
فالشخصيات الواقعية ما هي إلا مادة أساسية أعادت تدويرها والخروج معها بشخصيات اخرى. وهىككاتبة تعلم وحدها فقط كم بقيت تلك الشخصيات تشبه أناس الواقع الذي عايشته واختبرته. وهذه لعبتها المسلية التي لم تجد ضيرا من الاحتفاظ بها كسر صغير.
أحيانا لم تجد الجرأة على الكشف عن هويات الاشخاص الحقيقيين الذين استوحت منهم رسم شخصياتها، ورأت ان الجرأة مطلوبة في هذه النقطة بالتحديد، لأن ما تقوم بكتابته أدب وليس تأريخا لحياة شخص أو سيرة له.
إنها لعبة مثيرة أن تصنع بشرى شخصيات روائية طالعة من شخصيات أخرى أو بالأحرى من مواد أوليةأضافت إليها كثير من الخيال، بحيث تغدو <<كولاج>> لشخصيات لا تحصى أحيانا. إلا أن شخصياتها لها مصداقيتها وعالمها الذي يشبه عالمها، وهي قد تشبه أي شخص تعرفه. رسم الشخصية يشبه في مراحله الأولى تحضير <<الكروكي>> الذي يقوم به أي رسام.
الشخصيات متناقضة وأعتقد أن ما يجمعها هو الروائى، أو بالأحرى حبه لها، ولا أعتقد أن من السهل علي روائية مثل بشرى أبو شرار أن تكتب ببراعة عن شخصية ما دون حب، حتى لأكثرها ابتعادا في صفاتها الروائية عن الحب. بهذا المعنى يبدو لي أن تلك الشخصيات، التي عرفتها في الواقع والتي ربما لم تحب بعضها يوما، كهريدية الشريرة رمز الطغيان واستلاب الحق ، وهى فى الأخير دال نفسى وإسقاطى على المحتل لأرض العرب قد وجد ت حظا كبيرا أثناء الكتابة كي تنظر إليها بطريقة أكثر إنسانية، كي تكتشف معاناتها ومحاولاتها للنجاةمن مشاعر الكره ومقاومة ناعمة من فدرة مرة وشقيلة مرة أخرى ، و هذا غالبا ما دفعها الى ان تتعرف اليها ثانية، الى ان تحبها من جديد. ان ذلك العمل، وأقصد إعادة رسم شخصية اخذتها من الواقع، هو أيضا تمرين لها ككاتبة وكإنسانة على أن تقبل ضعف البشر وتتصالح مع ميولهم ورغباتهم حتى الأكثرها غرابة، بحيث رأتها كجزء من طبيعتهم ومن اختلافهم عن الآخرين. كالأب سهيل ، المغلوب على أمره معها .
ما قامت به هو إخراج ما عنته لها تلك الشخصيات، وليس ما هي عليه بالضبط. إنه تمرين دائم، بل حتى إنه علاج لها.
عودة للمكان الذىهو الأكثر حضورا في كتابتها، وغالبا ما تجده أهم من الشخصيات البشرية. بيت جدها وبيت أهلها لعبا دورا كبيرا في رسم أمكنة وفضاءات قصصها ، والجبال والبيارات وحواجز التفتيش وشرفات الدور وغرف المعيشة والمدرسة
أخيرا
لست من المغرمين بكتابة مذكرة تفسيرية لأحداث النص القصصى أو الروائى وتحليل وقائعه ، إلا إذا أتى ذالك من خلال علاقة شعورية مع هذا النص ، ولكنى أهتم كثيرا ببيئته ، بل وأترك لقارىء العمل الفرصة لخلق تصورات وخيالات موازية للنسيج السردى ، فماذا عن بيئة هذا النص الجميل ؟
لقد انطلقت بشرى أبو شرار في تأثيث بيئة نصها الروائي من إحداث اضطراب وصفي لحدث معين، أي جعلت من هذا الحدث وهو معاناة فدرة وشقيلة وهجرو ومرمرة ، وصديقاتها بالمدرسة ، وعلاقة هريدية بهن وبالوالد سهيل ، سبباً لتداعيات متتالية تتداخل لغوياً لإنتاج نسيج متسلسل يمتد ليشمل مساحة النص الروائي، ويكاد القارئ يشك بماهية الحدث الفعلي للرواية أو تشخيصه وفق رؤية تقليدية للتعامل مع هكذا نصوص، وهذا لا يعني أن القارئ يعاني من فقر الرؤية أو الإمكانية، بل على العكس في الكثير من الأحيان يؤسس القارئ لرؤية تتجاوز رؤية النص، لكن تشظي البيئات والأزمنة وتداخل الحوارات ضمن أنساق لغوية أفقية وعمودية يجعل من لحظة الإمساك بزمام القراءة والاكتشاف لحظة عصية في المحاولة القرائية الأولى، وهذا ما ميز كتابات كلود سيمون مثلا ، ومثله تفعل ، مع كثير من خصوصية بشرى أبو شرار، وعلى وجه الخصوص تلك المسحة التي تضفي نوعاً من الاحتفالية المتكررة في كل مقطع أو فصل من فصول الرواية.
ويتبقى لى بعد هذا التجريد النقدى ، الغير مخل ، إعادة النظر فى إشكاليات نقدية لهذا النص ، كاللغة وعلاقتها بالبنية الروائية ، والتوليد السردى ، والرؤية الإيديولوجية لمجمل كتابات الروائية الجديرة بالاهتمام بشرى أبو شرار ، وهذا قليل من حق مستوجب لها فى عنقى ، بحكم موقعها الرصين فى الكتابة الروائية الحديثة أولا ، وبحكم المشترك النضالى بيننا ، الغائب الحاضر فيها وفينا . ماجد أبو شرار . الكاتب والمناضل الفللسطينى الشهيد
**..شهب من وادى رام / بشرى أبو شرار / مطبوعات ندوة الإثنين / الإسكندرية / مصر04


**********


نشرت الدراسة بصحيفة القاهرة \ المصرية بصفحتى الخاصة ( ساعات بين الكتب ) العدد363 فى 27 مارس 2007

ليست هناك تعليقات: