نبهتني أمي أكثرَ من مرةٍ وقالت: تكلِّمي بصوتٍ مرتفع ليسمعك الآخرون، حبسُ الكلام يولدّ الاضطراب ويؤججُ العاطفة، نهرَتنِي أكثر من مرة وقالت: لا تتكلِّمي مع نفسك، لا يُجدي الكلام والكلمات نفعًا، السكوتُ من الذهب.
الامتناعُ عن الثرثرةِ قناعةٌ توصلتُ إليها بعد الاحتلال، ترسخّت كلِّما التهمَت حرائقُها شيئًا جميلاً حولي: الدماء صبغة أصبحَت تكسو الجدرانَ والسقوفَ والواجهاتِ والبلاطَ والثيابَ والوجوهَ والقلوبَ
غافلني أكثرُ من شخصٍ وأنا أهذي وأثرر بمفردي، مرةً في صالة الجلوس، ومرةً في الحديقة، ومراتٍ عدة في غرفة النوم
همساتُ الآخرين كانت تصلُّ واضحةً إلى أذني: تهذي بشكلِّ غيرَ طبيعي، (الله يُستر)، حالتها من النوع العسير والشائك. لو لازمتها فترة أطول ستصاب بالجنون حتمًا
الخوفُ من إصابة الآخر بالجنون، حالة طرأت بعد الاحتلال. بلاءُ احتلال بغدادَ محنةٌ أرهقَت أعصاب أعقل الناس.
من لا يستطيع الإفصاحَ عما بداخله، ليهذي مثلي، الهذيان نعمة ممكن أن نفقدها طالما أنَّ هناك عدوًا محتلاً جاثمًا على أنفاسنا، على أنفاس أوطاننا . . مَن يسلب منا أوطاننا يسلب هذياننا أيضًا
تطالعُ وجهي ساعاتٍ، وأحدقُّ في وجهِهِا ساعات. لديِّها كلامٌ ترغب في أن تبثَّه لي، ولي كلامٌ أشعرُ برغبةٍ جارفة في أن أنزفهُ، أتقيؤه خارجَ أوعيتي الدموية، شرياني، أوردتي، معدتي، رأسي.
بعد الاحتلال بطونَنا امتلأَت بالكلام
لم نستهلك الكلمات
لم نستهلك الجُملَ والعباراتِ الرّنانة المُشعة القادرة على التأثير.
يُحدق في وجهي ساعاتٍ، وأحدقُّ في وجهِهِ ساعاتٍ. يشعرُ برغبةٍ جارفةٍ في الثرثرة، وأشعرُ أنِّي أختنقُ وأرغبُ أن أتقيأ ما بداخلي من تراكماتِ كلامٍ
لماذا يحدث هذا . .؟
بينَ ليلةٍ وضحاها، صرنا نشتهي الكلام، ومع ذلك لا نستطيع التكلِّم والهمس إلى بعضنا، لم نعدّ ننصتُ إلى بعضنا
يحدقّ في وجهي وتلتقي أعيننا ونتبادلُ الهمسَ والصمتَ والعتابَ والحزنَ
الخرابُ ينتشرُ حولي، والدمارُ حلَّ بكلِّ شىء، والفوضى تصيب كلِّ شىء بينما أهجسُ أني مقبلةٌ على هذيانٍ عظيمٍ
ستهذي هي في غرفتها متأملةٌ مرآتها
وأهذي أنا في زنزانتَي.
وسيهذي هو في صومعتِهِ يطالعُ الجدران
أكررُ جملةٌ واحدة بداية كلِّ هذيان: سيقبل ذلك اليوم الذي تهذين فيه رغمًا عنك، وفي الختام لن يبقى أمامك سوى الهذيان
يرتدُّ صوتي إليَّ بلغةِ الجمعِ لأكتشفَ أني لستُ هاذيةً منفردة؛ لن يبقى أمامَنا إلا الهذيان
أبناءُ الأوطانِ الواقعة تحتَ الاحتلال القسري يمارسون الهذيان لأنَّه آخر الصمتِ، ووجهٌ آخر للصمتِ، وأفضلُ من الصمت.
كثيرًا ما، كنتُ أرددُّ مع نفسي أني سأستفز واضطرُّ إلى الكلام، وسأهذي بما أحب، وبما لا أحب .
الأحزانُ والانكساراتُ المستمرة تعيقني عن الكلام، والهذيان، وربَّما الإحباط واليأس والشعور باللاجدوى تحرضُّني على الصمت، مع يقيني التام أني سأُستفز للكلام وسأقولُ ما لا أريدُ قولَه.
بثَّت إحدى الفضائيات أغنيةً تراثية حزينة ولجَت إلى عمقٍ ناءٍ فى قلبي، وحركَتّ ما في داخلي من شجن، وأيقظت ذاكرتي من غفوةٍ مؤقتةٍ لم أكن أدري متى وكيف وأين ومَن سيوقظها ويُحفزُهّا على نثرِ ما تراكمَت بداخلها من أحداث .
استمعَتُ إلى الأغنية بأذنٍ صاحيةٍ وواعيةٍ لأنِّي كنتُ أعاني أيضًا مزاجيةَ أذني (أسمعُ ما يعجبني، ولا أسمع ما لا يعجبني).
انتهَت الأغنية وظلَّت نغماتُ الموسيقى وإيقاعُها وصوتُ المطرب متواصلاً في أذني. هيجَّت اللوعةُ والأسى ونقلتني إلى حالةٍ من الإغماءة والغياب عن الوعي والذات، وكان لابدَّ لي من أن أثرثرَ وأهذي لأنعمَ بالراحة والسكينة.
رحتُ أدمدمُ مع نفسي مقاطعَ من الأغنية كانت أكثرُ التصاقًا، سرَت في الرُّوح مثلَ جريان الماء في النَّهر.
لاحقًا، بعدَ أن خفَّ تأثيرُ النغمة وتلاشى كلِّيًا، حرضَتّ على الثرثرة من خلال هاتفٍ سماوي زارني وأنا بينَ اليقظةِ والنوم
حثَّني الهاتفُ على الكلام والبوح والسرد والهذيان، وكنتُ قد قررتُ بيني وبين نفسى أن التزمَ الصمتَ وأصومَ عن الكلام المباح وغير المباح، مع أني لا أستطيعُ التوقفَ عن الثرثرةِ والهذيان والضجيج فحولي مريبٌ ومقلق، وصوتُ الطائرة المزعج وهي تمر مسرعةً من فوق سماءِ البيت، أصواتُ القنابل وهي تتساقط مثلَ المطر، والحجر على رؤوسنا بين الفينة والفينة، صوتُ طفلٍ رضيع وهو يصرخُ قربَ أذني، صوتُ أمي وقريباتها وهنّ يتحدثنَّ ويثرثرنَّ عن استقرار حياتِهِن قبلَ الغزو، لغطٌ هنا وهناك
ثرثرتُّ لكن في الظلام، لأن الثرثرةَ والهذيانَ في الظلامِ والعتمة فيهما قوةُ الصِّدق ودقةُ التعبير
في الحرب الصمتُ حالةٌ بدهية جدًا، لكنَّ الثرثرةُ أكثرُ من طبيعية ومعقولة في الوقت عينه
الناسُ حولي يثرثرون بشكلِّ غيرِ معقول، الكلام والمقالُ أصبحا ثرثرةً ولغطاً في الهواء كأننا نكلِّمُ أنفسنا ونهذي لأنفسنا، ولم يعدّ أحدنا يسمع وينصت لآخر، لم يعدّ لأيٍّ منا آخر
انطفأت الكهَرَبَاءُ وتفرقَ شملُ الأسرة، وانتَشرَ الأفرادُ في أماكنَ متفرقةٍ من البيت. في الظلام، تكونُ غرفُ النومِ المكان الأكثرُ جذبًا وإثارةً للدهشة
بعدَ الاحتلال، أحبَبنا البيوتَ أكثر كأننا خفنا من أَن نفقدَ هذا الوطنَ الصغير الذي يلمّنا بداخله . . تحبُّ والدتي مطبخَها الصغير وأدواتُ الطعام، ولاسيَّما أواني الخزف وأطباق الرز التي كانت تبتاعها من الصبية الذين يترددون إلى الإحياء السكنية مقابلَ حفنةَ سكرٍ أو دقيقٍ أو عدسٍ (تموينَ سنواتِ الحصار). وكان والدي مشدوهًا إلى حديقتِهِ الخضراء التي زرع ورودها وردةًً وردة، ونبتةً نبتة، بينّما أعشقُ أنا صالةَ الجلوس.
منذُ بدءِ الحربِ والاحتلالِ صارَ الظلامُ عاملَ تفريقٍ، والنورُ عاملَ لم َّالشملِ، يُحشرُ الأفرادُ داخلَ الأمكنةِ المغلقة، يجتمع شملُ العائلة داخلَ صالةَ الجلوس، المكانُ الأوسعُ والأشملُ والأكثرُ انفتاحًا في البيت، يسَعُ وجودَ القدرِ الكافي من البشر، أجسادًا وأفكارًا، في محيطٍ هادئ وصاخبٍ في الآن ذاته . .
الشاشةَُ الفضية تجمعُنا حولَها كما تجمعُ كومةَ حطبٍ محترقةٍ حولَها الملسوعون بالبرد والجياعّ في ليلِ شتاءٍ قارس.
تمددَتُ فوقَ الأريكة وغابَ ذهني بضعّ ثوانٍ فقدَت خلالها حقيقةَ وضعي
هناك من ينشلُني من وضعي ويسلِبُ ذهني ويقودُني إلى حالة من الإغماء
هل غرقتُ في النوم وأنا جالسةُ، أم أنني بقيتُ يقظةً غائبةً عن الوعي
ربَّما كنتُ نصفَ يقظة، ونصفَ نائمة.
لستُ أدري . . لن أستطيعَ أن أحددَ
تنطفئُ الكهَرَبَاء، نضطرُ إلى النومِ، إلي الصمتِ، إلى غلقِ المنافذ والأبواب.
اللصوصُ يحبونَ الليلَ ويفضلونَ الظلام
جنودُ الاحتلال ينتعشون في الليل ويفضلونَ الظلام
والعشاقُ ينتعشون في الليل
وأنا، مثلُ الآخرين، لم أعد أميزُ الليلِ من النهار.
تحتَ الاحتلال، لا يختلفُ الليلُ عن النهار كثيرًا فالعينُ ترسمُ ظلالاً قاتمًا لكلِّ الأشياء.
كثرةُ الخوفِ والرعبِ يجعلانك تمتلكُ قوةً أكبرَ لمواجهة الخوفِ . . لكي لا تشعرَ بالخوف عليك أن تخافَ مراتٍ عدة، وتخافَ بقوةٍ، وعندَها تشعرُ بأنَّ الخوفَ زال منك وصرتَ شجاعًا جريئًا
الغزو وليالي الاحتلال منحاني همًا بثقلِ الجبال وعلوها.
منذ الغزو، وبدءَ مداهماتِ البيوت واعتقالِ الرجالِ والنساء عشوائيًا، وأنا لا أنامُ نومًا متواصلاً. أنامُ بقلقٍ وتحتَ وسادتي مسدسٌ أسودٌ صغير اقتنيته من إحدى العربات التي كانت تبيعُ حاجياتٍ وألعابَ أطفالٍ على أرصفةِ (الباب الشرقي) لأشهرَهُ في وجوهِ من سيقتحمونَ المنزلَ في ساعاتٍ متأخرٍةٍ من الليل. في الظلام، لا يستطيعُ أذكى جندي أو لصٍ أن يميزَ مسدسِ طفلٍ من مسدسٍ حقيقي، وأخفي تحتَ السرير، أيضًا عصًا من الخيزران و(مقيار)، ويفعلُ الشىء ذاتَهُ بقيةَ أفرادَ العائلة
مثلُ المحاربينَ القدماء، فرسانَ المعارك والحروب، أنامُ وأنا متهيئةً لمواجهةِ أيَّ موقفٍ طارئ . . أنامُ كما ينامُ الفرسانُ، بثيابِ القتال وأكفُهم على الزناد. لم أعد أرتدي قميصَ النوم أو (جلابية) البيت، أنامُ بثيابِ العمل ذاتِها
العراقيون، على الأغلب يفعلون الشىء عينَه في منازلهم وسياراتهم ومحالِهم التجارية، لحمايةَ أنفسهم من اقتحامٍ مفاجئ من لصوصِ الليل أو جنودِ الاحتلال الذين يقتحمون الأبواب ويفجرونها بلغمٍ أو يهشمونها بالمدرعة أو الدبابة.
ربَّما كنتُ نصفَ نائمة، وربَّما نصفَ يقظة، كنتُ انتشلُ من نفسي وأتهيأ للثرثرة في الظلِّ
أنا أُستفز بطريقةٍ ما على الكلام
تحتَ الاحتلال، لن تستطيعَ أن تنامَ ملء عينيك، ولن تستطيعَ أن تبقى يقظًا طوالَ الليلِ والنهار، ولن تستطيعَ أن تثرثرَ بكاملَ إرادتك؛ ستجدُ دائمًا رقيبًا يتحكم فيك.
بينَ اليقظةِ والنوم وحالةَ الوعي واللاوعي كان هاتفًا ما قد جاءني ونزل عليّ كنزولِ الوحي على الأنبياء والرُّسلِ وحرَّضني على الهذيان والثرثرة. أرغمني على الكلام والبوح. طلب منِّي أن أتكلِّمَ وأهذي وأسّري وأصرخَ وأسردَ وأدوِنَ وأوثقَ كلِّ ما في داخلي من أحداثٍ ووقائعَ حصلَت ليلةَ احتلالِ بغدادَ
أسردُ وأحكي وأنزفُ كلِّ ما لديّ خلالَ ومضةِ الذاكرة وشعلةِ الوعي الجديد الذي تلبسنّي، على أن لا أكذبَ، ألا أختلقَ، ألا أفتعلَ أحداثًا، ألا أضيفَ كلِّمةً، أو واقعةً، ولا أنسى حدثًا عابرًا، ولا أتغاضى عن موقفٍ
أهذي، ولكن بشروط أيضًا
لمن أسردَ . .؟؟؟.
لمن أهذي . .؟وأنا مثلُ الببغاء؟. لا أتوقف، أهذي بتواصلٍ عجيب
سأهذي، وفي الختام، لا أملك إلا الهذيان
هل بقي من يسمع . .؟. هل بقي من ينصت . .؟. ألم يصب سكان الأرض بالطرش؟ ألم تعمى العيون والأبصار . .؟، لم تصبحُ وظيفةَ العيون البكاء، ووظيفةَ الأذنين السماع بمزاجٍ: أسمع ما يعجبني، وما لا يعجبني لا أسمعه . .؟.
من يسمعني وينصت لي في هذا الوقت، والكلِّ يشكو من مزاجيةِ أذنيه. من يمسحُ الجراحَ ويوقفُ نزيفَ الدم والموت والدمار عن الشوارع والأحياء والكنائس والمساجد، والعمارات الشاهقة العالية، عن الدور الصغيرة، وعن القصور الفخمة، عن الأرصفة والمتنزهات، وعن ملاعب الأطفال، وعن المدارس، وعن القاعات الرياضية، عن السيارات والعربات التي يَطالها الموتُ والدمار
المحتلُّ، مثل الموت، لا يستثني أحدًا
مَن أنتَ أيُّها الهاتف؟ . . صوتُ من أنتَ؟، ضميرُ من أنتَ؟ . . مَن الذي صحا من الغفوة العميقة والسُّبات العميق وقررَ أن يستمعَ وينصت . . ؟.
مَن الذي استعار ضميرًا حيًا وأذنًا حيةً يستلم المعلومات بتلقائية من دون المرور بآلة تجهيز الكلام المسموع ؟.
أجاء الوقت لأتحدثَ ولأهذي وأصرخَ وأُفرِغَ ما في جعبتي من كلامٍ وكلمات ؟
هل آن الأوان لأتكلِّم أنا ويسكتَ الآخرون؟، أهذي أنا ويصمتَ الآخرون؟ . . هل حان الوقت لأكسرَ طوقَ صمتي وأفتتَ حصاةَ الكلام من حنجرتي؟ . . كلامي يختلف عن كلام كلِّ البشر لأنِّي سأتكلِّمُ بلغةٍ مبتكرةٍ حديثةٍ لن يفهمها أحد ولن يسمعها أحد . . ليس بلغةِ الرموز والشفرة والألغاز لأنَّها ما عادت عصّيةً على الفهم
ماذا تريدُ مني؟ . . ، لماذا تريدُ أن تفتحَ جراحي وتثقب أحشائي وتفرغّ ما في جعبتي من ذكرياتٍ مؤلمة وأوجاع وأحزان لن تندمل . . ؟.
لمن سأسردُ، ومن ذا الذي سيستمعُ إلى قصة كلِّ ما فيها من أحرفٍ وكلمات وأحداثٍ تدفعُ إلى الحزن والآلام والبلاء والموت البطيء حسب المزاج
لمن أهذي، والهذيان طريق التائهين ؟. .
تحدثي للمرايا، لأوراق، لوجوه الدمى، للميكرفون، للجثث والأجساد الميتة الذائبة .
ثرثري في أذن الأرواحِ الغائبة التي تطوف في العتمة بحثًا عن الراحة
ثرثري للكائنات التي تنشدُّ السلام.
المهم أن تثرثري والظلام ينشرُ حولك عتمةً وطمأنينة تفتقدينها، والنورُ يتسربل متدرجًا من قرصِ الشمسِ الدائري.
لا تجهشي بالبكاء والنحيب، ولا تلوذي بالصمت وأنتَ تسردين الأحداث. دعي صوتَك واضحًا قادرًا على الجلجلة، مؤثرًا في الآخرين، إسردي بصدقٍ من دون انفعال . لك الحديث الآن: ثرثري كما تشائين فلن يسمعَك أحد، سيرتدُّ صوتَك إليك مثل الصدى
اسمعي يا أنتَ !.
تحدثي معي كما تتحدثين لحبيبٍ يوسدُ رأسَهُ على صدرك وتُلاعبُ أصابعَك شعرَهُ. أليست هذه الطريقة المفضلة للنسوة في سردِ أحداثٍ لأحبةٍ، للحصول على هبةٍ، أو التأثير فيه لأمرٍ ما . . سأضطجعُ على عشبٍ أخضر ورأسي يرقدُ على صدرك وأسمعُ منك
أخبري الزمنَ واسردي له كلُّ ما في جعبتك من أحداثٍ تُشغل بالك وقلبك وتعكرُ صفوَ روحَك. أنتِ صوتُ الشهداء، والمعذبين، والجياع، والمتألمين، والمتضررين من ويلات الاحتلال
بدأتُ هذياني المشروط:
سبعةُ ليالٍ، تسعُ، عشرُ، عشرون، سبعون ليلةً قبل الاحتلال
وسبعونَ ليلةٍ، ثمانون، مئة ليلةٍ بعدها، أعلَنَت الطبيعةُ الحداد في بغداد . . ونطقَت بما لا ينطقه بشرٌ، باحَت بما لم يبُح به لسان.
صامتٌ عن الصمت، والصراخ، والكلام، والثرثرة، والتكبير، والبكاء، والنحيب، والاحتفال، والهذيان، والابتهاج بالمسرات
الشَّمسُ امتنعَت عن الشروق والغروب، فلم تشرق ولم تغرُب احتجاجًا، حجبَت عطاءها الفني والتقني عن البشر والكائنات الأرضية. لم تبث حرارتها لتطردَ البرودة القارصة المهيمنة على الأجساد. عندَما ترتفعُ درجةَ حرارة الحزن في القلب تزداد البرودة وتتصاعد، الحزنُ يولدُ الإحساسَ بالبرودة والجوع والوحدة
والشَّمسُ استكانت إلى الصمتِ والصلاة حزنًا، فلم ترسل ضوءَها وهجَها لتزعزعَ الظلام من الأجواء الكئيبة، الباردة .
ليالي بغداد ونهاراتِِها الحزينة كانت باردةً، مظلمةً، هشةً. سماؤها تمطر ترابًا بلونِ الأحزان والأوجاع والخراب ودماءَ ضحاياها
شوارعُ بغدادَ وأحياؤها الرهيبة المكتظةُ بالسكان وحشرجات البشر والناس، بدَت فارغة. لو كنتَ قد بحثتَ عن نملةٍ لم تكن تجدُ لها أثرًا
الترابُ القاني يكسو ملامحَ الوجوه فاقدةً الرغبةَ للحياة، ترابٌ أحمرٌ بلون الدم يكسو عشبَ الحدائقِ فيسرقُ منه بريقَ الخضار. ترابٌ أحمرٌ قاني يكسو ترابَ الأرضِ، وواجهاتَ المباني، وأعمدةَ الدور، والأسلاك الشائكة، ويغطي وجوهَ التماثيل وذيولَ الكلاب، وأذان القطط، وفروةَ الخرافِ المائعة في المراعي الجرداء. عمائمُ الرجالِ في المدينة صبغَت بلونِ الترابِ وحمَلَت كومةَ ترابٍ، وجوهَ الجدران والأبنية معفّرةً بترابٍ أحمر، تمامًا، كما كانت بعضُ النسوة تعفرنّ وجوههنَّ وأيديهنَّ بالطين حين يفقدنَ زوجًا أو ابنًا، في حادثِ موتٍ مفاجئ .
أصدقُ مشاعرَ الحزنِ أو الغضب، هو ذلك الذي تعبر عنه الطبيعة الصماء ، وأصدقُ القلقِِ قلقَ الطبيعة، فهي التي تمارسُ احتجاجها بقدسيةٍ أكثر ،
ضوءُ الشَّمس باهتٌ، ضوءُ القمر في الليل خافتٌ قرمزي بلون الدم ، تيارُ الكهَرَبَاء لا ينيرُ طرقاتَ المدينة وأحيائَها الحزينة، الكئيبة، الباردة، المظلمة.
(تزعلُ) الشمسُ فتحجبُ نورَها وحرارتَها ووهجَها وأشعتَها المتموجة الذهبية
تحتجُ الغيمةُ فتحجبُ المطرَ وترسلَ رذاذَ ترابٍ تنثره على رؤوسِ البشر، والزهر، والطير، والنبات .
تعارضُ العواصفَ فتكفَّ عن الصُّراخ والزعيق . نيسانُ موسمُ تساقطِ الأوطان والأحزان والمصائر والذنوب والخطايا . 9 نيسان (يومُ وأدِ بغدادَ)، يومُ الموتِ الكوني للطبيعة في بغداد، يومُ ذبولِ القلوب والعقول والأجساد.
الشتاءُ موسمُ الذبول والبرد الذي لا يأتي تضامنًا . الصيفُ موسمٌ للتسكع في شوارعِ الآخرين هَرَبًا من أكداس الهموم والأحزان .
للآلهةِ تماثيلٌ تنهارُ فور زوالِ الأوطان والمصائر على يد الغزاة.
تماثيلُ الملوك المتناثرة في طرقات المدن وزواياها تكفُّ عن سرد أمجاد المملكة المنهارة .
في الليل، الذي يأبى أن يكونَ ليلُ السقوط، أرددُ وحدي مثرثرة:
البكاءُ فنٌ، والنواحُ فنٌ، والحزنُ صناعةٌ وفن، والصَّبرُ على بلاءِ احتلال وطن، فن .
هزيمةُ الحزن فنٌ .
وهزيمةُ الانكسار فنٌ .
وممارسةُ الحبِّ في ليلة احتلال وطن، فنٌ.
أهذي في سري بصوتٍ غيرِ مسموع :
في ليلةِ أحزان الأوطان، الوحدةُ تسودُ وتعمُّ، الشرُّ يعمُّ، والآلام تعمُّ، يفترقُ شملُ المجتمعين ويتشتتَ شملُ المتوحدين .
أطلقُ، في عنانَ الذاكرةِ المهشّمة، كومةَ أسئلةٍ لا أعرفُ لمن . .؟. مَن يتلقى أسئلةً ميتةً لا أجوبةَ لها في جعبةِ الأوطان وخزائنِها، حينَ تسقطُ على غرةٍ من الذاكرات والأذهان والبصائر.؟.
علِّمني أيَّ شىءٍ يَهزمُ الحزنَ . .؟.
أيَّ شىءٍ يهزمُ الانكسارَ . . السقوطَ . .؟.
حزنُ ليلةِ احتلال بغدادَ ، ولوعةُ ليلةِ احتلال بغدادَ، وانكسارُ ليلةِ احتلال بغدادَ . ليلةُ بثِّ الملاماتِ والعتابِ والحرائقِ من الصدور، ملامةُ المنصور، والرشيد وجواريه وغلمانه، ليلةُ عتاب السندباد وأصدقائه التجار في جزرِ الهندِ والجزيرة، عتابُ أميراتِ بلاط الملك الشهريار وشهيداتُ انتقامه وثأرِهِ.
في لحظةَ صمتي، ونَوحي، وبُكائي، وثورةَ غضبي، وثرثرتي. كنتُ أسمعُ من ينهرني دائمًا ويؤنبَني بقوةٍ ويهددُني ويتوعدنّي:
لا تذكري كلِّمةَ السقوط . تمامًا مثلَّما تفعلُ الأمهات حينَ يؤنِبنَّ طفلاً شقيًا على عدم التلفظ بكلمات بذيئةٍ لأنَّها تخدّش الحياء .
كلِّمةُ السقوط بذيئةٌ جدًا، لا تستعمليها أبدًا
الأوطانُ العظيمةُ لاتسقطُ
التماثيلُ الحجرية والخشبية تسقطُ
هبلٌ يسقُط، آلاتٌ تسقُط، أصنامُ مكةَ تسقُط حياء من الخالق
الأوطانُ العظيمة مثلُ بغدادَ لن تسقطَ
ألفُ صوتٍ ينهرني، وينهاني، ويلومني
بغدادُ لن تسقطَ . .
من بينَ الأحزانِ والمواجعِ واللواعجِ ينهضُ المنصور مبتهجًا، بشوشًا، لِيُصَّرحَ قائلاً: بنَيتُ لكم بغداد، لِتتصارعَ الأرضَ مشرقًا ومغربًا، من أجلها
هل نهرَتنِي أمي . .؟.
تقولُ: لم أفعل. عنيدةٌ لا تنصتين إلى الكلام.
شخصٌ ما ينهرني دائمًا وأنا أنوحُ عاليًا أو أنوحُ بصمتٍ وأثرثرُ:
بغدادُ لن تسقطَ
بغدادُ وُلدت لتكونَ سيدةَ المدنِ
ملكةً متوجّةً على عرشِ المدنِ والأمصارِ
لبغدادَ دائمًا منصورُ يُحررّها ويَبنيها.
في الليلة تلك نشطَت ذاكرتي في الوقت الذي رَكدَت فيه الذاكراتُ كلِّها في بغداد . . بعضُها تصلبَت، وبعضُها انصهرَت، وبعضُها ذبلَت وتجمدَت، وبعضُها هذَت وثرثرَت، وذاكراتٌ كثيرةٌ انفجرَت مثل السيارات الملغمة التي سمِعنا عنها بعدَ ألفَ ليلةٍ وليلة من احتلال بغداد
أكثرُ الجنودِ قتلاً من بينَ صفوفِ القتلة، هم الذين قُتِلوا بسبب ألغامِ الذاكرات الإنسانية
بعضُ الأفراد ألغوا ذاكرتَهم ، والبعضُ الآخر طَوقُوها بأسيجةٍ ومنعوا الأفكارَ من الوصولِ إليها.
الكثيرون استورَدوا ذاكرتٍ وصادَروا ذاكرتَهم المحلية
ذاكرتي هي الوحيدةُ من بينِ ستٍ وعشرين مليونَ ذاكرةٍ صحَت وتفاعلَت، وهذَت.
ووجدَت سبيلاً لتجاوزَ صدمةَ الليالي الأولى . . ليالي ماقبلَ الاحتلال، وليلةَ تأكيدِ الاحتلال .
مالا تنساه ذاكرتي أبدًا . . آخر ليلةٍ ما قبلَ الاحتلال المؤكَّد . . الليلةَ المؤكَّدة والمُعرَّفّة من بينِ ليالٍ قليلةٍ مجهولة.
في تلك الليلةِ تحديدًا، استعنتُ بالحبِّ لتجاوز المحنة، واستعَنتُ قبلَها بالصلاة، والذِّكر، والابتهال . داهَمني الحبُّ، وكان ألم الاحتلالِ قد بدأ، ثم كبرَ ونما، وتلاشى أخيرًا عندَما شرعَ قلبي يخلعُ عنه الهلعَ من سقوطِ وطنٍ، ويرتدي ثيابَ متعةِ الحبِّ، ويجترعَ كأسَ نشوةِ ولادةِ عشق بدلاً من ارتشافِ فنجانَ قهوةٍ مرّة أو كوبَ شاي غيرَ محلىًّ نتيجةَ سقوطِ وطنٍ وسقوطَ مصائرَ .
لم يعلِّمنّي أحد، لم يلقنّي أحد، لكنِّي توصلتُ إلى: عندَ احتلال الأوطانِ واستباحة الغزاةِ لها، يجب أن تكونَ مهيئًا لِتحبَّ، لِتعشقَ، لِتموتَ بإرادتك ولِتمارسَ أحلى أنواعِ الجنون. مهيئًا لاستقبالَ الحبِّ. فالحب سقوطٌ بطريقةٍ غيرِ مدروسة في نشوةِ ألمٍ فيه لذةٌ.
نصحتُ كلِّ مَن حولي، وكلُّ من التقيتُ به قبلَ تلكَ الليلةَ، وفي الليلةِ ذاتِها . . وحرضّتهُم على الحب: ابحثوا عن أحبةٍ وارتموا في أحضانِ هواهم حتى وإن كان زيفًا، أو وهمًا، أو صنعًا من ابتكار الخيال. فكل مَن سلكَ هذا الطريق نجا من الانكسار والسقوط.
مَن لم يجد حضنًا دافئًا يرتمي فيه، بكى .
بكى رجالٌ أقوياء، أشداءٌ، وكشّروا الأنيابَ عن ضعفِهِم، وسالَت دمعتٌهُم على الخدّ. منطقُ أن الرجالِ الأقوياء الأشداء لا يبكون هزيلٌ، والامتناعُ عن البكاءِ انتحارٌ
وليلةُ احتلالِ بغدادَ حزنَت النساءُ المؤمناتُ ولطَمنَّ على الخدودِ والصدور ، وامتنعَ الأطفالُ عن الضحكِ واللعبِ واللمزِ
صمتُ الملوكِ، والحاشيةِ، والأمراءِ، والخلفاءِ، والوزراءِ، والجنودِ في أصقاعِ الأرضِ كافة، حتى في البلاد التي يجهلُ سكانُها معنى بغداد وموقعها على الخريطة، لكنهم يعرفون سندباد تاجرَها الشهير، ويعرفون علي بابا والأربعين حرامي، ويعرفون بغدادَ من لياليها الألف ، وبكَينا تعاطفًا .
ليلةُ احتلال بغداد بكى مَن بكى، واحتجَّ من احتجَّ، وصمتُ ناسٍ وحزنُ ناسٍ وثرثرةُ ناسٍ، وهذيانُ ناسٍ. وشهَّر كثيرون السيوفَ والأسلحةَ وقرروا المقاومة، واستسلم آخرون لليأس والقنوط.
وأحببتُ أنا
واكتشفتُ أني أحبُّ، وأهوى، وفي قلبي عاشقٌ
واكتشفتُ أني عاشقةٌ متمرسةٌ، خطرة.
واكتشفتُ أني أحتاج إلى الحبَّ في مثل هذا الوقت بالذات .
وأني ظمأى إلى الحبِّ، والى البكاءِ، والضحكِ، واللعبِ، وإلى ألمٍ حقيقي يهزّني من الأعماق.
عندَما يكونُ الوطنُ مستقرًا وآمنًا . لا تحتاجُ إلى شىء.
بل لا تشعر بطعمِ (ممارسة) في حياتك
تلعبُ بشكلِّ طبيعي، وتشرَبُ بشكلِّ طبيعي، وتهذي بشكلِّ طبيعي.
تحتَ الاحتلال، تشعرُ أنَّك تريدُ أن تمارسَ كلِّ شىء وكأنَّك لم تمارس أيَّ شىء قبله . . لم تقم بأيِّ فعلٍ. الشهيةُ تنفتحُ للحبِّ، للطعام، للعناقِ الطويل، للسُّكرِ، للغناء، للبكاء، لطبعِ القُبل على الخدودِ والأكف. كأنَّك لم تحب، لم تلعب، لم تغنِّ، لم تشتم، لم تهذِ لم ترتمِ في حضنِ أحد، وتجهشَّ بالبكاء على صدرٍ عزيز ، لم تشعر بقيمةِ الأب ، لم تشعر بأهميةِ وجودِ حبيبٍ في حياتك
صدمةُ احتلالِ بغدادَ تحتاجُ إلى صدمةٍ كبيرة بنفس الحجم والثُّـقل، صدمةُ حبٍّ قاسيةٍ من جانبٍ واحد
حزنٌ قوي يحتاجُ إلى سعادةٍ قوية، ودهشةُ حزنٍ تقابلها، دهشةٌ مسرّة، معادلةٌ رياضيةٌ منطقية
لماذا لا تحبني . .؟
أنتَ واحد، وأنا واحد، والحبُّ سيجمعنا ونصبحُ اثنين ونكونُ قادرين على تحملِّ صدمةٍ احتلالِ الوطن
الحربُّ معادلةٌ رياضيةٌ غيرُ منطقيةٍ، والحبُّ منطقٌ وفلسفة
معادلةٌ بسيطةٌ جدًا :الغزاةُ سيهزمونك إذا رفضتَ عَرضي.
أحبنًّي كي لا تهزمَ
وأنا لن أهزمَ وأنتَ معي
فكرتُ مع نفسي ووحدي كثيرًا قبلَ أن أصارحَك وأطلبَ منك أن تحبَني لنشكلِّ اتحادًا وائتلافًا ونقاومَ معًا حزنَ احتلالِ بغدادَ واحتلالِ مصائرَ
نسيانٌ أو تجاهلٌ، أو إهمالٌ؛ حبُّ وطنٍ يحتاجُ بالمقابل إلى حبٍّ بالقوة والحجمِ والثـُّقلِ نفسِهِ
بداياتُ المصائبِ والكوارثِ هي القاسيةُ دائمًا
والليالي الأولى هي القاسيةُ والمؤلمة.
وبعدَها يخفَتُ الألمُ شيئًا فشيئًا ويتناثرَ في أرجاء الجسم ويتكيفَ مع الحالة
أولى ليالي احتلالِ بغدادَ انشغلَت بكَ ونُسيَتها تمامًا، ونُسيَت أنَّها سقطَت في يدِ الغزاة وأنَّها دُمِرَت ونُهِبَت وسُلِبَت
انشغلت بك وركنت بغدادٌ إلى عمقٍ ناءٍ من قلبي، وفي زاويةٍ قصيةٍ من صدري، وحرفٍ منها على مؤخرةِ لساني، ولها صورةٌ مشوشةٌ في ذهني .
تلك الليلةُ القاسية، المرعبة، الهادئة، الصاخبةُ المليئةُ بالضجيج، الصامتةُ حتى القرف، كانت نهايةَ كلِّ شىء وبدايةَ أيَّ شىء ، لم تسِل دمعةٌ، لكني بعدَها بكيتُ. كنتُ أبكي عشرساعاتٍ وعشرةَ أيامٍ وأسابيعَ حينَ لا تتصل بي هاتفيًا وتنقطعَ همسةَ صوتِك عن أذني وتغيبَ عني بعض الوقت
منى
اسمي منى وهو الذي اخترتَه لي ليلةَ السطو على بغداد وليلةَ ابتدأ حبُنا. بل ليلةَ اكتشافِها. قبلها كنتَ تناديني ايمان، ويعرفُني الناسُ وينادوني باسمٍ آخر لم أعد أذكره . سحر، رباب، سلافة، علا .
في الحربُّ تحتاجُ إلى أكثرِ من اسمٍ، وتتقمصَ أكثرَ من شخصية . . ويكونُ لك أبٌ احتياطي، وبيتٌ احتياطي .
نسيتُ تفاصيلَ حياتي قبلَ احتلالِ الغزاةِ بغدادَ والمدنِ التي أترددُ إليها، وكانت هي مفكرتي وذاكرتي التي لا استغني عنهما . . فعندَما سُلِبَت مني أماكنُ وجودي وإقامتي، سُلِبَت مني ذكرياتي وطُلِبَ مني أن أجدَ اسمًا آخر، وابحَثُ عن أبٍ، وعن عشيقٍ، وعن بيتٍ، ودفاترَ، وحقائبَ سفرٍ، ووجوهِ بشرٍ. انشغلتُ الليلةَ الأولى، أهيئ ذهني لاستقبال ذكرياتٍ طازجةٍ .
استباحَ الغزاةُ بغدادَ ومدنَ أخرى كانت حبيباتي. . كلٌّ مدينةٍ عراقيةٍ تعني لي شيئًا في قاموس الحياة. كلُ مدينةٍ لي فيها ذكرى وألمٌ وحبٌّ . كلٌ أرضٍ تطأها قدمي أو تلامسُها يدي هي من ضمنُ ممتلكاتي واهتماماتي . لكنَّها استبيحَت وأخذت مني، لكن من دونَ تنازلٍ .
لم أعد أملك مدينةً في الوطن، ولا أملك شبرًا من الأرض، ولا أملك بابًا، ولا نافذةً، ولا شرفةً، ولا مرآبَ سيارةٍ، ولا سقفًا، ولا جدارًا أعلقّ عليه صورتي وصورةَ من أحبُّ .
لم أعد أملك حتى الذكرى .
سُلبَت مني رأسي، وذاكرتي، وذهني . .
وسُلِبَ مني اسمي، ومنى اسمٌ أطلقتَهُ أنتَ، وهو اسمٌ فتاةٍ أخرى كنتَ على وشك (أن تُحبها) لكن الغزاة استباحوا بغدادَ فسقطَ حقُك في مواصلةِ حبِّك وكان عليك أيضًا أن تبحثَ عن حبٍّ آخر واسمٍ آخر وتجدَ لك بينَ الآلاف من الآباء التائهين أبًا يناسبُ ميولك وهواك .
وبحثَ أبي عن ابنةٍ أخرى له واخترتُ أنا أبًا آخر لي، ووجدتَ أنتَ أبًا يناسبك ويرضي مزاجَك ، وانشغلَت بغدادُ في ليلةِ استباحتِها وسطوِ الغزاة عليها تهبُ آباءً لابناءِ وتُرتبُ أبناءً لاباء.
قال سالم، الذي كان يعاني في سنواتٍ سابقةٍ انفصام قوي في الشخصية: لا تبدلوّا آباءكم وتأتوا بفاحشة عظيمة .
وسالم وحدَه احتفظ باسمهِ واحتفظَ بأبيهِ واعترفَ الأطباءُ والمصحّات النفسية أنهُ شُفِيَ تلقائيًا من دونَ أخذ عقارٍ طبي أو أيَّ علاجٍ نفسي آخر .
وفي الوقت ذاته .صرَّح الأطباءُ في المصحاّت وعياداتِ الطب النفسي: شُفِيَ مجنونُ واحد واستردَ عقلَه بينما فَقَد الآلاف عقولَهم.
هذه هي الحربُّ . .
وهذا هو انجازُ المحتل.
إعادةُ عقولِ المجانيين، وسلبُ عقولِ العقلاء
اسمك مثنى
وأناديك كلِّ ساعةُ بسسم
وتطلقُ على نفسِك كلِّ ساعةُ اسمًااعترضتَ أنتَ ، وعندَما اعترضتُ أنا، أشهروا (فيتو) فوق رأسي .
لا احتجاجٌ، لا اعتراضٌ، لا جدالٌ .
قال جنديٌ أمريكي محتَّلٌ وهو يوجه رأسَ سلاحِهِ باتجاهي: لا تعترضي، نحنُ مَن يمنحكم أسماءكم ويقررَ شأنكم . أسماؤكم ملكٌ لنا، وبيوتُكم وآباؤكم وكلِّ ما تحبون وتشتهون ملكاٌ لنا . . نتصرفُ فيها كما يحلو لنا
لا تعترضي ، تعلَّمي الطاعةَ، والشفافيةَ، واللعبَ بالكلمات.
لا مكانَ لسطوةِ نساءٍ بعدُ ، لا مكانَ للمكر والدهاء
مرَت الليلةُ تلك بسلامٍ
وبقيتُ أنا، وبقيتَ أنتَ، وباتحادِنا هزَمنا العدوَ في الليلةِ المبهمة تلك ،وانتَصرَ العاشقون في أرجاءِ المعمورة ،.واستسلمَ العدو الكبير لليأسِ، انهزمَت أمريكا بانتَصارِ حبِّنا .،وانخرطَ الجنودُ في البكاءِ ينشدون الأمن والسلام ،واستسلمنا نحنُ للآمالِ والأحلامِ، غرَسنا أملاً هنا وابتسامةً هناك.
انقضَت هذهِ الليلةُ، وبقيَت لحظاتٍ وتنصرمُ، لتبدأ ليلةٌ جديدةً لكن بعدَ أن يتلاشى الألمُ رويدًا رويدًا ويصبحَ أقلَّ وطأة.
اكتشافُ حبِّنا في ليلةِ وأدِ بغدادَ هو الإنجازُ الوحيدُ للمحتَّلِ في الوطن.
دمَّروا كلِّ شىء، وسلَبوا كلِّ شىء، ودفنوا الأحلامَ والآمالَ
حطمّوا كلِّ شىء
لأنِّي سأضحكُ في غرفة، وأبكي في الأخرى .
هنا أشربُ كأسَ زبيبٍ أو عصيرَ برتقالٍ، وهناك أشربُ فنجانَ قهوةٍ مرَّة .
هنا ارتدي ثيابًا حمراءَ أو ورديةٍ بلونِ الوردِ، وهناك أرتدي ثيابًا سوداءَ بلونِ الفحمِ وحجمِ دمارِ الأوطان .
في أحدى الغرفِ سأبكي بصمتٍ، وفي الأخرى سأبكي بصراخٍ عالٍ، وفي الأخرى سأحتفلُ مع نفسي بمرورِ عشرينَ عامًا على حبٍّ لم اكتشفهُ إلا في هذه الليلة المشئومة.
في الهمِّ الكبير مثلُ همِّ ضياعِ الوطن تكتشفُ درجةَ صدقِ مشاعرِكَ من كذبِها، تكتشفُ معدنِك الحقيقي .
في لحظةِ الألمِ، تميزُّ بينَ الليل الرمادي والليل الكحلي .
عندَما ينتابُك ذلك الألمُ العذبُ الجميلُ، ينتابك الحبُّ العذبُ الجميلُ .
في لحظةِ الألمِ، أحببتُك أكثر .
وفي لحظةِ الألمِ، بحثتُ عنكَ أكثر، وتأملتُكَ أكثر، وربَّما أرغمتُك على الحبِّ والثرثرةِ والهذيان .
بصريحِ العبارة .
النبيذُ الأحمر شرابُ السكارى لِتجاوزِ الهمومِ . .
كنتُ النبيذ الأحمر والنبيذ العسلي والمخّملي والأرجواني الذي شربتَه لأنسى وطنًا يُحتلُّ أمامَ عيني .
لم تعدُ الجبالُ عاليةً شاهقة، أيِّنما أرفعُ بصَري، أجدُّها أطولُ من رقبتي .
لم تَعُد السهولُ والهضابُ خضراءٌ بلونِ عيني عاشقٍ، أينما أبصرتُ إليه بدا أخضرٌ بلونِ العشبِ والسَّماء .
لماذا تبدو الأوطان جميلةً، شاهقةً، عاليةً، خضراءَ الملامحِ حتى وهي تتكبل في قيودٍ وسلاسلَ الغزاة . .؟.
لم تعد أشعةُ الشَّمس ذهبيةٌ متموجةٌ تسبحُ على شعري حين أنثرُه في الهواءِ مرحًا .
احتلُّ الوطنُ، انتَعشَ الحبُ كله في جسدي .
بعد انقضاءِ تلك الليلةِ المرعبة اكتشفتُ أنَّي أحببتُك قبلَ عشرين عامًا، وأنَّي في تلكَ الليلةِ كنتَ أقربَ إليَّ من حبلِ الوريد. بلغَ الحبُّ ذروتّه، واكتشفتُ أنَّ حبَّك من حبِّ الوطنِ .
وقبلَ هذه الليلة لم يكن الحبُّ ممكنًا .
الحبُّ يحتاجُ إلى ألمٍ قويّ، هزة قوية تُصَحيه إذا غفا، تُحركهُ إذا جمد، تُنعشهُ إذا ذَبل، تنشّطهّ إذا تكاسل . .
في الحربُّ نحتاجُ إلى أن نحبَّ بعضَنا (بفولتية) خاصة لنصمدَ، ونواجهَ الصدمة، بقلبِ أسدٍ ورأسَ ثعلبٍ.
أشعرُ ببردٍ . البيتُ محاطٌ بجبلٍ من النار، أسيجةٍ من النار. الشمسُ في هذا اليوم تُرسلُ حرارتَها باتجاهِ غرفتي حصرًا، مطرٌ في كلِّ مكان، ودفءٌ في كلِّ مكان . . غرفتي وحدَها باردةٌ نائمة على جبلٍ من الثلج .
عندَما كان اسمك زيدًا، كان اسمي سلافة
صار اسمي شيرين، وظلَّ اسمك معتزًا.
وقبل أن ينصرمَ الرمقُ الأخيرُ من الليل غَيَّرتُ اسمي إلى نورِ الهدى، واتفقتُ أن أناديك فراس. ثمةَ جنودٍ مدججون بالسلاح ومروحية تقفُّ فوقَ سماءِ المنزلِ . . أسماؤنا جميلةٌ تهددُ أمنَ الولايات المتحدة، وأشكالُنا كرويةٌ تُهَيجُ أعصابَ إدارةِ (البيت الأبيض)،ورئتُنا تتنفسُّ هواء بطريقةٍ تُهَيجُ أعصابَ ساسةِ واشنطن .
الطائرةُ هذه، وهذه العرباتُ الهمفي وناقلاتُ الجنودِ، وهؤلاءِ الكلاب المدججون بالرِّصاص سيغادرون ما أن تنوي تغييرَ اسمك واسمي.
أناديك حمزة وتناديني مديحة . أناديك سفيان فتناديني هند.
الأربعاء، 27 يونيو 2007
من هذيان تحت الاحتلال ..لها
هذيانُ ليلةِ الوأدِ
كلشان البياتى
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق