تجليات المنقذ
الي انور المنجي وقدأكلت الغربة جسده ولم تأكل روحه لأنها ظلت محفوظة فى أرواحنا
هكذا إذن لن تعود إليك حواسك ،ولن تجد في متن قلبك ما تشد به أزر الآخرين،ولن ترعي فيك الطفولة ما نبت من خضرة الحلم .ولن ترقي لسمائك كل ملائكة العشق والهوي المباح فالذي غادر جسدك يا حبة القلب هو الجذوة المشتعلة.هو التوق اللانهائي للخلاص وبقي فيه ما بقي من أعشاب طيبة دهستها أحذية جهمة ثقيلة. بقيت صحراء وأزقة مظلمة وتلال خربة وأصوات نحاسية صاخبة مزعجة وصدأ يتناثر علي الكون .ما تبقي هو هذا الفراغ السديمي ، ودبيب روحك الأبدي في روحي ،ووقوفي خلف نافذة كتلك التي غادرتني منها أتطلعإالي ظلام سحيق يشبه بحرا لا نهائيا أناجيه ويناجيني أناديه ولا يجيب: يا بحر خذ شوقي ،خذ قلبي وعد لي به،عد لي بأنور،عد لي بالحبيب .كان في الحسبان ما أعددت له من عدة متواضعة أن نحتفي بذكري زواجنا الرابعة عشرة، وكنت تبتسم لي ضاحكا من تلك الفكرة ،وتقول إن أمك كانت تعد سنواتها مع أبيك بعدد ما أنجبت من أولاد مضاعفا ومضافا له عمر أصغركم فأخذت راحتيك الطريتين الممتلئتين في كفي ،كورتهما بصدري وقبلتهما ممتنة لك .فانت رجاءنا وجنتنا وأرضنا الطيبة الخيرة وخصب دنيانا .وتمنيت لك بصوت مرتعش عال أن يكون لي منك مائة من الأولاد عمر أصغرهم مائة من السنوات ، ولعلك ساعتها ضحكت بملء عينيك دموعا وقلت لي : سيدنا نوح يعني؟ الذي مضي من عمر يا حبيبة انتهي ،فاغتنموا ما وهب الاله من سعد وإسعاد وما أنعم من رزق ومن بحبوحة فيه ، وادعي لقليلي الحيلة أن يصيبهم ما أصابنا من إنعام . كنت أراقبك هانئة بما تصنع في دنياك من عون وسند . تمد لإخوتك من أبيك يدك ، وللشقيقات قليلات الحيلة .لم تغير الغربة وما تدر من خير وفير من صدرك وصبرك قليلا،زادت ما به من امتنان ومحبة ،رسبت من أعماقك كل كدر، كنت مقبلا علي الدنيا كنور الفجر الذي ولدت فيه .لهذا أسمتك امك أنور كما كانت تفاخر دوما ،ولما كان أصدقاؤك يشاغبون داخلك النقي ويربطون صلة بين خمرية ملامحك وسواد وجه أنور الآخر كنت تضحك بملء عينيك دموعا :أعوذ باللهتستعيذ بالله وتتغضضن ملامحك للمقارنة، وما تلبث أن تستعيد لياقتك الروحية يفاخر محبوك بواقعة زيارة محافظ الإقليم ليلا لمحطة تنقية المياة التي كنت تديرها قبل اغترابك ،في منتصف ليلة شتوية باردة ،تفقد الرجل محطة المياة لتكبيل شكوي الناس من شح الماء وسوء نقائها، بدون الضجيج الذي يصاحب المسئول الكبير، وفجأة كان بينكموجد محطتكم تنمل وتنشغل بحركة غير عادية .لما استوضح الأمر أُخبر أن صيانة للمعدات ونظافة لأحواض الترسيب تتم، فرحل الرجل وأثلج الأمر صدرهسال عن هوية من يحتاطون سور حوض الترسيب الكبير العميق ويطلون علي الأعماق فقيل إنهم عمال المحطة ، ولما استفسر عن مديرها . لأشار العمال عليك، عاري الساقين والساعدين بالقاع العميق البارد وسط بركة من مياة عكرة باردة ، بيدك ممسحة طويلة وسط ثلاثة من العمال تتقدمهم في مهام التنظيف وأنت الخبير فقط بصيانة وتشغيل المعدات.لم يتمالك الرجل من فرط التأثر والدهشة، وقال لك من عال وبصوت بالكاد تسمعه بالقاع أي رجل أنت ومن أي عصر قادم وفي أي زمن تعيش ؟ ولأقر أن يطلق إسمك علي المحطة أبدا وبماذا أفاخر أنا يا بصيرة حياتي ونور أيامي الآتية؟با لليلة تلك التي تتم العام الرابع عشر لزواجنا ،وقد قر قرارك يومها أن يكون احتفاؤنا بها محدودا قاصرا علينا وطفلينا أحمد وإسلامهيأت كل شيء بمسكننا الصغير الجميل القريب من محطة تحليل المياة بتلك المدينة العربية الصغيرة ،ولصغرها وطول مقامنا بها صار إسمك علي كل لسان فيها ، رقة ودمائة وصلابة ودأبا وتفانيا لا يقارن ولم يالفوههاموا حبا بككل أهلها وكبار قومها حتي من تستقدمهم من غير لغتها شغفوا بك وقدروا فيك فهما وابتكارا فى تطوير أساليب تحلي’ مياههم آليامنحوك شهادة اعتراف بفضل وعلمأطلقوا عليك المهندس الفرعونى، وكنت تضيف ..العربى..العربى قدر لك شيوخ المدينه صنيعك ورغبوا أن يعمم ابتكارك فى كل المدن الصحراوية النفطية.صنعت بيدى حلوى تهيم بها ويستطعمها أهل تلك المدينه من المقربين ,وهيأت نفسى بانتظار أن تعود ,وقد ألح عليك قلبى الذى تنقبض عضلاته تلك الليله لاسباب لا أدرى بها . أن ترح نفسك ,أن تلتقط أنفاسك بعد مواصلة نهارك بليلك فى تثبيت معدات المحطة الجديدة .لكنك ..ياسيدنا وقوتنا .قلت لى لحظتها :إنك لن تخلف لى موعدا ,وإنك ستلقى نظرة تطمئن لها نفسك على السواعد العاملة بالمحطة,ستشد من عزمهم وتذلل أى عقبات أمامهم ,ستوجه لهم دعوة أكل حلوى والسهر معنا هذه الليلة هنديا من كان منهم أو باكستانبا أو مصريا أو سورياكنت تشفق عليهم من غربتهم ,تحفظ أسرارهم وتحتضن نجواهمكانوا لايشعرون بفارق فى الروح أو التعامل بينك وبينهمكنت تبادلهم الكآبة ببهجه والإعياء بالتكفل بمهامهم التى انت فى حل منهالم تقم بمهام المسئول الذى يشير فتصبر إشارته تكليفات واجبة القطع فى التنفيذ .لهذا لما طالعت وجه بخش الباكستانى العجوز القابض على المثقاب الكهربائى فيفر عرقا لامعا فوق نحاسيته الداكنه ويداه ترتعشان من الإجهاد ,نحيته برفق ,ومسحت رأسه وصدره وكان قد اقترب متن إنجاز مهمة إعداد ثقب فى جدار الخزان الذى تضخ منه المياه لشرايين المدينة ، وهمهمت أنت بإكمال الأمر.وهل أفاخر أنا بالساعات الثقيلة التى أقضيها بانتظار عودتك والنافذة الليلية المطلة على الصحراء تضيق وتضيق والليل أناجيه لعلك تأتى؟الليلة تنهى أعوماأفلتت من بين أصابعنا فى الغربة كالماء ,وأبتهل أن تبدأ بعدها أعوام أطول معك ؟ساعات خانقة وقابضة للصدور ,والهواجس حارة مخيفة تسرح فى الرأس وتخمش فى روحى وأحمد وإسلام استلقيا بثيابهما الجديدة ,المآكل قد بردت والأكواب لاتزال فارغة ترقب من يملأها ,والشموع مطفأه تتوق لمن يشعلها .وسحابة داكنة تقترب من المحطة وأنا أراقبها من نافذة الليل ولا تغادر سماءها سحابة صنعت خيمة مهولة ممفزعة حول محطة المياه التى تأخرت بها ,وأصوات الريح تلم فى هديرها موجة قاسية السمع( وآه من خيانة من تحنو عليه )كانت العبارة التى بلا حروف تقع فى بئر حدسى ,الآلة التى كنت ترعاها وتصونها منذ خرجت من الجامعة ,ومنذ عملت بمحطة المياه فى مصر وهنا ، تلك التى ناجزتها من صبرك واستغراقك فى فهم أسرارها وتطوير أدائها .خانتك .أى والله خانتك .هكذا كان عبد الرحمن المصرى التى كنت تحمل لأولاده الخمسة وزوجته بإجازة كل عام كسوتهم وهداياهم .هكذا كان بقامته الفارعة الممتلئة يشق طريق الليل ويسد الفضاء المكموم أمام نافذتى التى منها أرقب عودتك ,يصرخ وينتحب خلفه بخش الباكستانى أن المثقاب الكهربائى الذى يختصر الجهد البشرى ويعجل به ..غدر بك وعرى عن أسلاكه داخل الثقب الذى أتمه بجدار الخزان الكبير ,فاندفع الماء منه إليك وأنت قابض علي المثقاب الكهربائي لا تزالأكمل الماء دائرة كهربائيةبجسدك.صعق كل المحيطين بك لأن المثقاب اللعين صعقك تياره الكهربائيلم يكن بالإمكان صنع شيء لك يسابق سرعة الصعق .وما زلت بشرفتي الليلة بدارنا التي شيدتها لنا جميلة وسيعة تحمل ريحك الطيب أمام فراغ سديمي، ودبيب روحك أبدي في روحي ،أتطلع إليك وأراقب مجيئك كي تحتفي مع أحمد وإسلام بأي عيد ، بأية ذكري.ولا يضيع أبدا صوت (بخش)الباكستاني وهو يصرخ بعربية مكسرة ليلتها وهو يجذب لحيته البيضاء .لماذا ينقذني؟ لماذا لم يتركني (للشنيور)يصعقني . أنا شبعت من الدنيا .لماذا . يا انور يا اخي تنقذني؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق