ما أجمل الأنا لك يابغداد

ما أجمل الأنا لك يابغداد

الخميس، 14 يونيو 2007

كوابيس الرحيل فى اللامكان















قبل مغادرةمدينة تعز اليمنية بليلة واحدة فى العام 90 كتبت هذه الكلمات تحت احساس الشعور بالرحيل ، ولأنى عشقت تلك المدينة ، فكانى رحيلىمنها هو رحيل فى اللامكان . حيث أمل العودةظل باقيا

الى عز الدين سعيد احمد . الصديق الونس فى التضاريس المؤلمة

((فى البدء كان اللقاء ، ولن يكون المنتهى))


تعز الموعد 0
قلت هذا أنا
وقلت أنا انوجدنا فيك 0
.
ولعل أصعب مايمكن أن يحدث الآن وأنا أمارس حالة رحيل آخر، لعل أصعب ما يمكن أن يحدث هو أن أستيقظ باكراكعادتى ولا أجد المكان الذى اعتدت أن أفتح عينى على أشيائه الصغيرة ، وعلى أسراره التى أدركها أنا وحدى، لا أشعر فقط أن المشهد الذى يملأ ناظرى عادة قد تغير ، ولا عاداتى الحميمة التى اعتدتها فيك ولاصقت حياتى اليومية قد تغيرت بدورها ، وإنما أحس أن خللا ما قد حدث فى أعماق وجدانى ، وأن غموضا عميقا يخالج أفكارى وحالاتى ، وأن مزاجى اعتكر تماما وأصبحت ضحية أوهام وهواجس لست قادرا على تحديدها بوضوح ،
ولكن هناك ألمح داخل عتمة مكان 0أنى سأغادر رفاقى الصعاليك عبد الكريم مهدى وعادل العامرى وسيف وعبد الرحمن الذكرى وعارف البدوى ، ولن أصافح ظهيرة كل جمعة بالسوق المركزى عبد الحبيب سالم مقبل ، ولن أشارك فى قفشات عبد الله سعد الضاحكة، ولن يصحبنى عز الدين سعيد لمقر اتحاد الكتاب او للقاء سليمان العيسى ، ولن أمشى عالى القامة بجوار على المقرى عالى القيمة ، ولن يصحبنى الى سهرة فوضوية عند الشاعر عبد الله قاضى ، لن أسمع صوت ميفع عبد الرحمن من عدن يسلم على بصحبة وجدى شينة الذى التقطنى من زحمة الشارع ليتخذنى صديقا رائعا – حسب تعبيره – لن أرى آمنة النصيرى مرة اخرى وهى تعلق بحميمية واعية على لوحات هاشم على ، لن أجلس بجوار عبد الآله سلام نتغدى فى مطعم يخليه صاحبه من أجله وصديقه - أنا - عند باب موسى ، لن اقضى ساعات الليل الأخيرة بشارع جمال مصاحبا كل الأخوة الفلسطينيين المقيمن بتعز ينصتون بمعزة لى ومصرى مثلى يحلل مستجدات الصراع العربى الصهيونى ، متوهمين أن عربا أمثالى هم من سيأتى تحقيق حلم العودة والتحرير على أيديهم ، ألمح غيابا عن جلسة رائقة بحضرة محمد عبد الرحمن المجاهد وأنا أختطف نظرة اليه بين لحظة وأخرى ,اكاد أجد مطابقة فى التصور الداخلى بين ملامحه وملامح جمال عبد الناصر ، فأعاود التأمل أكثر ، لن أضطجع مستريحا أما م عبد الكريم المرتضى بمقيل اتحاد الكتاب ، أتأمل جمجمته الصغيرة الملأى بهموم كبيرة 0،ولن يأخذ محمد بن محمد المجاهد مدير السياحة ومؤرخ تعز العاشق بيدى وهو يطلعنى على أسرار مدينته التى يراها أم المدن كلها , ولن يصافحنى عبد الله سلطان كل صباح وهو بطريقه الى دار المعلمين ، لن أفرح بصورتى تتوسط الصفحة الأخيرة من صحيفة الجمهورية كل يوم ثلاثاء ، ومقالاتى عن المسرح كل يوم أربعاء ، ولن أداعب الفلبينية البيضاء الدقيقة الملامح بسوق الصميل وهى تروح وتجىء وسط مطعمها الصغير كالفراشة ، وتلتفت الى مداعباتى التى تقرب من التحرش وتبتسم ابتسامة يتحير العقل فى تفسيرها فيزداد شغفى بها ، وووووو
حالة اغتراب عميق تمتلك روحى ، ومثلها من الشلل تحاصر جسدى ، أشعر أنى لم سأفقد مكانى فحسب ، ولا مزاجيتى المفرطة فى عبثها الجميل ، ولا ذاتيتى المتفتحة كزهرة النرجس ،بل أشعر أنى سأ فقد جزءا من ذاتى ، وجزءا من وجدانى 0 فعلاقتى بالمكان ليست علاقة طارئة 0 أو عابرة قابلة للانهيار فى أى وقت 0 بل هى أولا وآخرا علاقة داخلية شديدة الأواصر ، عميقة بالغة العمق ، والمكان ليس مجرد مكان قائم فى المطلق ، خال من المواصفات التى تمنحه بعده الخاص وطابعه المميز ، 0 بل إن المكان لا يحقق حضوره الا انطلاقا من خصوصيته ، ولا يؤكد انتماءه إل عبر عمقه الوجدانى وكثافته الروحية 0
ما أصعب أن أستيقظ يوما واجد نفسى فى مكان لا يشبهنى ، ولا يشبه ذكرياتى بمصر التى فارقتها طويلا؛ أدرك أنى اصبحت مجردا من اجمل رغباتى ، وأجمل خيباتى التى منحت عمرى معنى مختلفا ولونا مختلفا 0
فلا الصباح سيكون صباحى كى استيقظ وحيدا بهدوء كلى ، ولا النهار نهارى 0 كى امنحه بدءا كما يحلو لى أن أبدأ متثائبا ضجرا، فرحا قليلا ، يائسا قليلا ، ولا الوقت وقتى كى اتجه نحو زاوية منه غير محددة ومفعمة بالانتظار والملل والنعاس الخفيف ، ولا الليل ليلى كى أنهيه أيضا وحيدا فى العتمة الأكثر وحشة ، ولا السرير سريرى كى لا آلفه كثيرا ، كى لا يثير فى خوفى العميق ، ولا النافذة نافذتى كى أطل على فراغ يتكرر دائما ،، هو هو نفس الفراغ الذى يصدم زوجتى المنتصبة خلف نافذة الانتظار تناجى بحرا وسيعا ، تمخر عبابه مراكب الرحيل ، وتقول له : يابحر 0 خذ شوقى خذ شوقى يابحر وعد لى بحبيبى .
فى غياب المكان 0 تصبح الاقامة ذكرى ، ويصبح العالم مرآة تتكسر على صفحتها صورته ، تقفز الآرض كصحراء 0 هى صحراء روحى ، وتنطفىء التماعات السراب التى تجعل الصحراء أرضا ممكنة .
فى غياب المكان تتشابه الجهات ، ويصبح المنفى احتمالا واحدا لانتظار يطول ولا يعرلافنهاية محددة.
لا يكفى أن أرحل من مكانى كى أفقده ، كى أفقد الحلم بالرجوع اليه 0 حنين العودة كالجذوة فى القلب يطفئها برد الانتظار 0لكن ما أصعب أن أنتظر مكانى ، وأن أمضى العمر فى انتظاره فلا يعود مكانى الى 00 ما أصعب أيضا أن أرجع إليه ولا أجده ، أن أرجع إليه ولا أجد سوى ذكرى مكان كان يوما وغاب 0
غير أن ما يؤلمنى أشد أن أفقد فكرة المكان ، وأدخل شيئا فشيئا فى اللامكان ، لست أنا الذى رحل عنه فقط 0 بل هو الذى غاب عنى ، فحالة اللامكان هى أصعب حالات الغربة ، يغيب عنى مكانى قبل أن أغيب عنه ، يصبح المكان فكرة غامضة تتلاشىبهدوء فى عمق الذاكرة 0
كان لفكرة اللامكان بريق خاص ، وسحر يفوق كل سحر ،حين كان انتماءا الى ليل الغربة وزمن الانتظار ، ولكن حين تخلو فكرة اللامكان من الأمل الضئيل اللامع كالضوء فى عتمةالعين
، يصبح انتماء الى زمن الموت الحقيقى الذى لا يعقبه ضوء 0
غربة المكان 0 غربة فى اللامكان وغربة عنه 0
كلما فقدت المكان ازداد رسوخا فى ، وكلما غبت عنه وجدته أكثر فأكثر 0
وحين يغيب المكان يفقد اللامكان ذريعته وجوهره، فهو لا يكتمل الاانطلاقا من الحضور الكثيف للمكان نفسه 0
لكن
ما أصعب اللامكان حين يصبح احتمالا واحدا 00 لا لغياب المكان واستحالة العودة اليه مطلقا 0 بل لاستحالة المكان نفسه ، لاستحالة عودة المكان الى نفسه والى الآخرين الذين أحرقتهم شمس الانتظار 0
ما أصعب أن أرحل ولا يكون لى مكان أرجع إليه ، مكان يرجع الى كى أعود إليه 0
إنها الغربة المزدوجة 0
أن أفقد مكانى
وأن يفقدنى المكان
وأنت تعز
لك كل الحضور القائم فى 0 ما رحل المكان 0،ومابرح يقوم غير قائم فى

عصيفرة \ منتصف ليل العاشر من يونية 1990

ليست هناك تعليقات: