ما أجمل الأنا لك يابغداد

ما أجمل الأنا لك يابغداد

الأربعاء، 13 يونيو 2007






المعطوب







(( كان المحفِّز الوحيد لكتابة هذالجرح ، وصاحب فكرة العنوان . فإليه / أحمد صبرى أبو الفتوح . برغم بقاء الجرح على حاله ، ودوام الحال من المحال



يكبر بياض عينيه ويصفو ، وتصغر الدائرة السوداء بهما ، وتميل رأسه الكبيرة علي صدره وكأن حجرا ثقيلا علق بهما ، ينحشر شخير في تجويف أنفه وحلقه الأعلى ، وتخرج رغوات تسيل في خيط لزج علي جانبي فمه المرتعش الشفتين ، وما تلبث شفة أن ترتخي غليظة محمَّرة ، يتصلَّب بعدها الجسد الطويل الممتلئ الثقيل كلوح خشبي ، فتغيب الرأس في عتمة الوعي والإدراك ، ويصير الجسد كله في وعاء التشنج ، يصاحبه شخير متواصل خشن ، ومتقطع وأهن ، والفم الذي كان مطبقا علي لعاب رغوي خلفه يسيل ، يندفع منفتحا مع احتكاك الرأس بالأرض واصطكاك الأسنان بصرخات الوجع الدفين ، وما بين سكون مخادع لهذا الجسد وانتفاضاته ، تعود إليه نوبات من غيبوبة ساكنة ، لتذبل فيه الحياة ، فيروح الرأس ومعه الجسد في نوم عميق ثقيل ، فلا تري في هذا الكيان البشري المشع الملامح منذ مولده قبل أكثر من عشرين سنة سوى صوت أنفاسه . منتظمة ، هادئة ، حفية بأن تكون لشاب ، معافا لم يصبه ضرر ، وتخرج زفراته من فتحتي منخاره وقد تخلصتا – في تكرار النوبات – من كل ما كان يملأهما ويسدهما من مخاط ، وتظل إحدى لوازم هذا الجسد . في يقظته أو في نومه وهو راقد علي جنبه الأيمن دائما ، أن تواصل إصبع قدمه اليسرى الكبيرة اهتزازات راقصة لا إرادية ، وكأنَّ لا صله لها بهذا الجسد في كل حالاته .
عند رأسه ، علي طرف الوسادة ، أو في حوض صدره الذي يعلو ويهبط بأنفاس هادئة رتيبة ، تتكوَّمين مقرفصة أو مربعة الساقين أو ممدتاهما ، حاطه رأسكِ بين كفين باردتين ، يعلُق بهما ارتعاشُ جَهْد السيطرة علي نوبات وليدك الصرعية ، دائما صدرك يعلو ويهبط كما صدره ، ودموعُكِ لكثرة ما بُذِلَت في أيام وأعوام مضت . لم تعد تسعفكِ بغسيل الشجن ، ما بين إغفاءتك القصيرة المخطوفة ، واستحضار حالة وليدك ، وحيدك في أحشاء قلبك دائما ، لا تكون غير تنهيدة حارة أسيانه .
تظلين مهوِّمة في فضاء ضيق وخائف ، تروح خيالات وتجئ ، وتتداخل هذيانات روحك مع يقين الترقُّب القائم الذي يطول ، فها هو أكمل من عمره إحدى وعشرين سنة ، وصار مكتمل العلامات الآدمية الناضجة ، رجولة تشكَّلت أقرب معالمها باستدارة الذقن . مليحة ، وقد نمت شُعيرات زغبيَّة عليها ، وفوق الشفة العليا مصفرة ناعمة ، ما لبثت تحولت إلي سوداء خشنة بفعل محاولات إزالتها .
عشرة أعوام وعام ، منذ راحت سكِّينة وجيعة المخ التي لا تلمس لها من أثر أو علامة سوي تلك النوبات التشنجية اليومية المتكررة عند استيقاظه من نومه مباشرة .
لما قال لك الأطباء أن لا أمل في شفاء وحيدك الذكر ، لأن نوباته من نوع عصي علي الدواء ، وأن تكرارها يجهز علي خلايا مخه واحدة إثر الأخرى ، وأن يوماً لن يطول مجيئه ، سيخرج فيه هذا المسكين من دنياكم كما دخلها .. من يومها ولم يهنأ وحيدك بطفولة كأقرانه ، لم ينعم بلذة استمتاع بحياة مثل من تتابعينهم يروحون ويجيئون ، أسلمت الأمر لله راضية ، وبإرادة صلبة يتفتَّت لها نسيج روحك في صمت ، راودتك نفسك الأمارة بكل طيب ، وبعد إنجاب بنتين خلفه ، أن تحملي في أحشائك ولرابع مرة ، علَّ وعسي أن تأتي بطنك بذكر ، يكون عوضا عنه وسندا لأخيه في شدائد العمر الآتي وحوالك الأيام ، وبرغم ميْلك الفطري لما طرحته بطنك من إناث ، وحين اقترب موعد وضع ما تحملين . كنت تستيقظين مبكرة من نوم ليلى متقطع ، تصعدين سلالم الدار ، تسبقك بطنك المتكورة علي حلم ووجع لذيذ ، وتهبطين ، ثم تعيدين الصعود ، وما تقلعين عن تلك العادة التي أوصتك بها جدتك لأمك إلا بعد أن يهدَّك التعب ، فتنامين ، وبأية ساعة يأتيك سلطانه .
وكثيرا ما كانت جدتك لأمك - من تربَّيتي في حجرها – تأتيك لتدعم نفسك ، وتواسيك علي قهر مصيبة وحيدك لك ، فيثقل نومك علي سماحة ريحها وهمس حديثها الذي يطيِّب لك غدك المطل برأسه في يقظتك ومنامك ، فيتوجَّع منك القلب أكثر ، وأنت تُدارين حسرتك عليها ، فتمسح هي براحة يدها علي بطنك من أعلي حتى أسفل سرتك ، تشعرين بدفء ، ويحدسك شوقك للذكر بسكينة ، وطمأنة تدخلها ، تسحبين راحة جدتك الأخري ، تغطين بها تكور البطن ، وتنامين قريرة عين لحين ، ممدودة بجوار وحيدك ، وبسملات وحوقلات جدتك تملأ المكان مع طقطقات حصى الملح في وعاء به قوالح متوهجة ، يطلع من جوفها دخان البخور الأزرق
(( يا بنتي أمرك غريب ،
حد القلم يبقي في إيده ، ويكتب نفسه شقي
أي والله ...
ولد ، ولا بنت .. كله نعمة من عند ربك ،
زي الصحة والمرض تمام .. تمام يا حبيبتي .
رزقك بولد ، واختار له بلوته .
رضا ونعمة يا حبيبتي .
قادر ربك يمسح عنه بلوته ، ويحوش عنك
وعن جوزك ذنوب ملهاش عدد .
مشتاقة لولد ؟
اطلبي منه .. والَّلا .. نامي
نامي يا حبيبتي )) .
وتطرق جدتك الرأس ، مربعة الساقين ، دافنة كفيها في حجرها تحت أقدام أربع لك ولحفيدها النائم عميقا ، ولما توجعت علي ركلة في جدار بطنك ، وما تحت سرَّتك بالداخل ، تنبَّهَت هي ، واستعاذت بالله من كل عين لا ترحم ، ومن نظرات أمك وعماتك وخالاتك وشقيقاتك وجاراتك ، ومن عيون بناتك ، ومن كل عين رأت النور في وجهك ولم تصلْ علي كامل النور ، كوَّرت قبضتها اليسرى وفردتها في وجوه جاراتك الحاضرات بصورهن أمامها الآن ، ولما طلع صراخك من بين أسنانك متوجعا ، صلَّت علي من فجَّ نوره علي البشرية ، وأيقنت بحسٍ مترعٍ بتجارب عدد السنين أن وضع حملك حان موعده ، نهضت بجسد ضئيل وسواعد معروقة خشنة وقلب جرئ صلب ، تتحسَّس جبهتك ، نزلت من فوق سريرك مسرعة ، قصدت الحمام الصغير المبلط ، تشعل وابور الجاز الأسطواني الصغير ، فتَّشت وسط أواني الألمونيوم ، وفوق النار وضعت ماجوراً تعدين فيه العجين وقد ملأته بالماء ، وبانتظار أن تسخن ، عكفت علي وضوء متسرِّع وصلاة عشاء متأنِّية ، دعت الله في ختامها أن يأتيكِ بساعة رضاء ، وأن يهوِّن من أمرك ، أنت ابنة الغالية كبري بناتها الخمس ، وأن يرزقك بالذكر ، تقر به عينك ، عوضا عن وحيدك المأسور في مرضه .
وكعادتها . لم ترسل بنتا ، أو تصح بجارة ، أو من يساندها من قابلات كثرن في السنوات الأخيرة ،وكأنها رغبت – كالعادة – أن تستحوذ علي فضل توليد بناتها وبناتهن علي يديها ، والفرصة سانحة لها الآن ، جديدة ، ولم تكن قد أعدت لها من عدة ، في كل مرة كانت تغضب إن وضعت إحداهن يدها معها تساندها ، أو تقوي من عزم من تلدين يديها ، ها هي وحيدة ، تأمل من ربها أن تكتمل الفرحة علي يديها دونما شريك ، حتي ولو كان من ابنتها ، أمك ، تأمل أن تطالع قدوم الذكر ، وتدعو في لهفتها ، ومع دقات صدرها التي تكاد تسمع لها صوتا ، أن تكون هي أول من يبشرك به .
قامت علي اشتداد صراخك ، وهجعتك من جوار وحيدك الغارق في نومته التي تعقب كل نوبة من نوباته الصرعية التشنجية .
الكبرى كالعادة .
اشتد ساعديها وهي تنسل من الحمام المبلَّط تحمل وعاء الماء الساخن ، محنيَّة الظهر ، وعند حافة السرير الكبير المجاور لسرير وحيدك المغطَّي بدفئه وسكونه ، أراحته ، وكنت تصرخين ، وتقضمين بأسنان مرتعشة علي طرف الملاءة الملمومة عند صدرك ، وابنتاك عند الباب مرتبكتان ، زائغتا النظرات ، ترقبان فعل جدتك ، وتفعلان ما تُؤمران به ، خلعت عنك سراويلك ، وباعدت ما بين فخذيك ، وعكفت ركبتيك كي تباشر مهامها ، وصِحْتِ فيها بصوتٍ عالٍ مجهد ، وطفرت من عينيك الموشكتين علي الانفجار دموع كدرة ، وجرت علي وجهك المحمَّر المنتفخ بإجهاد ، قلت لها بارتعاش أن تستدعي أمك لتساندها ، أو تفرش سريرك بغطاء بلاستيكي كي لا تغرق فرشه في ماء ودم ، نهرتك بلطف وصاحت : أن لا علاقة لك بأي أمر ، وأن تواصلي الدعاء والمجاهدة ، وأن تتقوِّى بعزيمتك ، ولا تدعي خوفا يقبض ويبسط ما بين فخذيك ، وأن تتحصَّني بالطلب من الله ، وبشحن كل ما تودِّينه في زعقة ضاغطة (( يا رب )) ، وشمَّرت وعقدت طرف ثوبها حول خاصرتها ، وبركت علي ركبتيها بين ساقيك المعكوفتين ، وصلَّت علي من وُلِد ولم يَرَ له أباً ، وشعَّ وجهها بضياء وهي تري اكتمالا لمخاض لن يطول ، فتدحرج من بين فخذيك كيس الرأس الذي انفجر وبان ما به ، فصرخْتِ من جديد من بين أسنانك المطبقة علي طرف الملاءة ، مدَّت جدتك يمناها باسم الله فلاقاها ماء ثقيل لزج ودم ، انحنت بجذعها ، وصاحت بكبري بنتيك المرتبكة علي الباب أن تقرب منها وعاء الماء الساخن ، الذي غطست فيه يدها المشمَّرة ، وتعيد المحاولة ، وكنت تدفعينها بيدين واهنتين ملتويتين فتصيح هي فيك باقتناع :
(( يا جاهلة .. آه منك .. هاتي معايا هاتي
متحطِّيش في بالك
هاتي ..
يا مسهِّل يا كريم )) .
وكنت مدعاة للرثاء بشكل مؤلم ، وعيون بنتيك عند الباب تراقب بوجل ، وهذا الذي استيقظ علي الجلبة بالسرير المجاور لا يدري من الأمور شيئا ، يتابع بعينين جاحظتين ، ودموعك التي طفرت وكأنها خرجت من عيني جدتك ، وكان الأسى يعصر قلبها ، وتود لو تصرخ معك . فقالت بلهفه : (( بسرعة . بسرعة هاتي .. يالاّ يا حبيبتي بسرعة ))
وها هو بين يديها ، مولودا أحمر اللون تماما ، تراه من خلال الدموع ، أحمر بكليته منذ مر من عالمه ، الآن ، تلبُط وتتصارع وتصرخ بشدة ، رغم أنها ما تزال مربوطة بك ، وعيناها سوداوتان ، وأنفها مدبب بشكل مضحك في وجه أحمر منكسر وشفتان تضطربان وتتمطيان ، زلقة تكاد تقع بين يديها ، فهي ما تزال راكعة علي ركبتيها مجهدة ، تنظر إليها وتضحك سعيدة برؤياها ، ونسيت ما ينبغي فعله بعد ذلك ، لكنها صاحت فرحة النبرات هذه المرة بابنتك الكبري أن تأتيها بمقص ، وبالصغري أن تجلب بكرة الخيط الأبيض ، وراحت تقطع الحبل السري الذي يربطكما ، وطفلتك تصرخ بصوت خفيض ، وأنتِ تبتسمين ، وجدتك تراك تزدهرين بشكل مذهل ، كما عيناك تلتهبان بنار زرقاء ، وتهمس شفتاك الداميتان المعوجتان .
(( اربطيها .. اربطيها يا حاجة ))
ضحكت جدتك من قلبها وصدرها وعينها ، وصغراك تناولها الخيط الأبيض ، فتربط لوليدتك سرتها وهي تبتسم بألق يتزايد لك وأنت تديرين رأسك نحو ابنك الممدود في فراشه وتحت غطاء من دفء وأسى .
ولما صرخت وليدتك الجديدة بجدية حين اندلقت عليها ولأول مرة ،غمرة من ماء الحنفية الفاتر ،وهي بين يدي جدتها و قلبي أختيها ، هلَّل الجميع بمرح ، وأخذت جدتك تطبطب براحة يدها صدرها وظهرها ، فقلصت عينيها واضطربت ، وصرخت بصوت رنَّان ، وأختها الصغري تصب علي كتفيها ،وهي بين يدي جدتها واحدة بعد الأخري ، ضحكتْ وقالت لها :-
(( هيَّصي . هيَّصي يا حلوة . هيصي بكل عزمك .
وعندما عادت بها جدتك إليك مصحوبة بغبطة أختيه))ا ، كنت ما زلتِ مستلقية وقد أغمضت عينيك ، تعضِّين بشفتيك في نوبات الطلق الأخيرة المخرجة للمشيمة ، وبرغم منك همست أن تناولك إياها ، لتضعيها عارية علي ثديك الدافئ ، وتغمضين جفنيك علي حُسنها ، وحٌزن النظرات الطالعة من الراقد بالسرير المجاور ، وفي حبتي عينيه تلمع بسمة شفيفة
******

ليست هناك تعليقات: