ما أجمل الأنا لك يابغداد

ما أجمل الأنا لك يابغداد

الخميس، 21 يونيو 2007



غربة الإنسان في عصر الصورة

يخلق مجتمع الفبركة

الفرنسيون الباحثون عن (قليل من الهواء يكفينا) كما يكتب المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه المتعدد المواهب والمبدع بحسب تقريظ إدوارد سعيد له، يمارسون شططاً في فهم العولمة، كما يرى المبهورين بها من الأميركيين، إذ هم، كما هي حال المثقفين العرب، مثال للإعاقة المزدوجة في فهم العولمة كما يكتب توماس فريدمان في كتابه الشهير (ليكساس وشجرة الزيتون: فهم العولمة) الذي أزعجته آراء مثقف عربي من المغرب يتحدث الفرنسية ويناهض العولمة وهنا تكمن الطامة الكبرى كما يرى فريدمان، وهم يمارسون المقصود الفرنسيون تقريظاً للإرهاب ومديحاً فيه، لأنهم، أي (غبطة المساجلين الجدد) من الذين نافحوا سابقاً عن الخمينية كما فعل ميشيل فوكو، ينافحون الآن عن (البن لادنية) إن جاز التعبير بالقول إن عولمة الإسلام السياسي هي ناتج عولمة العالم، فالشر يقابله الشر، والمطلوب هو فهم الكيفية التي يصعد بها الشر إلى جانب الخير إذا كان لا بد من هذا التصنيف الذي يمارسه قادة النظام العالمي الجديد من الذين صادروا الله على حد تعبير أحدهم، ليقوموا بنشر رسالتهم الخالدة. وبالتالي لا بد من أن (نمتلك فهماً للشر) كما يقول جان بودريارد أو (نبي الحدث) كما يتهكم عليه مجموعة من غبطة المشاغبين إن جاز التعبير.
(أن نمتلك فهماً للشر) ليس معناه الهروب من مواجهة الإرهاب أو إعادة تبريره كما يظن البعض من الذين يمتطون صهوة نمر العولمة ليخيفوا به العالم، بل أن نتعداه إلى ما هو أبعد من إدانته كما يفعل البعض، فالإدانة سهلة وهي موقف أخلاقي وسياسي ضروري حتى لو انطوى على نفاق كبير من قبل الدول والمثقفين معا، خاصة عندما يتعلق الأمر بأميركا كما يتهكم نعوم تشومسكي، ولكن الدعوة إلى امتلاك فهم للشر، لنقل مع رينيه جيرار للعنف التبادلي، أي العنف الدنس (عنف الإنسان ضد أخيه الإنسان) بأكثر أشكاله تدميراً وحضوراً في عصرنا الحالي، وأقصد عصر النظام العالمي المصادر من قبل القوة الكبرى، عبر فرض نموذجها عليه بالقوة، هو أمر من شأنه أن يفتح باب المقال على مصراعيه لمزيد من الأسئلة، وأقصد الأسئلة المسكوت عنها، ففي (مجتمع إنكاري) كالذي نعيشه الآن كما يرى جان بودريارد، حيث تتكاثر أجهزة الإعلام والصحافة المنافقة كفطر ذري سام، وتتسابق في إنكار جذور الحدث والسعي إلى إدانته، يغلق الباب على معظم الأسئلة ويقفل عليها بالرتاج، ويميل الكثيرون إلى النسيان، حيث النسيان شيمة عصر الصورة وعصر العولمة معاً.
الإنكار
من وجهة نظر بعض الدارسين، أن (المجتمع الإنكاري) هو مجتمع الفبركة الصحافية والفبركة الفكرية التي تأخذ شكل استعراضات فكرية كالقول ب(نهاية التاريخ)أو (نهاية الإنسان) في إشارة إلى كتاب فرنسيس فوكوياما الأخير الصادر مع بداية الألفية الجديدة وحتى (صدام الحضارات)، وهو مجتمع إخفاء الحقائق حيث يجري التحكم بالصورة وحيث تطغى الصورة على ما عداها، ليصبح المتخيل هو القاعدة ويجري إنكار الواقع، والأهم التلاعب بالواقع والعقول معاً لتمرير مزيد من الفبركات، هذا ما يشتكي منه سيمور هيرش في كتابه الأخير (القيادة الأمريكية العمياء) وهذا ما يصرح به نعوم تشومسكي وعديدون، فثمة (قيادة أميركية عمياء) على حد تعبير هيرش تريد أن تطفئ نور العالم بأيديها، فإذا كانت جنية الكهرباء قد أنارت العالم، فإن القيادة الأميركية العمياء تسعى إلى فرض الجهل والظلام على العالم، وإلى فرض حالة من السكوت والتبعية، من هنا منشأ سياسة الإنكار التي يراد التعتيم بها على ما يجري في العالم. ومن هنا منشأ فعل المقاومة كما تعبر عنها التظاهرات المعادية للعولمة على صعيد عالمي التي تقودها حركات عالمية جديدة لم تخرج من العباءة الماركسية، وحتى الحركات الأكثر تطرفاً في مواجهة هذا العالم الناشئ.
أعود للقول، إن المشكلة تتمثل في أن (أنبياء الحدث)من الفرنسيين، من ورثة قضية (درايفوس)لا يستسلمون للأجندة الأميركية التي تدفع باتجاه إنشاء مجتمع إنكاري، ولذلك نراهم يثيرون مزيداً من الأسئلة، وخاصة في ما يتعلق بالإرهاب، أو بما يسمّيهم الباحث الفرنسي أوليفيه روا في كتابه (عولمة الإسلام السياسي) ب(رحل أرض العولمة)، ففي الكتاب السالف الذكر لا يستسلم أوليفيه روا لهول الحدث/ حدث الحادي عشر من أيلول الدامي، ولا للأحداث الإرهابية المتلاحقة على صعيد عالمي، بل يفتح الباب على مصراعيه لمزيد من الأسئلة. إنه يرفض من البداية ذلك التبسيط المخل للراديكالية الإسلامية التي تتكامل في (أممية راديكالية مناضلة) ومناهضة لإمبريالية. يقول روا: (لفهم الراديكالية الإسلامية، يجب أن ندرك أنها تستهدف) (وتؤسلم) منطقة معارضة فتعمد إلى نشر شعائر مناهضة للإمبريالية، أو تعبئة المناطق المعزولة اجتماعيا، أو شحن المفكرين الشبان بمبادئ التطرف. وعليه، فما من شأن تصاعد حد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أو التدخل الأميركي العسكري في المنطقة، إلا أن يغذي العداء ضد أميركا الذي تتشاطره طبقات المجتمع الإسلامي جميعها، وهذا ما يبرر انتقال أفرادها إلى التدخل العملي. بيد أن هذا العنف ليس بالإسلامي: إنه مناهض للإمبريالية، وهو أثر من آثار الاستعمار الذي يتخذ بعدا جديداً مع الهيمنة الأميركية) ص 2322.
يرفض روا كما أسلفت نعت الأصولية الإسلامية بالإرهاب كما يستسهل الكثيرون، فالقول إنهم إرهابيون إنما يهدف إلى نزع الشرعية عنهم، من قبل خطاب إعلامي غربي وإمبريالي، إنهم (المناضلون الجدد) كما ينعتهم روا، وبالتالي فهم طليعة (حركة عالمثالثية معادية للإمبريالية).
مما لا شك فيه أن هذا القول يصطدم العقل المستقيل الذي استسهل إدانة الإرهاب والإسلام معا، والذي راح بعد أحداث لندن الأخيرة (يوليو 2005) يرفض الربط بين (غزوة لندن) وبين احتلال العراق وفلسطين، مع أن عمدة لندن الشجاع كين ليفنغستون قطع مع هذا النهج حينما أكد في تاريخ 23/7/2005 أن سياسة الحكومة البريطانية لها دور في إذكاء العمليات الإرهابية التي شهدتها البلاد.
القطيعة
لا يميل بعض الفرنسيون ومنهم روا كذلك جيل كيبل إلى إدانة الإسلام، فالجهاد الحاصل ليس من طبيعة إسلامية، ولا يتجذر بعيداً في الإسلام كما يفعل بعض الباحثين من الذين يبحثون عن جذور الإرهاب الإسلامي في الثقافة الإسلامية، وتحديداً من ابن حنبل إلى محمد بن عبد الوهاب مروراً بابن تيمية وصولاً إلى التيارات الجهادية الحديثة (عبد الوهاب المؤدب، أوهام الإسلام السياسي) فالجهاد الحالي ضد الإمبريالية الأميركية ليس من طبيعة إسلامية، إنه باختصار فبركة إسلامية سياسية جديدة وجهادية، فالفبركة ليست حصراً بالإمبريالية، وإنما تتعداها إلى المناوشين لها، الذين هم كما يرى روا (يجهلون ثقافتهم ويرفضونها بل يقاطعونها محليا، ثم يؤسلمون فيفبركون ديناً إسلامياً يلائمهم كما نستشف من وصية محمد عطا) ص 34 وهذا ما يقره أيضاً أحد الشهود العيان، ففي كتابه (الجماعة الإسلامية: رؤية من الداخل، 2005) يرى منتصر الزيات أن قادة الجماعة الإسلامية في مصر كذلك التيارات الراديكالية يميلون إلى فبركة جديدة لمفهوم الجهاد لتبرير مواقفهم، تقطع مع الفهم الفقهي الموروث للجهاد من قبل المؤسسات التقليدية وهذا ما يفسر هذا العداء بين الجهاديين والمؤسسات التقليدية كالأزهر الشريف مثلا، التي وصلت في بعض الأحيان الى اغتيال بعض الشيوخ كما حدث مع الشيخ الذهبي.
ما نود الوصول إليه أن مجتمعات الفبركة التي هي ميزة عصر الصورة والسرعة معاً، كذلك الجماعات المفبركة، يجمعهما أكثر من قاسم مشترك واحد، اغتيال الحدث واغتيال العقل وبالتالي الترويج للصورة على ما عداها وهنا تكتب على الإنسان غربة أخرى وضياع آخر يردد صدى غربة الإنسان المديدة وضياعه؟

ليست هناك تعليقات: