ما أجمل الأنا لك يابغداد

ما أجمل الأنا لك يابغداد

الخميس، 21 يونيو 2007







من الحبّ ما قتل


هل تتخيّلون أن تعثروا على "دون كيشوت" لأول مرة؟

أن تتناولوا الكتاب من دون معرفة الكاتب أو السماع عنه؟

أن تغوصوا على هوى المصادفات في كل صفحة من صفحاته؟

وأن تظلوا منوّمين مغنطيسيا مع كل مغامرة من مغامراته أو كل حوار من حواراته؟

هذا بات الآن مستحيلا.

لقد خسرنا جزءا كبيرا من متعة هذا الاكتشاف، وسوف اقول لكم لماذا.
نحن نعرف أن "دون كيشوت" رواية كلاسيكية، نعرف أنها رواية كبرى وأن منها تشتقّ كل الأعمال الروائية الحديثة، وكتّاب العالم أجمع يعتبرون شخصيتي دون كيشوت وسانشو بانثا أسطورة أساسية من أساطير حياتنا.

لكن هذا النجاح وهذا الإسهاب الطويل صارا ضد "دون كيشوت".

سمعة الكتاب تزن مثل الحجارة، وتشدّ به تاليا الى اسفل.

إن التبجيل الذي يرفعه معظم الناس لهذا الكتاب، يجعلنا نشعر كما لو أنه من المفروض حفظه داخل واجهة زجاجية والتفرّج عليه فحسب.

الطلاب المجبرون على قراءته يفعلون ذلك بصورة ناقصة ومشوهة وإجبارية، ويدرسونه لكي ينجحوا في الامتحان بدل ان ينهلوا منه لمتعة القراءة.

ليس صعبا الوقوع في غرام "دون كيشوت"، ولكن لم يعد أحد يفعل ذلك لفرط ما صار حبّه "واجباً"، لفرط ما صار في كل مكان الى حد إثارة التخمة بدل الاهتمام.

هل تعرفون قصة "الرسالة المسروقة"؟

في هذه القصة، الكل يبحث باجتهاد عن رسالة ما، لكن لا أحد يعثر عليها رغم أنها كانت موضوعة في شكل واضح على المكتب: لأنها كانت أمام الجميع لم يرها أحد. وهذا ما يحدث مع "دون كيشوت".

بات الكل يستطيع الحصول عليه، في المنازل، في المكتبات، في الانترنت، في الشوارع، على التلفزيونات، في المتاحف، ... الخ.

ولكن لا أحد تقريبا ينتبه اليه، ينتبه اليه حقا ويميز روعته وغناه وجماله
مع هذا، ورغم كل ما قيل، فإن كتاب "دون كيشوت" يحظى بمجموعة من المخلصين الذين يعبدونه، وهم أناس معتادون على قراءته وعلى العودة اليه بين حين وآخر. يعودون لا لأن الكتاب يتغير، ولكن لأن القارئ لا مفر أن يكتشف في كل مرة أشياء جديدة تمنحها إياه خصوبة "دون كيشوت".

وهي رواية أساسية لعدد لا يحصى من الكتّاب: من بورخيس الى ماركيز، من موتيس الى يوسا، من روخاس الى فوينتس، وسواهم كثر من خارج العالم الاسبانوفوني ايضا. ولكن، لنتأبط شجاعتنا ونسأل: أين يعيش اليوم دون كيشوت هذا؟ بالنسبة إليّ هو لا يعيش حتى في الخيال، فالخيال البشري نفسه خضع لمنطق الواقع وبات لا يجرؤ على الحلم بأكثر مما يعرف أنه سينال. أين دون كيشوت واين سانشو بانشا واين دولثينيا واين أمثالهم من الحالمين الكبار؟ أنظروا حولكم، اتحداكم أن تجدوا نماذج كهذه في عصرنا. لقد مات دون كيشوت ودفن منذ زمن، ولم يبق منه ومن رموزه سوى طواحين الهواء التي سنظل نحاربها بلا هوادة وسنظل نخسر بلا هوادة جيلا وراء جيل وراء جيل، حتى الفناء. تصوروا ان ثمة في اسبانيا مربيات "دون كيشوت" ومناديل "سانشو بانثا" وأجبان "دولثينيا"! هل ثمة مثال أوضح على الاستهلاكية المذلّة والمادية الدنيئة اللتين وقعنا في افخاخهما؟ إعلان، العالم كله إعلان كبير: حتى دون كيشوت صار أداة دعائية لبيع المنتجات، فهل أفظع من مصير كهذا؟
عود على بدء: نأمل أن يتراجع مدّ "دون كيشوت" في عالمنا ، نأمل أن يعطى لنا أن نكتشفه من جديد، أدبا وقيما وأفكارا، من دون ان يمرّغوا اسمه باستمرار تحت أنوفنا في مستويات ما تحت ارضية.
حقا قد صحّ في هذا الفارس المثل القائل: ومن الحب ما قتل!
امر الكاهن الخادمة بأن تلقي بالكتب جميعها الى النار في الخارج.

وبينما كانت الخادمة تحمل حزما منها سقط كتاب، فصاح القسيس قائلا: "انه تيران الابيض، يا له من كتاب يحمل البهجة والمسرة الى كل قلب!".

+ثم شرع يعدّد ما فيه من مزايا لن يراها قارىء في كتاب آخر، على الرغم مما فيه من سخف وترّهات لم يكن المؤلِّف مضطراً اليها. ثم ارسل كتباً اخرى الى النار، ومنها بعض كتب الشعر، ومن خشيته واصحابه ان يتعلق النبيل كيخانا بالشعر، وداء الشعر ليس بأسهل من داء الفروسية، ولكنه وقع على كتابين بعنوان "ديانا" فأرسل الاول الى النار، وأما الثاني فقد احتفظ به، وقال: "ان مؤلفه خيل بولو"

ولعمري كأن أبولّو نفسه قد وضعه، فأبعدوه عن الاعدام"

. فأبعدوه.

ليست هناك تعليقات: