ما أجمل الأنا لك يابغداد

ما أجمل الأنا لك يابغداد

الجمعة، 22 يونيو 2007






احتماء العرى


لم يكن بالأمر المعتاد حدوثه، أن يصلى شوقى أبو سلاح كل فروض صلواته بالمسجد ، ولكن ، وقد صارت زاوية جديدة ملتصقة بداره ، فقد استنكف أن يباغته العابرون وهو مربع الساقين فوق كليم من الصوف الخشن بفراندة الطابق الأرضى لداره ذات الثلاثة طوابق ، والمفتوح بابها على الشارع. المنشغل طوال الساعات بحركة العابرين ، ولما لم يكفه الباب الصغير على مدخل الفراندة من تلصص المارة ،أو كان بمقدوره إخفاء رائحة معسل عماشة الفواحة ، وهى تتصاعد أغلب ساعات النهار والليل من جوزته النحاسية الدائمة الالتماع ، فقد قرر أن يشغل وقته ، وأن يناور القلق الذى صار يلازمه . بعد تقاعده من الخدمة فى شرطة المرافق التى بلغت أكثر من أربعين سنة ، وكان خلف هذين الدافعين حافز آخر ، وهو مطاردات زوجته الدائمة وتقريعاتها التى لاتتوقف له بهجره حجرتهما طوال ليالى الصيف ونومه بالبلكونة متعلِّلا بحرارة الداخل ، ولما انتهى أمرها معه بالتقتير فى منحه كل صباح ثمن باكو المعسل ، ولم ينفعه سباب الأيام التى ينطوى فيها رجل تحت إمْرة امرأة ، أ ومن يُسلِم قياده لإمرأة حتى وإن كانت الملكة بلقيس ملكة سبأ ، وقد يكون هذا الأمر هو الأكثر إلحاحا عليه كى يقضى معظم ساعاته بالزاوية الجديدة ، التى بناها على نفقته الحاج منعم أمين الشونة الرئيسية بالزقازيق وقد عاد إلى مسقط رأسه بعد إحالته ألى المعاش ، و زار بيت الله الحرام . وبصحبته الحاجة سميحة زوجته ثلاث حجات متواليات ، ولأنهما بلا ولد من صلبه ومن حمل بطنها، فقد ارتضيا أن يسكنا شقة صغيرة تعلو الزاوية و فوقها مثلها وهباها لابنتهما المتبناة تشغلها وعيالها وزوجها حين يأتون لزيارتهم كل جمعة من أسبوع ، ولأن الجوار استلزم استعادة ذكريات له مع شوقى أبوسلاح فى طفولتهما والصبا بالبلد ، وقبل أن يستقر المقام بالحاج منعم بمساكن البنك الذى يُسأل عن شونة الغلال بالزقا زيق ، وبعدما حملت زوابع الدنيا شوقى من بلد إلى بلد ،ومن مدينة إلى أخرى، بعد التحاقه بسلك الشرطة قبل أربعين سنة وربما يزيد ، فقد أفرط شوقى ، بعد ترسيخ علاقتهما ، فى الشكوى من زوجته وتسلُّطها وضيق صدره منها ومن فعالها ، ولما اقترح عليه الحاج منعم تدبير أمور الزاوية من نظافة الفٌرٌش والمحراب ودورة المياه الصغيرة والمراحيض ذات الخمس فتحات ، أ شرقت الخاطرة فى رأس شوقى علىالتوِّ ، وأبدى امتنانا كبيرا لجاره
*******
قرر شوقى فى هذه الظهيرة . بعد فراغ الصفوف الثلاثة من صلاة الجمعة الثانية من شهر رمضان بالزاوية ، أن يفاتح الحاج منعم بتقديم موعد تسلمه أجره الشهرى الذى ارتضياه ، ولأن حصيلة الصندوق الخشبى المربَّع التى تم حصرها بينهما بعد صلاة هذه الجمعة ، كانت وفيرة ، مما أثلج الأمر صدريهما ، كل لحاجة فى نفسه ، فالحاج منعم، وبما تجمع بالصندوق فى الشهور الماضية ، سيقدر على إصلاح الحنفيات واستبدال الحٌصٌر البالية بموكيت أخضر يحلم به وقبيل العيد الذى يقترب ، وشوقى سيستطيع شراء لفافة المعسل ( القص ) التى وعده بها محمد قش تاجر المعسل الجوَّال على دراجة صدئة ، وهو نوع تذوقه واستحسنه وارتاح لثمنه الأرخص من البواكى التى يبيعها أولاد على أبو شعيشع ، ولكن عشرة جنيهات قدر لا يستهان به من جهة زوجته ، فلو علمت بالأمر ستزداد شراستها ، وسينمو توبيخها وتقريعها له بدمه البارد وبلاهته ، وأنه لم يتحمل ولم يستطع تحمل مسؤلية فى الدنيا يوما ما كالرجال ، وأنه لولاها ، ورجاحة عقلها ، وحسن تدبيرها ، لما تزوجت البنات زيجات تليق ، ولما وافقت أنسب العائلات مصاهرته فى أولاده الذكور ، ولمَّا كانت ترتسم على جانبى فمه شبه ابتسامة يلوح بها ملمح سخرية ، كان هياجها يشتد عليه، لحد أن تهٌم بالإطباق فى خناقه ، لذا كان عليه أن يستأمن الحاج منعم على سره بشراء لفافة المعسل ( القص ) كاملة . تكفيه شهرا أو شهرين ، ويكون فى مأمن من استثارة الزوجة الحانقة دوما ، وكأن لاصلة له بما تنفقه وعيالها ، وكأنه ليس مصدر إعالتهم الوحيد من معاش تقاعده ، ومحرم عليه الانتفاع منه وإن بباكو المعسل
لمَّا هدأ الضجيج بالشارع ، وارتاحت الرأس قليلا من مكبر الصوت الذى لم يتوقف صفيره منذ بدء تلاوة القرآن الذى يسبق صلاة الجمعة ، وكانت تلك هى اللحظات المتفق عليها مع محمد قش ، وعلى باب الزاوية ، وهو يمرق بدراجته الصدئة من غير توقف ، كى لاتلحظ زوجته شيئا يتم بينهما ، وعلى صدره استقبل اللفافة كطفل،وتحسسها ، وقلبها ممتنا ومغتبطا بين يديه، وسرعان ما د سَّها فى سيالته المستطيلة ، واستدار يوارب الباب خلفه ممنيا النفس بساعة نوم فى حضن المحراب الصغير حتى موعد صلاة العصركعادته .
******
قدَّر أمورا كثيرة ، كان أيسرها . أن يٌقسِّم لفافة المعسل ، ويوزِّعها على علب صغيرة يحوز كثيرا منها ، وفى ذلك مأمن من سطو إبنه الأوسط المٌعلَّق شغفا بالجوزة مثله، وهاهى ساعة من هدوء ، ينقطع فيها القلة من المصلين ، وبخاصة بهذا اليوم عن الذهاب إلى الزاوية ، غالبت الفكرة رغبته النوم بحضن المحراب ، فاستقام من جديد واهتدى رأيه مع نفسه المتوجِّسة . إلى الفتحةالوسطى بين خمس فتحات من المراحيض ، وهى التى يعتنى بنظافتها أكثر ، ويغلقها من الخارج بغالب الأوقات ، ففيها يسهل عليه بسط لفافة المعسل على ورقة من صحيفة قديمة ، تأكد من خلوِّها من آيات كريمات وإسم الله العلى ، وقد أنهى مهمته وهو جالس القرفصاء فى ضيق المرحاض بكامل هيئته كالمتغوط ، ولما همَّ منتصبا للخروج ، وهو يضع العلبتين اللتين اقتسم فيهما لفافة المعسل بسيالته ، فلتت إحداهما من بين أصابعه الزلجة ، حاول عبثا التقاطها ، لكنها مع فزعة صدره الشهقة وروحه المنفثئة . كانت قد سقطت بفتحة التغوط فى المرحاض
****
تأخرت صلاة العصر جماعة كثيرا بزاوية الحاج منعم هذا النهار الرمضانى برغم امتلائها عن آخرها بالناس ، يثرثرون ويتشاورون ، يدخلون ويخرجون وكأنهم يرقبون دفن أحد موتاهم ، ولمَّا ارتفع صراخ ملتاع من الداخل ، صرخ واحد من حشد مترقب بالشارع ، وشوَّح فى الوجوه : (( إنتوا هتسيبوا الراجل لما إيده تتقطع ؟ كسَّروا القاعدة وريَّحوه ، وخلَّصونا 0 الدنيا صيام )) .
كانوا بالفعل قد استقر الرأى فى مابينهم بباحة الزاوية . أن لا مفر من تحطيم قاعدة المرحاض لأن ساعد شوقى أبو سلاح المحشورة بفتحتها قد تورَّم نصفها الساقط بها . الأصابع وظاهر الكف والرسغ ، لمكابدته انتزاعهاوهويحاول التقاط العلبة الصغيرة التى كان قد فرغ من قسمة لفافة المعسل بها وبأخرى تتداولها الأيدى والألسنة الآن ، وكان هو مايزال باركا على ركبتيه ، صدره يكاد يلاصق أرض المرحاض ، ورأسه مدفونة بين ركبتيه المثنيتين ، يصرخ ، مٌطلِقا شحنات من ألم وخجل ، ويقبض ويبسط أصابع يده الطليقة فى وجوه من وقع الأمر فى أيديهم . لضيق المرحاض حوله ، واقتراب ساعة الإفطار .

ليست هناك تعليقات: