ما أجمل الأنا لك يابغداد

ما أجمل الأنا لك يابغداد

الخميس، 14 يونيو 2007


خيوط التحسٌر







ضربت حميدة العايقة – التي لم تعد كذلك – بقبضة يديها ، صدرها الذي راح منه عنفوانه وتأنقه ، وصرخت بعلو الصوت المشقوق نصفين من الشجن والحسرة ، لمَّا سمعت جارتها نبويه بنت البدراوي جسَّاس البهائم ، وهي ترقص كالبطة المكسور وركها . خلف أصغر أبنائها الخمسة ، المتشابهي الرؤوس المستطيلة والشعر الأحمر والرموش الممسوحة والعيون الزرقاء الضيقة التي تبربش من نور الشمس ، والمتشابهي الطول وكأنَّهم ولدوا في شهور متعاقبة ، ولا يكاد أولهم يتميَّز عن أخرهم .
كان الولد قد ألقم أمه حجرا صغيرا سقط في حجرها ، و أصاب منها ما تخجل عن ذكره لجارتها ، وفرَّ من أمامها كالنحلة . غير مبال بلوْعتها ، يسبَّها بأمها (( الصرمة بنت الصرمة )) .
كانت نبوية في ركضها المتعثِّر لم تزل تضغط وتميل بجذعها يسارا . منذ انزلقت قدمها من ثالث درجات السلم الخشبي حين ركنته علي حائط الدار بالخارج ، لتصعد فوقه وعلي رأسها عقدة قش الأرز ربطها زوجها لها ، لتخزنها فوق سطح الدار لخبيز الصيف ، وتحميه من ماء المطر . ولمَّا لم تلحق بولدها ، لأن الألم القديم نقرها في وِركها فجأة ، وطلع من بؤبؤ عينيها ، جعرت بالتياع :
- روح يا بكَّار الكلب .. يا عدو الشمس ، روحَكْ قطر
يقطَّعك ، ويقطَّع اللِّي خلفك .
ارتفع صراخ حميدة العايقة حينها ، وتشنَّج صوتها داخل حلقها ، وراحت في نوبة بكاء أمطرت دموعا مملَّحة علي صدغيها وجانبي حنكها وتنهنه :-
- يا أختي . حرام عليكي .. حرام .. ربنا ينتقم منك .
مالقتيش غير القطر مرَّة واحدة !! آه يا أم قلب زفر ،
إلاَهي تتحرقي في نار جهنم يا نبوية يا بنت البدراوى .ياوليه
حرام عليكي . بِعْد الشَّر ع الواد ، وع اللي جاب الواد .
استدارت نبوية علي عقبيها كالمذعورة ، كادت تسقط ، وكان أصغر الأولاد قد اختفي بعيدا عن عينها الوحيدة الباقية ، شوَّحت بغيظ وقرف في وجه حميدة ، وراحت تعوي وتلطم خديها :
- يا أختي . بلا نيلة عليكي . ما يقعد ع المدود إلا شر البقر . دا لا عيل نافع ، ولا راجل ساتر . قطر إيه اللي يوسَّخ عجله . جاتهم حرقه تكسحهم . وقوليلي يا حبيبتي مالك انتي . ومال اللي خلِّف الواد ؟ هه ؟ . مالك ؟
بظاهر كفها مسحت حميدة إختلاط الدموع بما سال من
فتحتي الأنف المحمَّرتين ، أكملته بطرف طرحتها التي كانت قبل قليل تلفُّ الجبهة والرأس ، وكأنَّ نبوية دكَّت إبرة في إليتها علي غفلة منها ، أو داست فوق بص قوالح ملتهبة ببطن قدمها الطرية ، وسرعان ما استردَّت نفسها من الاندهاش الذي أخذها لحد غياب الرأس منها . وتنبهت إلي أن نبوية تغمز من قناتها بزوجها ، فتحسَّرت علي الراحل ، وجاء علي بالها حكاية السبع والكلب ، فندمت علي طيبة هواها ومقصدها لمَّا اندفعت تؤنِّب نبوية علي فعلتها مع صغيرها :-
- قطر ! . قطر حتَّه واحده ؟! . المخلولة بنت المخلولة .
يا ساتر يا ساتر . هوَّا فيه أصعب من كده ؟ .. الواحدة تشوف راجلها بيتقطع قدام عنيها . وعلي سكة القطر ؟ .. يا سواد قلبك .. هو انتي مشوفتيش بعينك ؟ . دا اربعين سمارة كان من تلات ايام ، وناره لسه بتاكل في الحِشَا من جوَّه ، ناره حامية قوية يا أولاد ..
وضربت صوتا مخنوقا ، أشبعته بآخر ، وهي تطيِّر ذراعيها أعلي رأسها في الهواء ، وبينهما طرحتها السوداء مبرومة تتجاذب قبضتيها طرفيها .
ولما التمَّت النِّسوة من بيوت الحارة ، كانت نبوية مأخوذة تفرك عينها الوحيدة خجلا ، صدرها يعلو ويهبط ، مشعثة حافية القدمين علي مصطبة الدار المواجهة لجمع النسوة الملتمين .
- دا يا روح قلبي كإنه كان متْمَسْمر علي الشريط ، ورجليه ملزوقة سواق القطر طلَّع راسه من الشباك ، يشور ويزعَّق ، والقطر يصفَّر والناس كليتها . سهم الله وقع عليهم . وهمّا شايفينه واقف والقطر داخل عليه ، وكأنه يا كبدي كان متغمِّي . لا شايف ولا سامع .
ما الناس كليتها راحة وجايه ؟ . عربيات وبقر وحمير وبهائم وكلاب وعيال ونسوان .. الكل بيعدّي ، وبيقفوا بعيد لما يشوفوه جاي علي بعيد ، يشاور للي راكبينه ، بيضحكوا عليهم ، وهوا . إيه اللي جري ليه ؟ .. يا دوب عدِّيت برجليَّا .. عدِّي يا سمارة .. عدِّي يا راجل . القطر جاي .. يا لهوي .. مالك يا راجل ؟ ، وسمارة ولا هوَّه هنا ، وراح راح ستميت حته قدام عنيَّا في غمضة عين يا ولاد .. يا سمااااره ..
صراخ حميدة العايقة جاء في موعده في تلك الساعة الصباحية ، كانت النسوة قد فرغن من مشاغل الدور وكنس الزرائب وإطعام الصغار وقد ذهبوا إلي مدارسهم ، والأزواج كل في طريق ، ولم يعد بالحارة سوي شكوكو الحصري .
افترش شكوكو زكيبة تحت شباك داره بآخر الحارة ، وتدلت ألياف التيل الأبيض التي سلخها من عيدانها ، مربوطة بمسامير في الحائط أعلي الشباك ، ولم يزل يهيئ حاله لبداية يوم ، لكنه جلس القرفصاء علي غير عادته علي مصطبة بارتفاع نصف قامته ، وراح يهز ذراعا فوق ركبته ، ويبحلق بعيون منتفخة محمَّرة في كوز الصفيح المغروز به عودا من البوص الأخضر الذي صنع له حجازي النجار قصبة ، فصارت جوزة علي قد حاله ، ولم تكن قد اشتعلت له نار في الصاجة الصدئة المملوءة بتراب أحمر ، ولا امتلأت القلة الفخارية بجواره في علبة البلاستيك ، ولا ظهرت كوب الشاي يتصاعد منها البخار ، ولا كسرتي الخبز المحمَّص إفطاره ، تنفيذا لنصائح الدكتور ، والأنسولين شحيح بالسوق ، ولا ظهر خيال نبوية أمامه بعد ، فقط هو يسمع صراخا وعويلا من جلسته القلقة المتوترة أمام داره بآخر الحارة عند دار المرحوم سمارة مقاول الأنفار .
لمحته نبوية ، فوضعت ذيل جلبابها المكرمش من خلف بين أسنانها وانطلقت تركض بعرجها نحوه .
أخذت من زكيبة القوالح خلف الباب واحدة ، غطَّستها في صفيحة الجاز الأبيض ، ودفستها برفق علي وجه التراب بالصاجة ، ورصَّت حولها قوالح متعامدة تلتقي رؤوسها ، وتنفرج من أسفل لتصير أشبه بكوخ صغير فأشعلت النار بداخله ، وتزوم بشفتيها في الرواح والمجئ أمامه متلهفة إنجاز بقية مهامها الصباحية ، وهو يتابعها بعينين ضيقتين ، لن تتسعا وتريا الدنيا بحالها وما حوله إلا بعد أن يجري ريقه برشفات الشاي الساخن وكسر الخبز المحمص ، ويمص نفسا من قصبة الجوزة ، فيملأ الدخان رئتيه وصدره ويصعد إلي رأسه ، فتنمل الحياة في كرمشة وجهه ، بعدها تنبسط أساريره وتكتمل يقظته ، ليعاود استدارته . فيصبح ظهره في مواجهة عرض الحائط ووجهه نحو شباك داره . المعلق بأعلاه ألياف التيل ، يربط طرفين بأصبعي قدميه الكبيرين ، ويبدأ في جدلهما حبالا يبيعها بالمتر .
وما أن اقتربت منه ، تضع أمامه وهي محنية الظهر كوب الشاي والخبز المحمص وقطعة الجبن العذبة ، حتي باغتها بقبضته حول معصمها ، جذب انحناءتها نحو الأرض فاندلقت علي وجهها ، ويده الأخري قابضة علي البلغة المركونة بجواره ينهال بها فوق رأسها ، رأسها فقط .
لم ينتبه أحد لصراخها ، أو يستجب لاستغاثاتها .
لأن الحصر كانت قد فرشت أمام دار حميدة العايقة – سمارة سابقا ، وتراصت كتل نسوة سوداء حولها ، وقد هدأ صدرها قليلا عن النحيب ، وشف نشيجها عن مصمصات شفاه ، ورؤوس محنية تجاه رأسها ، وآذان مطرطقة تلتقط همس الحديث ،
- (( يا حسرة قلبي عليك يا سمارة .
ألف حسرة والنبي يا أختي .
علي أد ما كان نفسه في عيل . يسكن داره من بعده ويبقي ضهر لأخته المسكينة الوحدانية .
كان يقولِّلي : يا لّلا يا بت يا حميدة . ربنا مارزقناش بدكر من صلبنا .. لكن عوَّض علينا بثلاثة من بطن هدي بنتنا .
وآهم . مليين علينا الدار .
الحكاية دي كات شغلاه أوي.
لكن وحياتك . كان دايس ع الدنيا ،
وكان مزاجه حلو علي طول .
كنا يا أختي كإننا لسه عيال .. كل قيالة كان عاوز يستحمَّي .
وأقوله يا راجل . كبرنا يا خويا ع الحاجات دي .
وصحَّتك أبدي يا سمارة .. إنت بتشقي طول النهار ورا الأنفار كل يوم ،
يقولِّلي : يا بت دا كداب اللي يقول الموال ده بيتعب الصحة .
هوا الواحد فينا تتجدِّد دمويته غير بالحاجات دي .؟
الواحد . لو ماشافش مزاجه وهوَّا بعافيته .. امتي بقي يحصل ؟ وكإننا . لحد قبل ما يموت بساعة ولاد عشرين سنة .
أقولك إيه ، واللا إيه ..؟
ورحمة أمي ، واحنا راجعين م الغيط في اليوم لاسود ده كان مزاجه حلو أوي ، وكنا ناويين نعملها في القيالة .
يا خسارة ..
والنبي يا أختي ألف خسارة ، ودي مش حاجة تحزن ؟
***

ليست هناك تعليقات: