يموج الشارع بكل ماصنع الله والبشر ، تتشابك الملامح وتلتحم وتختلط لكنها كدرة مأخوذة ذاهلة فى الأغلب الأعم ، شىء واحد يقتحم عليك دائرة الرؤية والتلقى . تلك الملامح والوجوه الناعمة وهى ترف بالأ نفة ولإاشراق لفتيات وفتية يروحون سراعا ويجبئون مهلا . فعند آخر الشارع تتجاور كليات ومدينة جامعية وملعب وسيع وحديقة . لا شىء يلهيك فى الشارع منفردا غير أن تفاجأ ، ومعيار المفاجأة مختلف باختلاف طبائع البشر ودرجات تقبلهم للأشياء واستقبالها ، فمرور سيارة مسرعة ولونها وعبارات مخطوطة على زجاجها الخلفى قد تسرق منك شرودك بينما صراخ وعويل نسوة وانتحاب رجال فوق الرصيف المواجه لمستشفيات بأول الشارع تثير فضولا أخر
لكن الذى لا فكاك منه رؤية ومسمعا .. شحاذون عجزة وأضراء، وكسالى أصحاء يسيتجدون، وباعة يجعرون ويتنادون فى خليط من ا صوات غير مهذبة فى مجملها
أمور هى ماتصنع مجالات الرؤية وأقانيم الحياة فى هذا الشارع الوسيع الطويل .. اللهم إلا ماكان لديك من عدة وعتاد لمواجهة أمر يجد ولا يقوى عليه الذى فى تجويف صدرك ، ولا يحتمله استيعابك الإ نسانى الضئيل ، ولما كنت مستغرقا بعينيك وأصابع يديك فى إحصاء نقودك من العملات الورقية فى مستقر آمن ، وأخرى معدنية فى صندوق خشبى صغير بجوارها ، بينما أذناك تلتقطان مايرغب به المبتاعون منك وهم كثر يتحلقون حولك ، وأنت على مقعد مرتفع داخل تجويف طاولة خشبية مرتفعة ، ممرضات وعاملات نظافة وأطباء وفتيات بملابس أنيقة وريفيون وجامعيون وبشر متنوعى السحنات مابين مكدورة وناعمة ، تطفح بهجة ، وبآثار العيش الهانىء ، وجهمة عابسة ، ومتفتحة الاسارير . ويقتحم عليك زحمة المشاعر والمرئيات وجه صبى مكدود
. حاد النظرات من عينين ضيقتين ، والشعر فى رأسة خشن وقميصه الأحمر الزاهى يستر عرى جسدة النحيل ، وقدماه الصغيرتان الدقيقتان مشبوكتان فى محفة بلاستيكية زرقاء ، لم تشذ دهشتك من هذا القميص الأحمر الزاهى الذى يدخل فيه . فكل الأ لوان تطالعها حتما عيناك ، ولم يخامرك شك فى أنه سعى إليك مبتاعا طعاما لنفسه أو لمرسل له من قريب أو بعيد ، فغالبية من يأتونك لغرض كهذا فقط ، والمتسولون وأصحاب الحاجات حفظت ملامحهم ، وخبروا فيك ملاحة اللقيا وسخاء العطاء . لذا فهم ينظرون إليك نظرة صاحب حق ، ويمضون مسرعين بعد قضائه . أما هذا الذى يرسل نظراتة إليك من بين الأجساد والرؤوس نظرات جامدة محيرة ، وأنت تخطفإاليه بين لحظه وأخرى نظرة متسائلة ، تنصرف بعدها مسرعا إلى تلبية رغبات الآخرين الذين يتتابعون حوله ، وهو على حاله مايزال ، لم ينبس ببنت شقة ، وما أن هممت بسؤاله حتى هم بتحريك رأسه نحوك بادئا حديثة وكأنه كان يترقب هذا الهدوء .
- تشترى الراديو ده .
با غتك حديثه ، وشغلتك ثقة فى صوته ، ولما كنت حاضر الذهن والاستجابة ورد الفعل كعادتك دوما ، طلعت رغبتك فى اكتشاف ما يحمل ، لكنه أوقعك فى توتر لا حظه عليك حين تابع قبل ان تجيبه .
- لكن قل لى الاول . عندك سندوتشات ؟ وبكام ؟ فتح لك بابا تهرب من حيرتك خلاله ، ولأنك أيضا قدرت الأمر أن هذا الصبى المشعت سيصرفك عن متابعة الحركة الدائبة داخل مطعمك وتهافت المتعاملين عليه فقررت أن تجيبه عن الأسعار صارفا أمر الراديو وفضولك فى معرفة سره فقلت له
- عندنا الواحد بجنية ، وفيه باتنين ، وبأكثر من كده لو عايز .
- طيب تشترى الراديو بكام؟ أعادك لفضول يخامرك منذ اقتحامه الزحام عليك معرفة سره .
- بكام تبيع انت ؟ ..قلت له
- بثلاثة جنيهات .قال لك
- لكن اشتريته بكام؟ أعدت عليه سؤالا آخر فأجابك بنفس الثقة ونظراته من عينيه ماتزال على ثباتها
- بثلاثة جنيهات .قال لك
- يبقى لازم جديد لسه .قلت له محاولا لم دائرة الحديث ، كى تتفرغ لعد نقودك التى ينقدك إياها الخارجون من المطعم ، فانتظر هو بلا قلق حتى تفرغ ، وابتلعت ريقك الذى جرى فى حلقك ، وتاقت نفسك لاستكمال حواركما لأن اشياء اقتحمت عليك ذاكرتك .- وعاوز تبيعه ليه ؟ تساءلت فارشا بساط طمأنية أمامه ، لكنه أيضا وبنفس هدوئه الذي لم يهتز قال لك
علشان أتغدى.كانت إجابتة هى لحظة الافاقة الكاملة لذاكرتك التى جرت سنوات كثيرة مضت ، برقت فى عينيك سريعا وفى ضميرك ، سنوات أولى من عمرك أنت وأخويك ، طوت أمك فيها شغاف قلبها عليكم تحميكم من العوز ، واخوكم الاكبر الذى شب فى المكابدة معها واختصر من عمر أحلامال كثيرا كى تنهض وأخوك الاصغر وتحققا حلمه وحلمها ، اكتفى بمرحله متوسطة من التعليم كى يوفر لكم أود الايام ، تذكرت حالك صغيرا بلا مصروف يومي كأقرانك طوال أيام المدرسة وسروال وحيد وقميص مثله ، وكنت تتبادل وشقيقك الأصغر حذاء توفره أمك لكما لمناسبات هامة ، وتذكرت دخول الأعياد وذلة النفس وقهر االرروح يحتوى أمكم لأن( العين العين بصيرة واليد قصيرة) ، لكنها عودتكم على عقة النفس والقناعة والعمى عن ما فى أيدى الناس .
نفضت رأسك لتلقاة شاخصا فيك ، يتامل سمت الحزن على ملامحك وبسمتك التى خطفتها على زوايا فمك كى يبعد نظراته عنك .
- قلت ايه ؟ قال لك ، ومايزال على جمود ملامحه .
- انا موافق . لكن بشرط . قلت له كى تباعد بين حيرتك وبين نظراته .
- هتشترى الراديو ، وتبيع لى سندوتش بشروط ؟قال لك .
- لا . ها اعطيك اتنين سندوتش ، وترجع ثمنهم لما يبقى معاك فلوس ، وبلاش تبيع الراديو
.لم تكن تمشى بخلدك رغبة فى أن يرد لك ثمن طعامه الذى تقدمه ، لكنك ، وإشفاقاعلى حاله ، وإعجابا بإصراره، وهربا من ملامحه التى تسيطر عليك الان ، جادة صلبة، وبين إحجام منه وإصرار منك رضخ لرايك فى الأخير شغفا برنة الأسى فى صوتك ، وماء الحنين الذى يقطر من عينيك
- ماشى .قال لك ، طافحا وجهه ببشروسعادة لكونه جائعا بالفعل، ويتعجل قتل جوعه الذى يعذبه، ولم يستطع إخفاء شراسته ، فأشرت على واحد من عمالك أن يجهز له رغيفين كاملين باللحم والخصروات ،جلس على كرسى امام طاولة غير بعيدة عنك يلتهم طعامه بتلذذ واستغراق، بينما انت قد انشغلت عن امره تماما ، ونفضت عن ذهنك ماكان بينكما من حديث حتى أنك لم تلحظ فراغه وانصرافه، وإن كان قد رفع لك كفه الصغيرة شاكرا فضلك وكرمك ، ولما هدأ ضجيج الزبائن ورواد المطعم لمحته من جديد يتجاذب أطراف حديث مع واحد من عمال مطعمك يقف أمام مشواة الدجاج لصق باب المطعم، ورأيته بوضوح كامل يدفع بالراديو الصغير الذى سبق وعرض بيعه عليك ، ويتناول منه جنيهات ورقية وانخلع شىء فى صدرك لما اتاك منفتح الأسارير، منشرح الصدر، وهو يمد يده لك مصافحا برجولة مبكرة ، وشادا على كفك بحرارة سرت فى كل أوصالك ، ولما ألقى أمامك بحنو وامتنان جنيهين منهما قائلا :
كتر خيرك ياعم الحاج ، ولما ربنا يفرجها هأشترى غيره ،وآهو يبقى معايا لوقت عوزة زى دى برده .قال لك باطمئنان راسخ، ونظراته صارت أكثر صفاءا وهو ينصرف محييا ، وأنت لم تستطع أن ترفع له يدا أو ترد تحيته بأقل منها0
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق