ما أجمل الأنا لك يابغداد

ما أجمل الأنا لك يابغداد

الجمعة، 22 يونيو 2007

تواطوءعلى حدود الموت


تواطوء على حدود الموت

هذا القوس المرتفع من غبار ، يجعل من محطة القطار ما يشبه فوَّهةفرن ، ويجعل من القطار ذى التسع عربات حديثة الطلاء ، الرمادي. أشبه بثعبان يفرُّ من جحرٍ عميق .
لم يكن هذا القوس من الغبار مألوفا .كما يحدث .خمس مرات فى اليوم ، ولا تلك الزعقات التي تكفي واحدة منها أن تزعج صغار الأطفال أو تهيِّج الطيور من أعشاشها وتفزع الدجاجات الراقدات علي البيض فوق السطوح ، ولا هذا الصخب ، ولا هذا الدبيب العالي. الذي يلتحم مع قوافل الغبار المهيَّجة . لأنه ، وقبل مروره علي تلك القري الكثيرة الراقدة في فضاءات الحقول الواسعة . بين مدن متباعدة . في خطِّ مستقيم حينا ، ومتعرج حينا ، ومقوس مرات كثيرة ، كان قد هُـيِّئ له طريق مرتفع . يقطع الغيطان علي الجانبين ، ويصعُب ارتقاؤه لدواب وصغار الآدميين .
كان هذا القوس من الغبار ، المتعانق بالصراخ . ينمَّ عن وقوع قريب لأمر غير معتاد أو مألوف . هو في الأخير . جَلَلٌٌ
0جعل الذين هبطوا من القطار متساقطين قبل أن تهدأ عجلاته من هديرها في المحطة المقتربة ، يركضون للخلف ، مذعورين ، هنا وهناك ، من فوق الطريق الترابي العالي ، يتناثرون كجراد منتشر. عند منتهي مدقِِ صغيرٍ يتّسع لعربات الكارو بين الغيطان الممدودة علي الجانين ، وينقطع عند شريط السكة الحديد ، المرتفع قليلا عن المدقات والقنوات والمراوي
وأمر الاحتماء من خطر القطارات موكول لمن يمرالقطار عليهم. وهم منكبُّون في أعمالهم بالغيطان . نهارا ،ذاهبين إليها أو عائدين ، يلمحون تسرُّبه من ضجيجه المتوالي الرتيب ، وصفارته التي تطير في فضاء الغيطان ، يدركها القريب والبعيد . فلماذا المخاطرة ؟ .
لكن حمارة منصور إبن نور العيون ، الوحيد ، الذي أنجبته بعد زيجات متعددة ، هنا في البلد مرة ، وفي طماي الزهايرة (قرية الست أم كلثوم التي بها ولدت وشقيت بطفولتها) مرة أخري ، وثالثة في حفير شهاب الدين. آخر الزيجات .
كان ثالث الأزواج عابر سبيل . يبيع أقفاص الجريد ،متجوِّلا في بلاد الله ، ولما فرغ من بيع أقفاصه ، كان الوقت غروبا ، وآخر من أبتاع منه .كانت نور العيون وأمها قفصا لكتاكيت الثلاث دجاجات الراقدات علي بيضهن عشر ليال ، عندها أقام ليلة في حضرة أمها . قبل مغادرتها الدنيا بأعوام ، وفي صباحها ، كان الشيخ زلاقي بعد فراغه من صلاة العشاء قد عقد قرانهما ، وشاهدان من المصلين بصحبته .
منه أنجبت منصور . أسمته كذلك . لأنها كما تقول : أنجبته لينتصر لها علي زمانها المعاكس ، وكانت ترفض استسلامها له ولحكمه عليها. أن تظل بقية عمرها وحيدة .
ولكن الزوج الذي لا يُعرف له اسم لحد هذه اللحظة ، والذي خرج ببضاعته بعد مرور عام علي ولادة منصور . لم يعُد حتى هذه اللحظة .
ولما لم تصبر هي علي غيابه ، ولم يفسِّر لها أحدٌ من أهل قريته . أو يٌقَوِّي عزمها في البحث عنه . حملت منصور ، وعادت تسكن دارها التي تركتها ، وقراريطها الثمانية . نصيبها من أرض أبيهاانتفاعه من الإصلاح الزراعي .
ولما كبر منصور بين يديها وأمام عينيها ، وتقوَّي به ظهرها في الدنيا ، رافقته ذهابا وعوده إلي الغيط ، وأوكلت أمر استيعابه الدنيا وأحوالها وخفاياها لابن خالتها . الذي لم ير لأبيه هو الأخر وجها ، فعركته الدنيا وعركها. حتى استقر علي أرضٍ لينة مع زوجة وكثيرٌ من صبية وبنات .
كانت حمارة منصور لها رأي أخر بالفعل .
فالذي يتشمَّمها ، ويضرب بعروة رأسه في بطنها ، ويدخل لها تحت زند العربة الكارو التي تجرها ، يضرب ببوزه في أثدائها الممتلئة ، وينكش الأرض بحافريه الخلفيين فتقرض له بأسنانها العريضة، برفق ،في شعر رقبته الناعم . يعاود نطحها ببوزه في بطنها، فتُبعده بمودة من تتهيأ لإرضاعه ، وتوقن أن الانتظار لن يطول بوقفتها الغير مريحة حتى يعبر القطار ، لحظات ويعبر ، وسيمضي ، ووقفتها تنتظر لن تطول برغم اعتيادها عليها ، وستكابد جر العربة مرة أخري ، ومنصور وأمه تتدلي سيقانهما فوق زنديها، وبخلفهما صندوقها بقايا كنس الزريبة والقش المهروس وفضلات ما بعد يوم الخبيز ، وسيهبط منصور بلا شك علي الأرض، يشدٌّ من أزرها ويساندهابالدفع معها نحو المرتفع الترابي كي يعبروا شريط السكة الحديد إلي الجهة الأخرى ، وستدفع معه نور العيون بعزم لا ينقصها ، وحينما يعبرون. سيرفع منصور زندي العربة لتسقط مؤخرتها للخلف ويفرغ ما بصندوقها علي رأس الغيط ، وسيدير وجه حمارته ويربطها داخل الزندين الشاخصين لأعلي ، ويرمي أمامها ربطة الدنيبة ، ويُبقي وليدها طليقا يركض حولها أو يعاود محاولته الرضاعة منها كلما عنَّ له ذلك ، ويتشمَّمها ويٌمرغ جسده الصغير علي تراب المدقات القريبة لكنه لا يهدأ ، وأمٌّه متململة ، ترفٌس برجليها الخلفيتين ، وتهشٌّ ذبابات سوداء غليظة عن فخذيها ومؤخرتها بذيلها ، وتضربه ببوزها مرة وبرأسها أخري ، ومنصور وأمه مستغرقان في استحلاب حكايتهما ، لا تدري
ماذا كان بينهما من حديث حتى هذه اللحظة لم تتذكر نور العيون تفاصيل كثيرة مما جري ، لم تمتلئ لها آنية من حكايات. تثرثر بها وتجترها. وقت اشتداد حسرة التذكُّر ، لتستدفئ وتلتذ بها مرافقاتها في لحظات شجن مهما كانت مرارتها .كعادتهن في البلد ، أو خيطاً يصل بين الثكالى والمحزونات لما يلتم شملهن بأية ساعة ، وهي كثيرة .
لكنه .الغبار يتصاعد علي الجانبين ، والهدير قادم ، وصفير يشقٌّ سماوات الغيطان الواسعة ، وحمارة منصور تٌبعد صغيرها .لأنها غير مهيأة لإرضاعه ، فيتذمَّر الصغير متدلِّلا ، مقتربا يلهو بحضن الشريط الحديد ، فترفع أمه رأسها منتصبةً كالمستشعر خطرا ، كان الصغير يتشمَّم أعشابا شوكية نابتة بحضن الشريط الحديدي ، فيزداد تململها ، ويرتجف شعر رقبتها ، فيجذبها منصور من مقودها الملفوف حول معصمه ليشجٌب فيها رغبة الاندفاع، وقد كانت منذ قليل ساكنةً مستسلمة لمداعبات صغيرها .
صرخت نور العيون ، صبت قوةً في ساعديها مع قبضة إبنها الممسكة بمقود الحمارة ، راحا يجذبانه سويا إلي صدريهما ، بينما هي تندفع بخوفها نحو صغيرها .
هذا فقط ما تذكرته نور العيون ، وما تذكره .
لأنها كانت لحظة خاطفة ، انسلَّت فيها الحياة كما تنسل شعرة من عجين لدن .حين عبر الصغير غير مبالٍ بلحظات قبل عبور القطار ، لتندفع أمه بحملها الذي تجره وتحمله . ولأن نور العيون كانت قد سقطت علي الأرض مغشيا عليها ، ولم تشاهد لحظات منصور الأخيرة .

ليست هناك تعليقات: