إميل حبيبي.. كتابة جارحة بلا دماء
ابراهيم جادالله
أعظم الفن ما جاء انتصارًا علي الألم والاغتراب والظلم وأوفره دلالة وأبعده أثرًا وتأثيرًا ما خالطت في كلماته السخرية، واستوطنه الضحك المرُّ المستعلي، القاسم المشترك بين شعوب الأرض والملمح الأساسي في كل أدب رافض. ولكي نصل بالضحك إلي أن يكون فلسفة مقاومة، لابدًّ من تحقيق شروط كثيرة. أولها القدرة علي فهم روح الشعب الذي ينطق باسمه، وطرق تفكيره، وفهم الأساليب والأنماط التعبيرية التي يواجه بها أيامه الصعبة. وكيف يمكن (للنكتة) أن تكون منشورًا سرّيا يتداوله الأطفال قبل الكبار. وتلك مهمّة شاقة بلا ريب، لن يستطيع القيام بها إلا أديب ذو أصالة ذاتية وموضوعية، وذو عبقرية متميزة في اصطياد الفرح من غابات الحزن المظلمة التي يتيه فيها الإنسان العربي بعامة والإنسان الفلسطيني بخاصة
إنه الاستعلاء الساخر، أو لنقل إنه الوعي الساخر الذي لا يملكه إلا مَن نفذ إلي النهايات البعيدة التي يتقهقر دونهما الطارئ الدخيل، واللا إنساني أمام الجذور الحية الضاربة في عمق الأرض والتاريخ حيث تستردُّ الأشياء نسقها الأمثل، ويكون لكل أمر مستقر.
وإذا كان الضحك ملكة إنسانية عليا، فإن القدرة عليه لا تكون إلا بعد أن يصل الوعي إلي حد الإمتلاك الكامل للأمل؛ وهو الجزء الذي يدْرَك عنده أوجه التناقض في الواقع البشري إدراكًا جارحًا، قد يكون بدء الخلاص أو نقطة الختام. كما أنّ الضحك في بعض دلالاته، ثقة راسخة بما هو أعلي وما هو أجمل وأكثر خيرًا وعدالة. وهو يقين لا يتزعزع بانتصار الحق علي الخسّة والصغار، والسمو علي الابتذال، وهو، قبل هذا كُلّه وبعده، فعل وجود، تمامًا كالحقّ، لأنه قوام له أن لم يكن من كمالاته
وربما أكثر منه توحيه قراءة أعمال اميل حبيبي الروائية (سداسية الأيام الستة، الوقائع الغربية في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل، اخطية، سرايا بنت الغول). فهو صاحب صوت متميز تمتزج عنده الفكاهة بالسخرية في أسلوب مرح مكثف وواحد من المبدعين القلائل جدًا الذين يثيرون رغبة ملحّة بالبكاء والضحك معًا، بل تقتضي دقة القول أنه يضحك وأنت تبكي؛ لا علي أن الضحك والبكاء نقيضان، بل علي أنهما درجتان أو منزلتان في الحزن الصاعد إلي ذروة القهر والانشطار كما أنه يصل، من دون أن يفقد شيئًا من وجه الرؤية، إلي قناعة شبه تامة بأن الضحك هو وجه آخر للغضب المقدّس يحرس قيم الإنسانية. من أجل هذا يبدو الحديث عن السخرية في روايات اميل حبيبي معقدًا، ما لم نتّخذ إليها سبيلاً مناسبًا؛ ذلك لأنه قائم علي فهم الروح الفلسطينية في أعماقها العميقة، وأغوارها البعيدة، وهو ما يوقن أنه أمر فوق الدرس والتحصيل، وأن غاية ما يحصله القارئ هو الحدس والتمثيل والمعاينة وإذا كانت ثمة وشيجة بين الخاص والعام فهي هنا أمتن الوشائج، إذ تتعانق خصوصية الإنسان الفلسطيني بالضحك والسخرية في قدس أقداسها، ويملك الفلسطيني حق التمثيل بهذه السخرية في نكباته، إن صحّ التعبير وينطوي عطاء اميل حبيبي الأدبي بترسيخه لأسلوب جديد في الأدب الفلسطيني هو الأسلوب الساخر. وتعدُّ هذه السخرية الروح المهيمنة علي نسيج رواياته منذ بدايتها إلي نهاياتها تنبثق فيها المفارقات المتعددة المتنوعة اذ تتكور لديه الفكاهة بالسخرية في أسلوب كوميدي يحْدِث انقلابًا في الدلالة، فتغدو رواياته مرصّعة بسخرية مشعة تتبعثر علي سطح أوراق رواياته، تقفز في حريةٍ وانطلاق يوحي للوهلة الأولي بعبثيتها وعشوائيتها، لكنها سرعان ما تكشف عن اتزانها وارتباطها بالموقف الروائي العام ارتباطًا وثيقًا
وإذا كان الساخر يستبين نقدًا في دلالته الأولي، فإنه يصبح في دلالته الثانية شكلاً أدبيا رافضًا مقاتلاً، يسخر من واقع الاحتلال وينفيه ضاحكًا والنفي الساخر هو تجاهل العارف، وهو الابتعاد بالنظر إلي الواضح كي يصبح أكثر وضوحًا وهو الاشارة إلي استحالة الحوار بين ابن الأرض الشرعي ومغتصبها لذا، فإن الحوار يفقد معناه أو يستمر حوارًا يثبت استحالة الحوار، ومع ذلك فإن الساخر يثب عن المنطق ويتعامل مع الحوار المستحيل، ويحاول توليف الأضداد؛ لكنه يخفق فلا ينتج إلا الضحك ومصالحة الأضداد لا تثبت إلا سماكة الجدار الذي يحجب الصوت بين المتحاورين وعندما يستمر الحوار المستحيل بين طرفين بينهما جدار، فإن الضحك يطفو فوق القول، ويغدو ضحكًا أسود يبحث عن إجابة ناقصة لسؤال ناقص
وعندما يكتب اميل حبيبي عمله الساخر فإنه ينطلق من شرط الضحك الأسود، ومن شرط الوطن المصادر، والتعايش المستحيل مع قوي الاحتلال الإسرائيلية، وتأخذ المصالحة المستحيلة شكل القبول والتعايش فيعطي الساخر كلَّ امكانياته وامداداته؛ وهذه المصالحة الزائفة والواعية لزيفها هي التي تشكل قاعدة السخرية لأنها في وجودها تعطي لجميع الحركات والمواقف دلالة ملبسة، ثنائية البعد، لذا تُنْتِج علاقة صمّاء بين طرفين أصمين يستمع الواحد إلي الآخر فيهما وهمًا
ولا يستخدم اميل حبيبي السخرية من باب النقد والتقويم فقط، بل كثيرًا ما يستخدمها قناعًا يحتمي به من وطأة التجربة المعاصرة التي حاقت بشعبه، يقاوم آلامها وفواجعها فهو يعدّ مدرسة لمن يريد تعلم فن السخرية، وصوتًا متفردًا في استخدام الأساليب الهزلية الساخرة في الرواية العربية المعاصرة ويعيد اميل حبيبي في رواياته الضحكة الغائبة نقرأه.... فنضحك عاليا كما لم نضحك من ثلاثين عامًا... لكع بن لكع (ص 77)، ومن دون أن تنسينا الضحكة المأساة، فهي لا تقفز عنها وتتجاوزها، لكنها تؤكد أن الشرط الذي ينتج افرازات مأسوية كبيرة، قادر، في الوقت نفسه، علي إنتاج ضحكات كثيرة تنبعث منه لترتد سهامًا إلي نحره فالضحكة من اميل آهة تطلقها الحناجر من الأعماق المذبوحة، أو صرخة غاضبة مكبوتة، أو رأي يقال، أو مواجهة وقد ضمَّن اميل حبيبي رأيه في السخرية والضحك علي لسان شخصية المهرج في مسرحية لكع بن لكع الذي عبر عن فلسفته وفكره ونطق بلسانه اذ قال لا بأس، لا باس يا أولادي اضحكوا!
فالضحك يطلق اللسان
ويشفي من خرس
يا أجيال الصمت!
آن لك أن تضحكي
تكلمي!
فإن لم تتكلمي، اضحكي!
اضحكوا، اضحكوا
إذا حبسوا أنينكم، انفجروا ضحكًا.
انفجروا ضحكًا
الضحك سلاح ماضٍ ذو حدٍ واحد
لو ضحك السجناء كلهم، في لحظة واحدة معًا، واستمروا في الضحك،
هل يستطيع السجان أن يضحك؟
إذا قالوا لكم أن الضحك بلا سبب قلة أدب،
كونوا قليلي الأدب!
شر البلية ما يضحك.
فهل هنالك بلية أشر من هذه البلية؟
اضحكوا العين للصبر والأذن للسمع واليد للمس والفم للقبل.
فاضحكوا!
ولولا خوفي من أن ينتبهوا إلي هذا السلاح فيشرّعوا قانونًا يحظرون به عليكم
البحر والضحك...
لأغرقتكم بالضحك اضحكوا!
*****************
مقدمة الجزء الثانى من الرواية طباعة صحيفتى القاهرة والمدى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق