ما أجمل الأنا لك يابغداد

ما أجمل الأنا لك يابغداد

الخميس، 14 يونيو 2007

تجايات المحاصر


تجليات المحاصر

(إلى المحاصر حقيقة فى أفعال غيره ، إلى المواطن المسمى عربيا)



فى أحد أركان الغرفة الشاحبة تكوم وحيدا ، بحلق فى التليفزيون، واستمتع ب (توم وجيرى ) ولم يلتفت إلى نشرات الأخبار ، ففيها أسماء لا يستطيع النطق بها خلف المذيعة ذات الصدر الناهد والشعر الأصفر المنسدل على جهة واحدة من كتفيها ،، ولا تسعفه ذاكرته باستحضارها0 لأنه لم يحدد لها موضعا فى كتب الجغرافيا التى يدرسها الآن ، ولأن بالأخبار صورا يفزع منها0
( موت ورعب فى عيون أطفال فى بغداد ، وأشلاء آدمية فى سوق خصروات بالفلوجة، وفظاظة أمريكى متسربل بأغطية واقية وأسلحة فتاكة يصوبها نحو امرأة هلعة ، سواد من دخان أطر سيارات مشتعلة فى شوارع باكستان ومقديشيووالخرطوم ، إلى سواد قلب حكام يطالع صورهم ، لايرتعش منهم جفن وطائرات الموت الأسود تصبه فوق رأس بيروت المكان والإنسان والتاريخ ، وجنازة فتية وأطفال محمولين على محفات تقطر منها دماؤهم فى شوارع غزة ، وإبنة عمته التى تنتقل صورتها عبر غير قناة ، عربية وأخرى ، وجنود مدججون يجرجرونها على أسفلت الشوارع بالقاهرة 0وأمه التى تقول عنها ( تستحق لأنها فاكرة نفسها جان دارك المصرية ) ، هو يعرف أن أمه لا تحبها لأنها لاتحب عمته 0 أمها
، فجأه أصابه الذعر خوفا على عبير ابنة عمته الصحفية ، وعلى المهرولين بشوارع بيروت وغزة هربا من زخات الموت الأسود، فاندفع إلى الورقة والقلم، رسم شجرات ثلاث أمام بيوت صغيرة مسيجة بالزهور فتش عن علبة الألوان المهداة له من صديق والده الفنان التشكيلى ذو الشعر المهوش المنكوش 0
**
قاس هذا الليل
، وبائس هذا الغد الذى تحطمه أشباح دمار مقبلة، وجدار تضربه رطوبة ووهن ، وأب يعانق همه ووهمه وذهوله مما يحدث، ويعانق زوجته على غير رغبة منه، ويعانق بطاقات السفر المتعددة ودفتر الحساب البنكى الفقير واشتراك صندوق الزمالة وبطاقة عضوية مهنته 0
تذكر إمام هذا الصباح مدرس الجغرافيا حين سأله عن صادرات وواردات السودان ، وتذكر إجابته الفورية العفوية بنبرة ساخرة متدفقة:
- تصدر ثانى أوكسيد الكربون وتستورد الأوكسوجين0
وتذكر عصاة المدرس التى لوحت له فى فراغ المكان وضجيج الأولاد فوق مقاعدهم بالضحك0
هذا الصباح ضربه مدرس التاريخ ، وضربه مدرس الرياضيات ، وضربه زميله عصام، وضربه الناظر0
وفى البيت ضربته أخته الكبرى، ولما هرع إلى أمه يشكوها لوًحت له بمغرفة الطعام ذات اليد المعقوفة ، فوضع طرف قميصه فى فمه وركض إلى حيث لا يدرى 0
**
هى ساعة فى الليل ، وهو وحده مقرفصا مكوما أمام نفس التليفزيون، استرجع كثيرا ، استرجع بما فيه الكفاية،0 صورة عمه الغائب منذ سنوات عشر بالعراق ولم تصلهم منه غير رسائل قليلة ، ويتسمع همسا لايصل لجدته أنها رسائل غير صحيحة ، ولكن شقيقته تؤكد أنها آتية عن طريق الصليب الأحمر ، ويتمنى رؤية عمه الذى لا تخلو جلسة من تعداد مآثر وبطولات له ، ولو لمرة واحدة 0
لايؤرقه غير صورة الصبى المحمول على محفة وسط حشود غاضبة أسيانة فى غزة أو بغداد ، والنسوة الناحبات0
تسللت أمه ولم يتنبه لوجودها عند رأسه ، فصرخت بعلو الصوت :
- أما زلت يقظا ؟ 00ألا تود الذهاب للمدرسة غدا ؟
ثم عادت بعدها إلى غرفة النوم حيث أبوه يشخر ، ويغط فى نوم غير عميق ، بل قلق0
**
فى الصباح
أمسك إمام طائرة ورقية كتلك التى رآها يطيرها صبى على شاشة التليفزيون فى بيروت وحولها أدخنة خلفتها طائرات الموت الأسود ، كان قد انكب على صناعتها طوال الليل ، نفخ فى كفيه ، وفى خلسة تسلل إلى الشارع يحمل كرة الخيط بيده الأخرى ، ولا يلوى على شىء

******************************************

ليست هناك تعليقات: