ما أجمل الأنا لك يابغداد

ما أجمل الأنا لك يابغداد

الخميس، 14 يونيو 2007

تجليات الموت والانعتا ق





بان جسد أمك صغيرا وسط السريرالطويل العريض ، ووجهها ارتد إلى صباه، وزالت عنه آثار الحياة ، فلا تجاعيد تشهد على ما عانتهما العينان من مقاومة الأيام المالحة الحارقة، ولا حفر حول فمها تسجل إصرار الشفتين عدم رد بذاءات الجارات بأقسى منها ، واليدان اللتان لم تتوانيالحظة ولم تسترخيامن حركة تشابكتاوارتاحتا فوق الصدرالساكن تماما ، وخيمة الليل سترت شحوب الوجه والموت ، كانت أمك فى سريرها المتوسط الغرفة ، أحاط به من كانوا أحباءها كنت قد بقيت فى بيت والديك إشفاقا عليهما ولتلبية مطالبهما 0
(( كانا على حق )) هذا الكلام يتردد فى رأسك وأنت تجلس متكورا مطويا على نفسك، ورأسك تكاد ركبتيك أن تلتهمانها ، تتأمل وجه أمك وتسح دموعك وأنت تراها فى القريب 0 تنظف شرفة غرفتك بواحد من قمصانك البالية ، وترتب سريرك ودفاترك ، وعيناها اللتن تبرقان بابتسامة صافية وهى تخفى ملا بسك الداخلية وبها آثار مراهقتك ، تفر دموعك وأنت ترقبها تغرف لك طعاما ساخنا وتضيف المزيد لما تشعر بحاجتك إليه ، كنت ترجوها أن تكف عن تلك المحاولات 0 فلست بذكر بط بلدى " تزغطك " ليوم تذبح فيه ، كانت عيناها تقولان لك: "" ألف عافية وهناء ياروح قلب أمك " تسح دموعك حين تتذكر توسلاتها إليك أن تبقى ، وأن تهتم بالأرض والغيط والمواشى والزراعات إكراما لأبيك، ولأنها لا تطلب لنفسها شيئا ، وتسح دموعك ، وأنت تواجه هذه اللحظة 0 لحظة غياب أمك وإخوتك الذكور وأخواتك الإناث موزعون فى مدن وقرى بعيدةعن الوادى ، وأنت وحدك إلى جانبها فى آخر ليلة تقيمها هنا فى بيتها 0 تعيشها فاقدة الحياة0 فتختنتق بدموعك 0
وعروسك جالسة، كرسييها قريب من كرسييك، لكنك فى شعورك الجوانى بعيد عنها، تنظر اليك وتبعد نظرها مسرعة، تشعر بالخجل من التفكير فى أنك زوجها الآن ، تراك جذابا فى بذلتك السوداء التى ارتديتها بقميصها الأبيض يوم العيد وقبله يوم زفافكما، وتتمنى لو تلامس يدها وكفها الصغيرة الرقيقة بأطراف أصابع يدك كما كنت تفعل حين تتنبه إلى وجودها بقربك0 لكنك بعيد الآن فترسل نظرها صوب أبيك0
وأبوك نصف ممدود فى مقعد مستطيل يواجه " الكنبة الاستامبوللى"التى جمع أجزاءهاالخواجة عريان من خشب الزان الوردى ، وكنت تدعوه عم عريا ن الغلبان، وتذكر حكايات سمعتها عن زوجين سبق أحدهما الآخر إإلى الموت والغياب فبادر الثانى بعد أربعين ليلةأو شهور قليلة باللحاق بها، وسمعت أنهم قالوا عن السبب، أنه اقتراب كليهما من حافة العمر، وقالوا هى العادة00 يتعود الرجل زوجته ولا يعود يطيق العيش بدونها، وعروسك قالت إن جدتهاكانت تقول 0 إن الحب عادة ، لهذا لا يحب الرجل زوجته إلا فى أواخر عمره0
وعروسك منعت تقاسيم وجهها من التعبير عن سخريتها من كلام جدتها ، ولامت نفسها على هذا الاستسلام إلى الحكايات والأقاويل، وأبعدت فكرها عن الفاجعة القابعة فى حاضرها،وقررت أن أباك يحب زوجته أمك ، ويتألم ،وأنه سيتألم أكثر فى الأيام القادمة ،وربما لحق بها بعد أسابيع أو أيام كخالك أبو على لما جاء من السويس ليدفن زوجته خالتك جلشان فى البلد، ولم يعد إليها مقدرا أن يظل بجوارها ليحى ذكرى الأربعين لها، وفى يوم الذكرى بقى بجوارها إلى الأبد0
ولما قررت عروسك أن تجلس بقرب أبيك تحادثه وتحاول التخفيف عنه إلى حين أن يطلع الصباح، أشعل أبوك سيجارته بعصبية، وسمع بكاءك ، وفكر أنك ضعيف بعواطفك مثل أمك، ولست كما يراك ويرجو لك0 رجلا ، وكما تدل قامتك على أنك رجل، ولم تفعل ما فعله أخوتك، ورحت تبحث عن رزقك بعيدا حيث تتوافر الأرزاق والأرباح والمغانم ، لكنك ، كما يراك ،بقيت هنا لتبكى أمك، ولتكرمها بموكب جنا ز يليق بها، وبمأتم يشيد به من لا هم لهم غير الكسل0
راحت عينا أبيك إلى وجه أمك العجوز الشاحب وسط سريرها القائم فى روحه ، خاطبها صامتا وبأسى بالغ:
"" وأنت 0 ألم أتزوجك لترعينى فى أيامى الأخيرة ؟ لكنك ترحلين قبل حاجتى لخدماتك ، هربت من واجباتك الأهم قبل أن يحين موعدها ، وفى اللحظة المناسبة00 لكن 00 يا أم نصف دستة من الذكور والإناث خيرا فعلت00 هاهى صحتى عال العال " بمب "والحمد لله ، وحيوتى كسريان ماء النيل فى الترع والقنوات المطهرة، سأعيش على هواى، وكما يأخذنى مزاجى لما يحلو له ، وخصوصا بعد اليوم ، بعد أن رحلت ، ولم يعد باستطاعتك نبش جيوبى وأخذ ما بها من نقود لترسليها إلى ابنتك التى تزوجت من مطرب مدمن فاشل أبله ، وحملت فى بطنها خمسة من الأبناء0
لن أعبأ بشىء بعدك ، فلم تعد من قيمة أو معنى لشىء ، كنت القيمة ، وكنت المعنى 0 فارحلى 0 إرحلى 0 إرحلى "
وراح أبوك فى نوبة البكاء التى لا أعرف متى تتوقف 0

ليست هناك تعليقات: